2015/03/06

مستورة العرابي \ التردِّي اللغوي

يعرف الجميع أن اللغة العربية ليست لغة فحسب؛ بل هي كون لُغوي لها قدرة خارقة على التكيف وفق مقتضيات العصر كونها لغة تفاعلية حضارية إنسانية قادرة على الاتصال والإيصال والتواصل، لغة قادرة على استيعاب الكليات والشموليات والعموميات مثلما هي قادرة على استيعاب الجزئيات والخصوصيات والتفصيلات، ومن يمعن النظر في اللغة العربية يجد أنها لغة كاملة بقاموسها ونحوها وصرفها وفقهها وأوزانها وبلاغتها ودلالتها. إذ هي جزءٌ أساسي من شخصية هذه الأمة وسمة لامعة من سماتها.. لغة يتصل حاضرها بماضيها، وماضيها وحاضرها لا يغلقان الأبواب لها في وجه مستقبلها.
لكن الأوضاع تُشير اليوم إلى أزمةٍ حقيقيةٍ تتمثل في شيوع الأخطاء اللُّغوية في التداول نتيجة ضعفها في المدارس، حيث يصل الطالب إلى الجامعة برصيدٍ لُغوي هزيل بسبب تلك المقولة الظالمة التي ترى أن اللغة العربية صعبة ومعقدة ومُملة، وأنها أقلُّ جاذبية وعصرية؛ فبدأ الضعف يستشري في اللغة جيلاً بعد جيل، وأصبحنا في دائرة متوالية من إنتاج الفشل والتردي والإخفاق وتصديره للأجيال المقبلة.
إن من أبرز أسباب الضعف اللغوي في التعليم انتشار العامية، وازدواجية اللغة بين المدرسة والبيت والشارع، وسوء تصميم المناهج، وعدم ربطها بالواقع، وضعف المادة المقدمة واضطرابها وجفافها، وعدم الربط بين فروع اللغة العربية في التدريس، وسوء تأهيل المعلم وطريقة تدريسه، وعدم جديّة الطالب ورغبته في إدراك المهارات الأساسية للغة العربية، كل هذه الأسباب وغيرها جعلت الطالب يهرب من اللغة وقواعدها، ويهجرها إلى لغة أخرى.
كما نلحظ هذا الانهزام اللُّغوي في لغة أغلب الإعلاميين والصحفيين والكتّاب اليوم خرقًا منهم لقانون أخلاق اللغة العربية النحوية والصرفية والإملائية والتركيبية والدلالية والقرائية؛ فضعفت لغة الإعلام المقروء والمسموع، إما بدافع التبسيط ومسايرة الواقع اللُّغوي المُتردي، وإما جهلاً منهم، التي لولا تدخل قسم التصحيح لظهرت لنا كارثة لُغوية.
كما تسلّل هذا العبث اللغوي إلى شبكات التواصل الاجتماعي بسبب غياب الوعي اللُّغوي؛ فمن صور هذا الاستهتار اللُّغوي الفصل بين الحرف والكلمة في اختراع كتابي عجيب مثل «لا تفعل خطأً فَ تندم»؛ بل يصل الأمر إلى ضبط الحرف المفصول مبالغة في التجنِّي على هذه اللغة، وحذف بُنية بعض حروف الجر كاختصار «على» بقولهم «ع»، ووضع حركات الضبط بالشكل المعهود في غير أماكنها بعشوائية، كما انتشرت مصطلحات تعارف عليها الشباب في تلك الشبكات مثل «يب» التي تعني «نعم» (yup)، و«برب» التي تعني «برهة» (be right back) وماهي إلا اختصارات لعبارات إنجليزية استعيض بها عن العبارات العربية، ومن صور الفقر اللغوي استخدام لغة «الأرابش» وهي كتابة جمل عربية بحروف إنجليزية، واستخدام العربيزي أو الفرانكو وهي كتابة اللغة العربية العامية بحروف إنجليزية واستخدام بعض أرقامها كحروف.
كما اخترق هذا الضعف اللغوي حقل الإعلان التجاري إما بالخلط بين العامية والفصحى، أو العامية الخالية من الفصحى، أو العامية والفصيحة والأجنبية معاً من باب التقليد والتباهي والتسويق.
وفي رأيي في هذه المساحة الضيقة أن علاج هذا الضعف يحتاج إلى تضافر الجهود الشجاعة من قِبل الغيورين على هذه اللغة من خلال برامج وخطط ونشاطات متنوعة؛ ففي مجال التعليم لابد من تخليص الدرس النحوي والصرفي من المسائل التي أثقلت كواهل الطلاب، وأجبرتهم على الحفظ والاستظهار، وعطّلت وظيفة اللغة الرئيسة، وتأجيل المسائل والخلافات المتشعبة إلى مراحل عليا، وإلزام معلمي اللغة العربية بالتحدّث بالفصحى السليمة المبسطة ممارسة حتى يستأنس بها الطلاب ويحاكونها، ولابد أن تقوم المقررات الدراسية على المنهج التكاملي، وارتباطها بالقضايا المعاصرة، وربطها بالتقنيات الحاسوبية، وتحديث معلوماتها باستمرار، وإنشاء أندية للقراءة داخل المدرسة لتحسين لغة الطلاب، وتوسيع مداركهم، وإثارة أخيلتهم من أجل النهوض باللغة العربية.
وفي مجال الإعلام والإعلان والصحافة لابد من تشديد الرقابة؛ فلا يُسمح بأي موضوع أو مقال أو إعلان ينشر بالعامية، ويحطُّ من قدر الفصحى، ووضع ضوابط صارمة في اختيار المذيعين؛ فلا يقبل إلا المتمكن في اللغة، كما أن على المذيعين أنفسهم تنمية ثقافتهم اللُّغوية لتوصيل المادة سليمة من كل ما يشوبها، وفي شبكات التواصل لابد على الأقل من استشعار الخطأ والتنويه إليه من قبل المتمكّنين في اللغة وتصويبه حتى لا تتوارثه الأجيال في كتاباتها؛ فيصبح الخطأ بالتقادم صواباً عندهم.
إن المنصف للغة العربية عليه تمثُّل ثوابتها ومعاييرها المؤطرة والمقعّدة في كتب اللغة، ثم يأتي الدور لإفساح المجال أمام التطويرات الدلالية، والتحوير في بُنى التراكيب اللغوية إلا الثوابت، ويمكن التوسع في دوائر الترجمة والتعريب بمتابعة من المختصين حتى لا يترك الحبل على الغارب، ويفسح المجال أمام العاميات الدارجة فضلاً عن الهجينة التي تدعو إلى هجر اللغة واضمحلالها، وتنادي بتشويه العقل العربي، وطمس معالم الشخصية العربية، حتى يعيش أبناؤها عصرهم مع الحفاظ على الثابت، والوقوف أمام المطالبين بتمييع العربية، وإننا واثقون كلّ الثّقة بوعد الله الّذي تكفّل بحفظ كتابه العزيز (إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون)، وحفظُ كتاب الله ضمانٌ لحفظ لسانه العربّي المبين.
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٧٤٢) صفحة (١٢) بتاريخ (١٥-١٢-٢٠١٣

ليست هناك تعليقات: