2015/03/26

طرق شرح المعنى عند اللغويين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
طرق شرح المعنى عند اللغويين:
إن الناظر في كتب اللغة على اختلاف أنواعها، سواء أكانت رسائل لغوية أو كتبًا معنويةً من هذا الصنف المسمى بالمعاجم المبوبة أو الموضوعية، كـ(مبادئ اللغة) للإسكافي، و(فقه اللغة) للثعالبي، و(المخصص) لابن سيده... وغيرها. أو الناظر في غيرها من المعاجم اللفظية أو المسماة بالمجنسة، كـ(العين) للخليل من "مدرسة التقليبات الصوتية"، أو (الجمهرة) لابن دريد من "مدرسة التقليبات الهجائية"، أو (الصحاح) للجوهري، أو (اللسان) من "مدرسة القافية"، أو (المصباح المنير) وغيره من المعاجم التي تسير على نظام الهجائية العادية.
سيرى الناظر في كل ما ذكرته وغيره، أن المعنى وُضح فيها بطرق متنوعة، فقد يأتي التعريف بذكر المرادف فقط، وقد يأتي التعريف -أعني: تعريفَ اللفظ- بالمرادف المزدوج، وقد يأتي المرادف بأكثرَ من مزدوج -يعني: يأتي التعريف للفظ بالمزدوج، أو أكثر منه- وقد يأتي تعريف اللفظ بذكر نظيره، وقد يأتي التعريف بالوصف والتشبيه، وقد يأتي التعريف بعبارة مفصلة، وقد يأتي التعريف بعبارة مقتضبة موجزة، وقد يأتي التعريف بذكر المترادفات، أو بذكر معاني متعددة، وهو ما يسمى بالمشترك، وقد يأتي التعريف من خلال ذكر المتضاد، وقد يأتي التعريف أحيانًا بلفظ المعرَّب، وقد يأتي التعريف بذكر تعليل للتسمية.
أمور متعددة يستطيع قارئ أي كتاب لغوي معجمي أو غيره، أن يلحظ ما ذكرتُ.
ولك أن تتصفح بعضَ هذه المعاجم؛ لترى طرقًا متنوعةً سلكها اللغويون في توضيحهم لمعاني الألفاظ، فلو كان بين يديك (تهذيب اللغة) للأزهري، سترى الآتي؛ في باب: الخاء والنون -وأنت لستَ في حاجة الآن أن تعرف أن معجم (تهذيب اللغة) يسير وفقَ نظام الخليل، وينتمي إلى مدرسته، وهي "مدرسة تقليبات الصوتية"- لتجد تعريفًا للمخنة، يقول الأزهري في تقليب الخاء والنون -وهو بلا شك ينقل عن غيره، وتحديدًا عن ابن الأعرابي-: حيث قالوا: أخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي، قال: والمخَنَّة: وسطُ الدار، ثم قال: والمخَنَّة: الفِناء، والمخَنَّة: الحَرم، والمخَنَّة: مضيق الوادي، والمخَنَّة: مصبّ الماء من التَّلْعة إلى الوادي، والمَخَّنة: فُوَّهة الطريق، والمَخَنَّةُ: المحَجَّةُ البينة، والمَخَنَّة: طَرف الأنف.
أرأيت اللفظ واحد -وهو المخنة- وقد تعددت معانيه المعجمية -كما ترى- وفي هذا التعدد نوعٌ من التوضيح، فلو اقتصر على ذكر معنًى واحدٍ، فربما لا يتوافق مع المعنى المراد الكشف عنه.
فاستخدام ما يسمى بالمشترك اللفظي يُعَدُّ من طرق توضيح المعنى في كتب اللغة، وهذا الأمر منتشرٌ جدًّا في (تهذيب اللغة) وفي غيره من المعاجم العربية.
انتِقْل إلى باب: الخاء والفاء، وفي تقليب الخاء والفاء، يقول: "قال الليث: الخُفُّ خُفُّ البعير، وهو مَجْمع فِرْسِنِه. تقول العرب: هذا خُفُّ البعير، وهذه فِرسنهُ، والخُفُّ: ما يلبسه الإنسان. ورُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا سَبَق إلا في خُفَّ، أو نصلٍ، أو حافر))، فالخُفُّ: الإبل ها هنا، والحافر: الخَيْل، والنَّصل: السَّهم الذي يُرمَى به، ومجازه: لا سبق إلا في ذي خفٍّ، أو ذي حافر، أو ذي نصلٍ".
لاحظ أن الخف -وفق ما ذكره الأزهري- هو خف البعير، وهو ما يلبسه الإنسان، وهو الإبل أيضًا، وهو معنى مجازي مأخوذ من الحديث: ((لا سبقَ إلا في خف))، أي: في ذي خف، وذو الخف: هو البعير أو الإبل.
فتعدد المعاني يميز بعضها عن بعض، فإذا انتقلنا -مثلًا- إلى باب: الخاء والميم، تجد اللفظ يُعرَّف بالعبارة، وتتفاوت العبارة بين التوسط وبين القِصر والطول، فتجده -مثلًا- في تقليب الخاء والميم، يقول: "قال الليث: اللحم المُخِمُّ: الذي قد تغيرت ريحهُ، ولمّا يَفْسد فسادَ الجيف". فهذه عبارة متوسطة. ثم يقول: "قال: وإذا خَبُث ريحُ السِّقاء، فأفسد اللبن، قيل: أخَمَّ اللبن".
هذه عبارة أيضًا متوسطة.
قال: "وقال الليث: الخِمْامة: ريشة رديئة فاسدة تحت الريش".
عبارة أيضًا متوسطة.
ثم حينما ينقل عن أبي عبيد -عن الأصمعي- قوله: الخُمامة والقُمامة: الكُناسَة".
إذًا هذا تفسير بذكر المرادف، الخمامة: الكناسة.
ثم انظر إلى ما نقله عن ثعلب عن ابن الأعرابي: "خَمَّان النَّاس، ونُتَّاش الناس، وعوذ الناس: واحدٌ".
إذًا، هذا تعريف بذكر المترادفات، فخمان الناس، نتاش الناس، عَوذ الناس، كلها مترادفات. وانظر إلى العبارة الموجزة، حين قال -أيضًا ناقلًا عن ثعلب، عن ابن الأعرابي-: "والخَمُّ: البكاء الشديد، والخُمُّ: قفص الدُجَّاج، والخِمُّ: البُستان الفارغ، والخَمُّ: الثناء الطيب". وانظر إلى التوسط أيضًا في العبارة حين يقول: "والخَمُّ تغير رائحة القُرص إذا لم ينضج، الخَميِمُ: اللبن ساعة يُحلب". وانظر إلى التفسير بالمرادف حين قال: "والخَميمُ: الممدوح".
وهكذا تتعدد طرق التوضيح مرةً بالعبارة، ومرةً بذكر المرادف، ومرةً بتعدد هذا المرادف، ومرةً بالمشترك... إلى آخر كل هذا.
ثم انظر إلى قوله في تقليب الخاء والزاي والقاف، قال: "والخَزْقُ: ما يثبت، والخَرْق: ما ينفذُ". فهو يستعين على توضيح الخزق بالخَرْق: "االخَزْقُ: ما يثبت، والخَرق: ما ينفذُ".
إنه يهتم هنا بذكر الفروق بين ما يُظن أنه من المترادفات.
ثم انظر إلى العبارة التي يفصل بها المعنى، فيقول: "والمِخزق: عُود في طرفه مسمار محدد يكون عند بياع البُسر". وانظر إلى المترادفات حين قال -ناقلًا عن أبي عبيد، عن الأصمعي-: "ذرق الطائر وخذقَ ومَزق وزرق". إنه يفسر بذكر المترادفات، ثم يستعين على تفسير اللفظ أحيانًا بتعليل التسمية، فيقول: "قال الليث: خَرَقْت الثوب: إذا شققته، وخرقت الأرض: إذا قطعتها حتى بلغت أقصاها، ولذلك سُمِّي الثَّور مخراقًا". إذًا تسمية الثور بالمخراق من: خَرْق الأرض، يقال: خرقت الأرض إذا قطعتها حتى بلغت أقصاها. وكذلك يقول: "والخَريق -كل هذا ينقله عن الليث-: من أسماء الريح الباردة الشديدة الهُبُوب، كأنها خُرِقَتْ، أماتوا الفاعلَ بها".
وانظر إلى التفصيل أيضًا حين قال: "الخْرْقُ: الأرض البعيدة، مستويةً كانت أو غيرَ مستويةٍ، والخْرْق: البُعْد، كان فيه ماءٌ أو شجر أو أنيس، أو لم يكن".
فبجانب المشترك هنالك أيضًا توضيح وتفصيل.
وينقل عن أبي الهيثم قولَه: "الاخْتراقُ، والاخْتِلاق، والاخْتِراصُ، والافْتراءُ: واحد".
إنه تعريف بذكر المترادفات.
وينقل عن الليث -وقد علمت أنه حينما ينقل عن الليث، فإنما ينقل عن (العين) أقصد عين الخليل بن أحمد؛ لأن الأزهري يرى أن أساس كتاب (العين) إنما هو للخليل، والتفصيل والذي جاء من ألفاظٍ في كتابٍ، إنما هو من عمل الليث لا من عمل الخليل- مزيدًا من تسمية الثور مِخراقًا، فيقول: "والثَّور الوحشيُّ يسمى مِخْراقًا؛ لقطعه البلاد البعيدة". ويقول أيضًا: "والثور البريُّ يسمى مِخْراقًا؛ لأن الكلاب تطلبه فيُفْلت منها".
ثم ينقل عن أبي عبيد في الخاء واللام والقاف، عن أبي زيد أيضًا: "إنه لكريم الطبيعة والخليقة والسليقة"، بمعنى واحد بذكر المترادفات.
ثم يعقب الأزهري أيضًا بقوله: "قلت: ورأيت بذروة الصَّمَّان قلاتًا تمسك ماءَ السحاب في صَفَاة خلقها الله فيها، تسميها العرب: الخلائق، الواحدة: خَلِيقةٌ".
إذًا، هو يضيف أيضًا ما رآه بنفسه.
ثم انظر إلى تفسيره بالمرادف حين قال: "إنه لخليق بذاك"، أي: حري، ففسر الخليق بالحري، هذا يسمى تفسيرًا بالمرادف فقط.
والأمر نفسه تجده في ما ذكرتُ لك من معجمات، فلو تصفحت (لسان العرب) أيضًا ونظرت -على سبيل المثال- باب: الراء، فصل: الهمزة -وأنت لست في حاجة إلى أن أقول لك: إن (لسان العرب) ينتهي إلى "مدرسة القافية" إلى "مدرسة الجوهري"- ولو قرأت في هذا الباب تجده يفسر: الأسرة، والمأثرة، والمأثرة: بالمكرُمة، هذا تفسير بالمرادف، كما يفسر الأسرة: بالجدب والحال غير المرضية، فهذا تفسير بالمرادف المزدوج. كما نراه يفسر الأَزْل في باب اللام، فصل: الهمزة، بالضيق والشدة.
فهذا توضيح بالمرادف المزدوج.
وأحيانًا يفسره بالمرادف فقط، فيقول: والأَزْل: الحبس، كما نراه يقول: والإزْل: الكَذب، والإزل: الداهية، والأزَلَ -بالتحريك-: القدم.
وانظر تفسيره بالمرادف المزدوج، حين قال: والأَزْم -هذا في باب: الميم، فصل: الهمزة-: الجدب والمَحْل. وينقل عن ابن سيده: الأَزْمة: الشدة والقحط.
كل هذا تفسير بالمرادف المزدوج.
ثم انظر إلى قوله: والأوزام السنون الشدائد، كالبوازم. هذا تفسير بالوصف أو بالتشبيه، وهو لون أيضًا من ألوان التفسير.
وإذا انتقلتَ إلى باب: الميم، فصل: الخاء، فإنك تجده يفسر الخَطْم بقوله: قيل: الخطم من السبع بمنزلة الجحفلة من الفرس، إنه يوضح معنى اللفظ بذكر نظيره؛ الخطم من السبع بمنزلة الجحفلة من الفرس. ونراه يذكر مزيدًا من النظير عن ابن الأعرابي، فيقول: الخطم هو من السبع الخطم والخرطوم، ومن الخنزير: الفِنطيسة، ومن ذي الجناح غير الصائد: المِنقار، ومن الصائد: المَنْسِر.
هذا يسمى التفسير بالنظير.
وعند تفسيره للخرطوم، قال: والخراطيم للسباع بمنزلة المناقير للطير. هذا يسمى التفسير بالنظير.
إذًا، تتعدد طرق توضيح المعنى في كتب اللغة؛ مرةً بالمرادف، مرةً بالمرادف المزدوج، مرةً بمترادفات متعددة، مرةً بوصف وتشبيه، ومرةً بالنظير، مراتٍ عديدةً بالمشترك، والمتضاد، وبتعليل للتسمية.
وللمزيد من توضيح ما قلت تصفح (المصباح المنير في غريب الشرح الكبير) للرافعي، وهو من تأليف العالم أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، المتوفى سنة سبعين وسبعمائة من الهجرة، تجد هذه الطرق أو بعضَها لا يخلو منه (المصباح). انظر مثلًا إلى تعريفه للساج نقلًا عن الزمخشري، قال الفيومي: قال الزمخشري: الساج: خشب أسود رزين، يُجلب من الهند ولا تكاد الأرض تبليه. إنه يفسر اللفظ بعبارة طويلة توضح معناه. وعند تفسيره للشفة، يقول: الشفة: من الإنسان، والمشفر: من ذوي الخُف، والجَحْفلة: من ذي الحافر، والمَقمة: من ذي الظلف، والخطم والخرطوم: من السباع، والمِنسر والمَنسر -بفتح الميم أو كسرها، مع فتح السين في الحالين-: من ذي الجناح الصائد، والمِنقار: من غير الصائد، والفنطيسة: من الخنزير.
أرأيت إنه يذكر هذه المعاني في أثناء حديثه عن الشفة، إنه يوضح ما يسمى بذكر النظير.
و(المصباح المنير) ينتمي إلى "المدرسة الهجائية العادية" مدرسة الزمخشري في "أساسه"، أقصد (أساس البلاغة).
وانظر في باب: الألف مع التاء، وما يثلثهما، قال: يقال لمجتمع الطريق: مَيْتاء، مِيتاء، بوزن مِفعال، ولآخر الغاية التي ينتهي إليها جَرْي الفرس: ميتاء أيضًا. إنه تفسير بالمشترك. ثم حين قال: تأتَّى له الأمر: تسهَّل وتهيأ، إنه تفسير بالمرادف المزدوج. أتيته مالًا، أو آتيته: أعطيته، هذا تفسير بالمرادف. وانظر في باب: الهمزة مع الميم، يقول: أم الكتاب: اللوح المحفوظ، ويطلق على الفاتحة "أم الكتاب" و"أم القرآن"، هذا مترادفات، والأمة أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم- والجمع: أمم، مثل: غرفة وغُرف، وتطلق الأمة على عالم دهره، المنفرد بعلمه، والأمي في كلام العرب: الذي لا يُحسن الكتابة، فقيل نسبةً إلى الأمي؛ لأن الكتابة مكتسبة، فهو على ما ولدته أمه من الجهل بالكتابة، وقيل: نسبة إلى أمة العرب؛ لأنه كان أكثرهم أميين.
أرأيت إلى تعليل التسمية؟!.
ثم انظر إلى قوله: والإمام الخليفة، والإمام: العالم المقتدى به، والإمام: مَن يؤتم به في الصلاة، ويطلق على الذكر والأنثى.
وإذا انتقلت إلى معجم آخر (القاموس المحيط) للفيروزآبادي -وهو من "مدرسة القافية" أيضًا- تجده لا يخرج أيضًا عما قلناه بصدد طرق توضيح المعنى.
انظر -مثلًا- في باب: الدال، فصل: الفاء؛ فَأَدَ اللحمَ في النار: شواه، تفسير بذكر المرادف، ثم انظر إلى تفسيره الغادة في باب: الدال، فصل: الغين، حين قال: والغَادَة: المرأة الناعمة، اللينة البينة الغَيَد. عبارة متوسطة توضح معنى اللفظ، والغَيَدُ: من غَيْد كَفَرِحَ: مالت عنقُه ولانت أعطافُه.
ثم انظر إلى قوله في باب: الصاد، فصل: الدال؛ دَئِصَ: كفرح، أشر وبطر. تفسير بالمرادف المزدوج. ثم قال: دحَص المذبوح برجله: كمنع، إرتكض وفحص. تفسير بالمرادف المزدوج. ثم انظر إلى قوله: والمبحص: المفحص، تفسير بالمرادف فقط.
وإذا انتقلت إلى المعاجم الأخرى لا تخرج أيضًا عما قلته لك، ففي (مقاييس اللغة) لابن فارس - وأنت في غِنًى عن أن أذكرك بأن (مقاييس اللغة) ينتمي إلى "مدرسة الهجائية العادية الدائرية"- فعند حديثه عن الشهاب، قال: هو اللبن الضياح، وإنما سمي بذلك؛ لأن ماءه قد كثر، فصار كالبياض الذي يخالطه لونٌ آخر. هذا تفسير بالوصف والتشبيه.
المآخذ على المعاجم العربية
المآخذ على المعاجم العربية:
لقد أخذت على معاجمنا العربية القديمة مآخذ عديدة؛ من أهمها ما يلي:
أولًا: التصحيف: فمن الممكن أن تُقرأ بعض الكلمات على عدة أوجه إذا اختلط بعض الحروف المتشابهة بأخرى، فالباء قد تصير ياءً، والعكس، والياء قد تصير باءً، والنون قد تصير تاءً، والعكس، والتاء قد تصير ثاءً، والعكس. فإذا ما أهمل الكاتب ضبطَ الحرف، فإن الكلمة تُقرأ على غير وجهها.
وقد أخذ على أصحاب المعاجم الأولى هذا المأخذ، على الرغم من محاولتهم ضبطَ كثير من موادهم في كتبهم، فتجد عبارة التثليث إشارة إلى الثاء، وعبارة المثناة التحتية إشارة إلى الياء، والجيم المعجمة إشارة إلى الجيم، والخاء أيضًا.
ومن الذين تميزوا واهتموا بعملية الضبط هذه؛ خوفَ التصحيف، أبو علي القالي، حيث ضبط ألفاظه في بارعه بالعبارة، وأيضًا الفيروزآبادي في (القاموس المحيط) صنع هذا الصنيع. ومما عني به أيضًا ضبط الحركات حتى لا تقرأ الكلمة على غير وجهها عندما لا يرى القارئ علامةً للفتحة أو الكسرة أو الضمة.
ولم يسلم لُغوي من التصحيف، حتى قالوا: مَن ذا الذي سلم من التصحيف؟ حتى المتأخرون من أصحاب المعاجم أيضًا لم يسلموا من التصحيف.
ومن آثار هذا التصحيف: وجود عدد من الكلمات لا تُعرف حركاته ولا حروفه على وجه اليقين، وهذا يجعل القارئ يقع في حَيْرة من أمره؛ ولذلك اقترح الدكتور "حسين نصار" ورأى أن الأمر الوحيد الذي يخلصنا من هذه البلبلة أو الشك في هذه الألفاظ، وبخاصةٍِ تلك التي ادُّعِيَ فيها إبدال الحروف، ونُسب ذلك إلى قبائلَ عربية، اقترح جَمْعَ أكبر عدد من الرسائل اللغوية والمعاجم القديمة، والاطلاع على ما قالته بصدد هذه الألفاظ، وما تبقَّى منها، ولم نستطِع الحكم عليه من هذا السبيل، حاكمناه على ضَوْء الاشتقاق، فإذا وجدنا له مادةً تشترك معه في معانيه، حكمنا بصحته، فإن لَمْ نجد رجحنا تصحيفه، فإن كان الأدباء ومستعملو العربية أعرضوا عنه ولم يستخدموه، نفيناه من اللغة، فإن كانوا استخدموه أبقيناه، إذ صار أحد أفراد هذه الأسرة العربية وتجنست بجنسيتها.
ثانيًا: أُخِذَ على أصحاب المعاجم القديمة عدم تمثلهم للغرض من معاجمهم، فهم جميعًا -سواء مَن أطال منهم، ومن اختصر- يريدون أن يجمعوا اللغة بواضحها وغريبها ونادرها ولغاتها، وأن يجمعوا معها معارفَ العرب، فهذا ابن دُريد يريد أن يجمع جمهورَ الكلامِ، فيأتي بما لَمْ يعرفه أعراب الشمال إلا مَن أبعد منهم في الجنوب قاصدًا بتجارته اليمنَ، وأتى بما لا يدور على ألسنة عرب الشمال إلا قليلًا، أو على ألسنة قبائل متفرقة منهم، فكان من النوادر.
وهذا ابنُ فارس يؤلف (المجمل) فيحشوه بما يزخر به كتابه الأكبر (المقاييس)، ويملؤه بما أتى به الخليل الذي قصد إلى الواضح والغريب في مجمعه، وبما أتَى به ابن دريد، حتى أتباع "المدرسة اليسوعية" يؤلفون للتلاميذ، فيرجعون إلى (القاموس المحيط) ويحاولون أن يزيدوا عليه ولا يختصرون منه إلا القليل.
ثالثًا: أخذ عليهم كذلك القصور على الرغم من رغبة مؤلفيها في جَمْع اللغة، ومن أسباب هذا القصور: عدم استقصائهم الألفاظ الواردةَ في الرسائل اللغوية الصغيرة، وفي دواوين الشعر، ومن أسباب ذلك أيضًا -من أسباب قصورهم في الجمع-: أنهم لم يحاولوا أن يجمعوا العربية بجميع لهجاتها، وإنما اقتصروا على الفصيح الصحيح، ومن الأسباب أيضًا: إهمالهم المولد حتى ضاع علينا كثير من الألفاظ والمعاني التي ابتكرها العباسيون للمظاهر والحضارة الجديدة التي عاشوا فيها، وجعلوا اللغةَ لا تساير ركبَ الحياةِ، فاتهمت بالتحجر، واقترح لعلاج هذا القصور: أن نجمع قدرًا كبيرًا من ألفاظ الأدباء والعرب الذين يُستشهد بكلامهم حين نحقق دواوين الشعر ومجاميع الأدب، ونبرزها في صورة علمية معتمدة، وتحديد معاني الألفاظ من خلال سياقها الذي وردت فيه، وقد تحقق كثير من هذا الاقتراح؛ إذ حققت دواوين أكثر الشعراء بدأً من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، والمنتظر أن يُصنع من دواوين كل عصر معجمٌ خاص به، حتى نصل إلى المعجم الموحد والكامل للعربية.
أخذ على المعاجم القديمة أيضًا: صعوبة الكشف في معظمها؛ نتيجةً للنظم التي اتبعتها في تقسيمها وفي ترتيب أبوابها وفصولها، وإني أرى أن المدرسة التي تنظر إلى أوائل أصول الكلمات -وأعني بها: "المدرسة الهجائية العادية"- هي أيسر هذه المدارس، وأسهلُ النظم المتبعة في ترتيب ألفاظ اللغة. وقد اعتمد عليها المحدثون وبخاصةٍِ المجامعُ اللغوية، ومنها "المجمع اللغوي القاهري" الذي أخرج لنا (المعجم الوجيز) و(المعجم الوسيط) ولا يزال يخرج (المعجم الكبير).
وقد اقترح أن ترتب ألفاظ العربية وفق صورتها وليس وفق أصولها، حيث رأى بعض الباحثين أنه ينبغي ألا ينظر إلى المادة اللغوية الأصلية المجردة، وإنما ينظر إلى الكلمات نفسها حسب نطقها السائد، ومن ثم فإنه لا يراعَى عند الترتيب المادةُ أو الأصلُ، وإنما يراعى الكلمة نفسُها دون تجريدها من الزوائد. ولهذه الفكرة أثَر قديم فيما قدمه البندانيجي في معجمه (التقفية) حيث رتب كتابه على حسب أواخر الكلمات، بغض النظر عن كونها حروفًا أصليةً أو زوائدَ، مع أخذه في الاعتبار قوافي الشعر، وكيفية ترتيبها وهجائها، هذا إذا اعتبرنا التقفية من المعاجم أولًا، ثم من المعاجم العامة ثانيًا.
ومع كل هذا، فإن تلك النظرة السطحية في ترتيب مفردات اللغة تبعًا لصورتها دون أصلها ومادتها، قد ظهرت في بعض المعاجم الخاصة، مثل (الكليات) لأبي البقاء، و(التعريفات) للجرجاني وغيرهما، وفي محاولات إعادة ترتيب بعض المعاجم العامة مثل (لسان العرب) و(القاموس المحيط) على نحو ما فعل فيهما الشيخ محمد البخاري المصري، ولكن أظهر ما تبدو فيه هذه الطريقة، وما تمثلوا فيه هذا النوع من المعاجم كان في تلك الأعمال المعجمية الحديثة التي قام بها بعض اللغويين اللبنانيين؛ ومنهم: عبد الله العليلي في معجمه (المرجع) وجبران مسعود في معجمه (الرائد)، وفؤاد البستاني في (المنجد الأبجدي). وقد اعتمد في هذا النوع على الترتيب الأبجدي "الألفبائي" المعروف، ومن الواضح أن مثل هذا الترتيب على أساس الكلمات حسب نطقها قد لاقَى -وما يزال يلاقي- معارضةً شديدةً من اللغويين المحدثين؛ لأنه يَفصم عُرَى المادة ولا يتفق مع خصائص لغتنا العربية الاشتقاقية.
إذًا المدرسة الرابعة التي تنتهج النهجَ الهجائي العادي أفضل من غيرها بكثير، وأفضل من تلك الدعوة التي تدعو إلى ترتيب الألفاظ وفق صورتها.
رابعًا: أخذ على المعاجم العربية أيضًا -إلى جانب عدم الترتيب-: قصور العرض، وإبهامه، وسوء التفسير، فأكثر أصحاب المعاجم القديمة لا يلتزمون أن يوضحوا أبواب الفعل ومصادره، والمتعدي منه واللازم، باستثناء بعضهم كصاحب (المصباح المنير) -وهو الفيومي- الذي اهتم بهذا. أما غيره فلم يهتم بما قلتُ، حيث قلد بعضهم بعضًا في نقل تفسير اللفظ، وبعضهم لم يفسر اللفظ البتةً؛ اتكالًا على الشهرة، أو على الاكتفاء بأنه معروف، حتى ضاعت علينا أمور كثيرة كان يعرفها القدماء ولا نعرفها نحن، وقد استدرك مَجْمَع اللغة في معجميه -(الوسيط) و(الكبير)- كثيرًا من هذه المآخذ، فلم يقف باللغة عند حدودها الزمانية والمكانية، حيث تخطَّى الحدود المكانيةَ وهي شبه جزيرة العرب، وتخطى الحدود الزمانية وهي آخر المائة الثانية من الهجرة لعرب الأنصار، وآخر المائة الرابعة لأعراب البوادي.
واتخذ المجمع جميعَ الوسائل الكفيلة؛ لتحقيق الأغراض التي من أجلها أنشئ مجمع اللغة العربية، وهو الحفاظُ على سلامتها، وجعلها وافيةً بمطالب العلوم والفنون وتقدمها، ملائمةً على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر، واتخذ جميع الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأغراض بفتح باب الوضع للمحدثين بوسائله من اشتقاق وارتجال وغيرهما، وإطلاق القياس، وتحرير السماع، والاعتداد بالألفاظ المولدة، وتكملة المادة اللغوية، حيث قدم المجمع إلى القارئ المثقف ما يحتاج إليه، سواء في (المعجم الوسيط) أو (المعجم الكبير) من مواد لغوية في أسلوب واضح قريب المأخذ، سهل التناول، وأهمل المجمع في (المعجم الوسيط) -مثلًا- كثيرًا من الألفاظ الحوشية الجافيةَ، أو التي هجرها الاستعمال؛ لعدم الحاجة إليها، أو قلة الفائدة منها، وأهمل كذلك الألفاظ التي أجمعت المعاجم على شرحها بعبارات تكاد تكون واحدةً شرحًا غامضًا مقتضبًا، لا يبين حقائقها ولا يقرب معانيها.
كما أغفل بعض المترادفات التي تنشأ عن اختلاف اللهجات، واستعان في شرحه للألفاظ بالنصوص والمعاجم التي يُعتمد عليها، وعزز شرحه بالاستشهاد بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأمثال العربية، والتراكيب البلاغية المأثورة عن فصحاء الكتاب والشعراء، وصَوَّرَ ما يحتاج توضيحه إلى التصوير من حيوان أو نبات أو آلة أو نحو ذلك، وآثر في الشرح الأساليبَ الحية على الأساليب الميتة، وأدخل في متن المعجم ما دعت الضرورةُ إلى إدخالِه، من الألفاظ المولدة، أو المحدثة، أو المعربة، أو الدخيلة، التي أقرها المجمع وارتضاها الأدباءُ.
إن المعجم الحديثَ ينبغي ألا يتجاهل التوصياتِ التي أوصَى بها العلماءُ المحبون للعربية، فالمعجم الحديث ينبغي أن تُشرح ألفاظُه بعبارة دقيقة واضحة تفيد الباحثَ فائدةً يطمئن إليها، ولا يُكتفى بكلمة: "معروف" التي توضع بإزاء بعض الألفاظ؛ لأنها قد تكون -أقصد الكلمة- معروفةً في زمن كاتبها، أو بالنسبة له على الأقل، ولا تكون مجهولةً عند غيره في زمنه أو في الأزمان التالية. كما ينبغي أن تضبطَ الألفاظُ فيه ضبطًا دقيقًا، فقد يكون الباحث على علم بمعنى اللفظ، ولكنه يجهل ضبطَه، وينبغي أن تُدون الألفاظُ في المعجم الحديث في نصوص يحتج بها، وما ليس له نص يعضده ينبه على ذلك؛ حتى يكون الباحث على بينة من أمره.
وينبغي أن يتميز المعجم الحديث بالتنسيق الداخلي لمادته اللغوية، بحيث تدون الأصول أولًا، ثم ما تفرع منها كلٌّ تحت أصله، كما ينبغي أن يتميز بالتنسيق الداخلي للمعاني، فيذكر المعنى الأصلي أولًا، ثم ما تفرع منه، مع التنبيه على التطور التاريخي الذي قد حدث لمدلول بعض الألفاظ؛ فاللغة ظاهرة اجتماعيةٌ ترقَى برقي المجتمعات وتنحط بانحطاطها، كما ينبغي عدم اللجوء إلى شرح اللفظ بكلمة غريبة أو غير مؤلفة، كما ينبغي أن يُشار في المعجم الحديثِ إلى الكلمات التي دخلت العربية عن طريق التعريب أو التوليد، كما ينبغي أن يعتنَى في المعجم الحديث بالبحثِ الاشتقاقيِّ، وردِّ المواد اللغوية إلى عناصرها الأولية، فبعض المعاجم العربية -أو كثير منها- يفتقد بعضَ هذه المقوماتِ، فإن كان يتميز ببعضها فإنه لا يتميز بها كلها؛ إذ لا يكاد نجد معجمًا يشتَمِلُ على كل هذه المميزات، وقد حاول مجمع اللغة -كما قلتُ فيما أصدره من معجمات- أن يراعِيَ هذا.
على الرغم من المآخذِ التي وُجهت إلى معجميه (الوسيط) و(الكبير) فقد أخذ على الوسيط: أنه أغفل الضبطَ بالعبارةِ، وأخذ عليه: التمثيلُ بلفظ مشهور، أخذ عليه: أنه قد اكتفَى بالضبط بالشكل المعروف وهو لا يصون اللغةَ ويحفظها من التصحيف، كما أخذ على (المعجم الكبير) في باب الألف: أنه عرف بالهمزة في العربية وأطال في ذلك وأسهب، غَيْرَ أنه لم يتحدث عن هذه الألف في أخواتها الساميات بالقدر الذي يتناسب مع المساحة التي استغرقها الحديث عن الألف، ومع هذا فقد تميز (المعجم الوسيط) بشرحه للمفردات بعبارة سهلة مبسطة، خالية من غريب الألفاظ، ووحشيها، ومستنكرها، كما أنه عرض للأعلام فيه في نطاق ضيق دعت إليه الضرورةُ، كما أنه استعان بالرسوم والصور التوضيحية، كما أنه أكثرَ من الألفاظ عندما خَرَجَ عن النطاقِ المألوف في جمع اللغة؛ وفاءً بحاجاتها العصرية المتجددة، كما تميز بإتيانه بالكلمات المراد شرحها في عبارات وتراكيبَ حتى اتضح المعنى، ووقف القارئ على تنوعه وتغيره من عبارة إلى أخرى.
كما تميز بالترتيب المحكم الدقيق حين قَدَّمَ الأفعالَ على الأسماءِ، والمجردَ على المزيد، كما تميز باشتماله على الألفاظ المولدة والمعربة والدخيلة التي نحتاج إلى استعمالها، وأَقَرَّهَا المجمع، وارتضاها الأدباءُ، كما تميز بإهماله لكثير من الألفاظ الحوشية والمهجورة؛ لأن تدوينها لا تدعو إليه حاجة ماسة، والفائدة من ذكرها قليلة، كما تميز (الكبير) باهتمامه بالضبط، وتميز باقتصاره في المصطلحات على الشائع منها، وفي الأعلام والأماكن على ما دعت الضرورة إلى ذكره أيضًا، وشَرَحها شرحًا موجزًا، كما تميز باهتمامه بإبراز العلاقات التي تصل العربية بأخواتها الساميات، كما تميز بالتنظيم الداخلي للمادة اللغوية، كما تميز بالتعريف بالحرف المعقود له الباب، كما عُنِيَ بالشواهد والترتيب التاريخي للشواهد كلما أمكنه ذلك.
ولا يزال الباحثون ينظرون فيما يصدر من (المعجم الكبير) من حروف باقية حتى يقترب في عمله من الكمال المنشود.
هذا، وبالله التوفيق.
منقول للفائدة

ليست هناك تعليقات: