2015/01/04

أهي طبقية ثقافية ؟!

د. حسناء عبدالعزيز القنيعير
    اللغة وطن الأمة الروحي، وخزانة تراثها الفكري، ووعاء ثقافتها وآدابها وعلومها، وحاملة هويتها وشعائرها ماضياًَ وحاضراً ومستقبلاً . ولهذا تحرص الأمم على سلامة لغتها حرصها على ذاتها ، وتتمسك بها تمسكها بحقيقتها ، وتدافع عنها دفاعها عن حماها .
إن الباحث والكاتب في أي موضوع ينبغي له إدراك ما يكتب عنه وما يبحث فيه إدراكاً شاملاً متأنياً غير متسرع ، بتحديد ما يتصل به من معلومات وحقائق وعما يطرح فيه من أفكار ، معملاً فيها فكره مقلباً رأيه باذلاً جهده ، متبصراً في حلها باعتماده على المصادر المعرفية والقيمية .

لفت نظري المقال الذي كتبه الكاتب عبدالله بن بخيت في هذه الجريدة بعنوان :( في أي الأزمنة نعيش ) ! معترضاً فيه على ( إصرار ) المصححين اللغويين على كلمة ( تلفاز بدلا من تليفزيون ) ومع احترامي لوجهة نظر الكاتب ، إلا أن ما كتبه استوقفني كثيراً ؛ إذ فيه مفاهيم لا يمكن أن يتجاوزها القارئ المختص ، ومما أراه جديرا بالتعليق :
1 – قوله إن كلمة تلفاز ( مجرد تحوير لكلمة هي في الأصل أجنبية ) ويقصد تليفزيون . وهذا غير صحيح ؛ إذ ما في كلمة تلفاز ليس تحويرا ، بل هي كلمة معربة تعريبا صرفيا على وزن من أوزان العربية وهو وزن ( تفعال ) بكسر التاء ، وهذا الصنيع يدخل في باب الاقتراض اللغوي الذي هو عملية تلاقح تحدث بين اللغات في كل العصور في مستوى الألفاظ ، أي كل ما تقترضه لغة من لغة في محاولة لسد الفراغات المعجمية الموجودة في معاجمها العامة أو المختصة ، وقد اقترضت اللغة العربية طوال تاريخها كثيراً من الألفاظ الأعجمية نتيجة لاحتكاك العرب بغيرهم من الأمم ، واقتضى ذلك الاحتكاك جريان الألفاظ الأعجمية على ألسنة الناطقين قبل شروع اللغويين في دراستها ووصفها ، فالعرب تكلموا بتلك الألفاظ كما سمعوها، وكما سمحت لهم قدرتهم على نطقها ، فكان أن انحرفت ألسنتهم عند التلفظ ببعض الأصوات التي لا مقابل لها في العربية ؛ لتكون أكثر انسجاماً مع الأنظمة الصوتية العربية ، فالألسنة تُمرّن على إجراء الأصوات بترتيب يتكرر ثم يطّرد فيصبح عادة ، وكلُ دخيل على العادات النطقية يتحول تلقائياً إلى ما يناسب القوانين الصوتية للغة تحقيقاً للانسجام الصوتي.
فالكلمة الأعجمية لكي تجدَ قبولاً في البيئة العربية، لا بدّ أن تخضع أصواتها التي لا مثيل لها في الأصوات العربية للإبدال وهو يتم بأقرب الأصوات العربية إليها مخرجاً ، يشير إلى هذا سيبويه بقوله: " إنهم مما يغيرون من الحروف الأعجمية ما ليس من حروفهم ألبتة ".
لقد دخلت العربية كثير من الألفاظ الأعجمية إبان عصور الاحتجاج ، وتكلم بها العرب الفصحاء رغم بقائها على وزنها الأعجمي ، ولم يؤثر ذلك في درجة قبولها ، وذلك مثل : خراسان وآجر وإسماعيل وفرند وإهليلج وشطرنج . كما استوعبها القرآن الكريم مثل : أباريق وسجيل واستبرق وأرائك وسندس وزنجبيل وكافور ومشكاة وصراط وغير ذلك ، وهو ما اصطلحوا على تسميته قديماً وحديثاً بالمعرب والدخيل .
وتكاد تجمع كثير من المصادر القديمة على أنّ التعريب يعني إجراء تغيير في الألفاظ الأعجمية على نحو يجعلها أكثر انسجاماً مع صيغ العربية في المستويين الصرفي والصوتي. يقول الجوهري في الصحاح: " تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على مناهجها، تقول عربته العرب وأعربته أيضاً ". بمعنى أن تعامل الكلمة الأجنبية وكأنها كلمة عربية ، فيشتقّ منها حسب كل المقولات الصرفية المعروفة ، ولهذا فإن كلمة( صراط )إغريقية :
Strata
بمعنى طريق ، ومنها جاءت كلمة شارع في الإنجليزية الحديثة :
Street
هذه الكلمة أنزلت صرفياً على وزن ( فعال ) بكسر الفاء ، ثم غُيرت أصواتها بأقرب الأصوات العربية إليها مخرجا تحقيقا للانسجام الصوتي ، ولهذا عُدت كلمة ( صراط ) من الكلمات المعربة ، كما وردت في الشعر القديم كلمة قميص على وزن ( فعيل ) بفتح الفاء ، وهي من الإغريقية لكنها صارت معربة :
kamision
وغير ذلك كثير مما دخل العربية من لغات متعددة وأفردت له مؤلفات كثيرة .غير أن بعض الكلمات الأعجمية استعصت على التعريب فظلت دخيلة لأنها احتفظت بصورتها التركيبية في لغتها الأصلية ، منها كلمات دخلت العربية قبل الإسلام وبعده ، خصوصا عندما ازدهرت حركة الترجمة ؛ إذ اتجه المسلمون إلى ميادين العلم منذ القرن الأول الهجري ، وحتى السادس نقلا وترجمة وتأليفا ؛ فلقد قامت الدولة الإسلامية بعد استقرارها بحركة ترجمة واسعة ومنظمة ، بدأت في العصر الأموي بفضل خالد بن يزيد ، واستمرت حتى العصر العباسي بديوان الترجمة الذي أنشأه المنصور ووسعه الرشيد ، ثم المأمون الذي أنشأ بيت الحكمة ، فكان بمثابة مجمع علمي ومرصد فلكي ودار ترجمة ومكتبة عامة . وجرت الترجمة من لغات عدة تولاها مسلمون وغير مسلمين من ثنائيي اللغة . وكانت الثقافة اليونانية على وجه الخصوص النبع الذي اغترف منه العرب ، فقد ترجموا كتب الفلسفة والرياضيات والطب والفلك. ومن ألمع المترجمين في ذلك الوقت حنين بن إسحق العبادي ، وابنه اسحق بن حنين، ويوحنا بن ماسويه ، وجرجيس بن بختيشوع .
ولقد طرحت حركة الترجمة ونقل العلوم في ذلك العهد قضية تطويع العربية لذلك ، فلقد كان عليهم أن يستوعبوا معارف علمية جديدة كل الجدة ، وكان عليهم أيضاً أن يؤدوها بلغة سليمة واضحة خصوصاً في الميادين العلمية البحتة ، فكثرة كاثرة من الألفاظ في تلك العلوم ليس لها مقابل في العربية ، وكانت اللغة العربية بالنسبة لأولئك النقلة وسيلة لنقل العلوم لاسيما أنها لغة حية ومتطورة تتلاءم مع الظروف والحاجات المستحدثة. ولا أدل على حيويتها من اعتمادها على رصيد غيرها من اللغات عندما تدعو الضرورة ، فالتأثر والتأثير شأن كل اللغات الحية ، ولا يمكن للغة مهما بلغ ثراؤها أن تكون بمنأى عنه ؛ لذلك فقد اعتمد النقلة الأوائل على الاقتراض من اللغات المختلفة ، أبقوا بعضه في صورة الدخيل ، والبعض الآخر طوعوه لأبنية العربية تعريبا ، ساعد على ذلك طواعية العربية واتساع مناهجها الاشتقاقية ، فازدادت اللغة ثراء ونمت بنمو العلوم الجديدة . ومن المصطلحات الدخيلة التي استعملوها، الاسطرونوميا وهو علم النجوم، والجيومطريا وهو علم الهندسة والأرتماطيقا وهو علم الحساب ، وفيزيقا وهو علم الطبيعة ، وباري أرمينياس وهو كتاب العبارة ، و أنطولوقيا وهو كتاب القياس ، و سوفسطيقي ومعناه التحكم ، و ريطوريقي ومعناه الخطابة ، و بيوطيقي ومعناه الشِّعْر. فعندما استعصى عليهم العربي البديل لم يجدوا غضاضة في استعمال اللفظ الأجنبي معربا أو دخيلا في بادئ الأمر . حتى استقرت المفاهيم فيما بعد ومن ثم وضعت المقابلات التي نعرفها اليوم .
وما يصدق على تلك الكلمات في ذلك الزمن ، يصدق على كل الكلمات المستحدثة التي جاءتنا مع المنتجات العصرية ، فبما أننا نستورد السلعة فإنها تأتينا حاملة اسمها معها ، فتنظر اللغة في رصيدها من الألفاظ محاولة إيجاد المقابل الذي يعبر عن الوافد الجديد إما حقيقة أو مجازا، ولهذا تُرجمت كثير من ألفاظ الحضارة بمقابلاتها ، كالمذياع مع رواج الدخيل (راديو) ، والطائرة والسيارة والقطار ، والهاتف إلى جانب التليفون ، والبرق والمصعد ، والحاسوب والحاسب الآلي إلى جانب الكمبيوتر ، والجّوال والمحمول إلى جانب الموبايل ، أما ما استعصى على الترجمة أو تُرجم بمقابل لم يلقَ رواجا ، فيبقى في صورته الدخيلة مثل ( اللابتوب والآي بود ) ، أو يعرّب ولهذا جاء ت كلمة تلفاز معربة على وزن تفعال وجرى الاشتقاق منها على وزن ( فَعللة )( تَلفزة ) و(مُفعْلِل ) ( مُتلفز) بفتح الفاء وكسرها تعبيرا عن اسم المفعول واسم الفاعل ، وبهذا فقدت تلفاز صلتها بلغتها الأصلية ، ولو سمعها أجنبي فلن يفهم أنها نعني تليفزيون التي بقيت دخيلة في مستوى بنيتها فلم يحدث لها تغيير . وأما مقابلها المترجم ( الرائي ) فقد مات في مهده .
2- قوله ( إن الثقافة العربية قائمة على مخالفة لغة الشارع ) وما ذلك إلا لأن الشارع يطلق على ذلك الجهاز (تليفزيون ) التي لايعترف بها المصححون ؛ وذلك حسب الكاتب ( تكريس للطبقية الثقافية . نوع من الهيبة ، عدم السماح بالتشابه بين العلماء وبين الكتاب ، هذه الطبقية الثقافية موغلة في القدم ...) !
لقد اعترتني الدهشة مما قرأت ! إذ كيف يعدّ الكاتب استعمال كلمة دون أخرى " لأنها الأقرب للغة الفصحى باعتبارها معربة" طبقية ثقافية ؟ وليس حرصا من الصحف على الصفاء والنقاء اللغويين اللذين يليقان باللغة العربية وبالصحف التي تكتب بها ؟ وبغض النظر عن كلمة تلفاز أو تليفزيون أو ما شابههما ، فإني أتساءل : ماذا يبقى من اللغة إن نحن تسامحنا في أساليبها ومفرداتها لتكون في مستوى لغة الشارع ؟ وهل ينبغي للصحافة أن تنزل فيما يكتب فيها إلى لغة الشارع ؟ أي إلى اللغة المتداولة بين أهله ؟ وهل يفترض أن تنزل الصحيفة لغة ومحتوىً لمستوى رجل الشارع أم ترقى بهما ليرتفع هو إليها ؟ إنه مما لا يعيب اللغة ولا أهلها ولا كتابها ولا مبدعوها ولا أوعية ثقافتها المختلفة أن ترقى بنفسها وأن تنأى بأساليبها عن الابتذال اللغوي ، أما الطبقية الثقافية فهي موجودة ولا يمكن محوها ، ولعل القرآن الكريم أول من كرّس هذه الطبقية بآيات عديدة منها ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) أي لا يستويان كما لا يستوي العالم والجاهل كما جاء في تفسير الجلالين ، وذلك إعلاءً لشأن العلماء وأهل العلم والاختصاص ، والمفهوم عقلا ولغة ينطبق على كل من تعلم علما وتمرس فيه وصار بواسطته حجة ، وقوله تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ومفهوم أهل الذكر ينصرف عقلا ولغة إلى كل من تخصص في علم من العلوم وفن من الفنون ومهارة من المهارات ، وقوله ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) وهذا في الجنة ، وأما في الدنيا فلولا العلم والتخصص أو الطبقية الثقافية كما يسميها الكاتب لأصبح أساتذة الجامعة في مكان آخر غير الجامعة ، ولأصبح المهندسون باعة في المجمعات التجارية وقس على ذلك . فهل نلغي الطبقية الثقافية لتنتقل الجامعات إلى سوق الخضار مثلا ، وينتقل الحلاقون إلى المستشفيات بدلا من الأطباء ؟ ليس قولي هذا تقليلا من شأن المهن وأصحابها ، بل لأنّ كلا مهيأ لما خُلق له .
إن الإصرار على الصحة اللغوية سواء أكنت نحوية أم إملائية أم معجمية أم أسلوبية ، ليست نقصا ، بل هي سعي إلى الرقي بلغة الصحافة التي يستفزّ الكثيرين ما يشوبها من أخطاء في كل المستويات اللغوية .
3- يقول الكاتب ( ما يعرفه طالب في المرحة الثانوية اليوم أكثر وأنقى مما كان يعرفه الرازي وابن سينا وابن تيمية ) !!! وهذا القول فيه كثير من الاجتراء على علماء كان لهم من سعة الأفق والنبوغ والتفوق والصبر والفضل على البشرية ما لا يمكن وصفه ، فكثير منهم ألف من الكتب ما يعجز فريق ممن يتخصص اليوم في الحقل نفسه الذي برع فيه هؤلاء ، عن القيام بكل ما قام به أحدهم دون الاستعانة بتكنولوجيا العصر . فأبو بكر الرازي ألف عددا كبيرا من الكتب على رأسها كتاب الحاوي في خمسة وعشرين مجلدا في كل فروع الطب ، من وصف للأمراض وأعراضها وعلاجها وأدويتها وطبيعة تلك الأدوية وتركيبها وخواصها وأعراضها الجانبية ، بل والأدوات الطبية التي يستعين بها الطبيب في علاج المرضى، كما وضع في جزئه الأخير معجما طبيا شاملا لكل أسماء الأمراض والأدوية المعروفة في عصره وما سبقه ، وحنين بن إسحاق وضع مؤلفا كبيرا في طب العيون وتشريحها ، وابن سينا كان طبيبا وجراحا وفيلسوفا ومترجما وجيولوجيا ونباتيا عالما بالأدوية وخصائصها الغذائية والعلاجية، وضع مؤلفه الكبير القانون في الطب في عدة مجلدات كبيرة ، وابن رشد كان طبيبا وفيلسوفا ومترجما ولغويا وقد دشن بكتابه الكليات مرحلة جديدة في تاريخ التفكير العلمي في الطب ، وهذا التنوع في العطاء والتخصص يحسب لهم لا عليهم ، فكيف يفوقهم طالب الثانوية اليوم لمجرد أنه يتعامل مع برامج الكمبيوتر وغيرها من التقنيات التي لو أتيح لذلك الرعيل الأول واحد بالمائة منها لأتوا بالعجب . إن المسألة ليست في التكنولوجيا بل في العقول التي تتعامل معها ، فالتقنية إذا لم يصاحبها وعي وسعة إدراك لدورها في الفهم والعلم وتطوير الذات، تصبح عبئا على صاحبها بل على المجتمع والوطن بأسره ، ولا أظن أني بحاجة لأذكر كيف تستخدم تقنية الهواتف المصورة ومواقع الانترنت وغيرها من قبل بعض المرضى والمنحرفين فكريا ونفسيا للتعبير عن أمراضهم والتنفيس عن أحقادهم وعقدهم وممارسة شذوذهم وانحرافهم كما يحلو لهم ، مستغلين تلك التقنيات التي لو علم مخترعوها نوعية أولئك المستخدمين لأحجموا عن اختراعها . التقنية في أيدي هؤلاء كالسلاح في أيدي المجانين .
إن العرب في هذا العصر معنيون بنقل ألفاظ الحضارة الأجنبية إلى لغتهم ترجمة وتعريبا ، لتكون أداة طيعة في التعبير عن دقائق العلوم وآفاق التقنيات ، كي تعمّ الفائدة ويزداد ثراء اللغة، ويكون ذلك منطلقا لدخول مضمار التقدم ، بتعريب الحياة بنواحيها المختلفة ، لابد من ترقية العربية الصحيحة وإحلالها محل اللهجات والكلمات الأجنبية الهجينة ، في النطق والكتابة والتفكير والتعليم والمعاملات .

ليست هناك تعليقات: