2015/04/07

النصوص وتاريخ ألفاظها



عائشة الدرمكي –
كل الدارسين لعلم اللغة دراسة وصفية أو تاريخية يجتهدون ليضعوا حداً فاصلا بين اللغات واللهجات  وبين المستويات الاجتماعية والتعليمية المتنوعة للغة الواحدة المعينة ، ولكنهم نادراً ما يتبعون طريقاً واقعياً في الإشارة إلى تلك الظواهر اللغوية ، أو محاولة تفسيرها في ضوء أهميتها العملية ، سواء للمجتمع أو للأفراد .”

بهذا يبدأ (ماريو باي) حديثه عن اللهجات واللغات الوطنية ؛ فهو يعتقد أن الدارسين لعلوم اللغة لا يلقون بالاً لتلك المتغيرات الاجتماعية التي تؤثر تأثيرا بالغاً في تطور اللغة وتغيرها وهو يقرر أن ذلك راجع إلى سوء تقدير أولئك الدارسين لما يمكن أن يشكل اتجاه علميا في دراسة اللغة ، وانصرافهم عن اختيار الحقائق التي يمكن أن تعتبر أحكاما ذات قيمة في المستقبل.
ولذلك فإنه يقرر بأن الأحكام التي كان مثل هؤلاء الدراسين يطلقونها ليست ذات قيمة حقيقة عندما تتم المقابلة بين لغتين أيهما أكثر منزلة على سبيل المثال ، و لا يمكن أن يكون الادعاء بأن لغة ما في الوقت الحاضر تفوق غيرها ثقافيا حكما له قيمته إذا كانت ثمرات الثقافة تتحقق بصورة واضحة في شكل نتاج عقلي وأدبي وعلمي ،كما لا يمكن أيضا الادعاء بأن شكلا معينا من أشكال اللغة تستعمله الجماعة كلها ، ويجري على ألسنة الطبقة المثقفة ثم نقول أنه أفضل من شكل آخر يتصف بالمحلية ويستعمل بين طائفة من الأميين أو أنصاف الأميين .
إن اللهجات بوصفها شكلا محلياً يستعمل في محيط واسع ، فإنه يمكن تصنيفها إلى وحدات كبيرة على أساس سماتها العامة ، بالرغم من أن ذلك من الناحية الموضوعية لا يمثل الصدق بشكل مطلق ، فلا يمكن الفصل التام بين اللهجات في المدينة الواحدة أو الأقليم الجغرافي الواحد ، إلا أنه يمكن أن نقول أن هناك خصائص محلية غير المتناهية مع بعض ملامح مشتركة وأخرى متباينة من إقليم إلى آخر ، وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن كل مدينة أو قرية لها لهجتها الخاصة بها ، بل أن كل شخص له خصائصه النطقية المختلفة التي تميزه عن غيره ، حتى من بين أفراد أسرته ، وهي خصائص قد تسمح لأهله أو أصدقائه تمييزه أو وصفه بها وهي ما يطلق عليها (العادات الكلامية) ، وهي عادات تكون حدود تمييزها افتراضية عبر (الخطوط الفاصلة) التي تفرِّق بين شخص وآخر أو بين مجتمع وآخر .
ولأن الاختلاف والتنوع على المستويات الاحتماعية خاصة سمة من سمات المجتمعات الإنسانية عموماً ، فإن اللغة عنصرا مهما لتمييز شريحة مجتمعية عن أخرى ، كما أن الانتقال من مظهر من اللغة خاص بشريحة معينة إلى مظهر آخر يمكن أن يحدث تدريجيا مع تطور الفرد ، فلكل طبقة أو شريحة في المجتمع لغتها التي تميزها عن غيرها ، لأن اللغة التي يستخدمها الأطفال ليست هي تلك التي يستخدمها الكبار في المجتمع نفسه  كما أن لغة الأطباء تختلف عن لغة النجارين أو المهندسين أو الطباخين ، وهكذا سنجد أن لكل شريحة من شرائح المجتمع لغته التي تميزه عن غيره . كل ذلك يكون على المستوى الكلامي والمستوى اللغوي عامة وقد اهتم به مجموعة من الباحثين في علم اللغة الاجتماعي ، وهناك اهتمام كبير اليوم بتغير الأسلوب الكلامي أو انتقاله وأسباب ذلك على مستوى الفرد أو المجتمع .
إن ماريو باي يسمي مثل تلك الأساليب أو التصنيفات بـ (اللغات الطبقية) التي نشأت على أساس الطبقة الاجتماعية أو التعليمية ؛ التي نشأت عنها مصطلحات على مستوى اللغة المستعملة من مثل (لغة الجامعيين) و(لغة غير الجامعيين) ؛ هي إذن طبقات اجتماعية أو ثقافية أسست لمستويات من اللغة الكلامية أو اللهجات التي أصبحت ذات ظواهر وخصائص معينة ومحددة من وجهة نظر علم اللغة الجغرافي ، لأنها تبلور التنويعات اللغوية التي تستعمل في المجتمع ، وهي تنويعات قامت عليها دراسات مهمة كتلك التي تبناها علماء اللهجات الأمريكيون (هانزكيرواث) و(رافن ماكدلفيد) و(وليم لابوف) ، التي تُعنى بالتركيز على تلك التنوعات التي يكون ارتباطها بالطبقات الاجتماعية أوثق من ارتباطها بالجغرافيا – بمعناها البحت – ، بل أن هناك دراسات – كما يذكر (ميلكا إفيتش) في كتابه (اتجاهات البحث اللساني) تقوم اليوم على الطرق الرياضية أو الإحصاء بحماس متزايد في توصيف اللهجات وتصنيفها ، كما تعد الاحتمالات التي تكشف عن طريق التوسع في استخدام الإجراءات الرياضية في علم اللهجات ، فالمدرسة البنيوية قدمت معايير لتصيف اللهجات ذات أهمية كبيرة ، وستؤسس عليها مدرسة (ف . دوروسزيفسكي البولندية) منهجاً لبحث ما يسمى بـ (خطوط التوزيع) ، لتسجل هذه الخطوط التوزيعية – كما يقول إفيتش) شيوع الظواهر اللسانية التي تكون موضوعا للتنوع داخل إطار الجماعة اللغوية نفسها .
إننا من خلال هذا الطرح نحاول مقاربة اللهجات وظواهرها بوصفها عنصراً مهماً من عناصر الإرسالية اللغوية ، وهي إرسالية لا تخرج على النموذج الذي قدمه (جاكبسون) في السابق ، إلاَّ أننا في هذا المقال نطرح هذه الإرسالية منطلقين من (الرسالة) التي يعرفها (تودروف) بأنها (واقعة من الحياة الاجتماعية) ، وهذه الواقعة تستدعي بالنسبة للمتلقي حضور شخصية المرسل وخلفيته الاجتماعية والتعليمية ، وهي أسس يقوم عليها النص المكتوب أو الشفهي الذي يتأسس على اللغة المجتمعية التي تتخذ اللغة سبيلا لها لتحقيق الهدف الأدبي والثقافي والفكري المنشود .
وعلى هذا الأساس ناقش (ميخائيل باختين) في كتابه (الخطاب الروائي) الفرق بين الخطاب الشعري والخطاب الروائي الذي يتأسس على التعدد اللغوي ؛ فهو يرى أن الرواية تمثل التنوع الاجتماعي للغات ، وأحياناً للغات والأصوات الفردية ، وهو تنوع يوصف بأنه (أدبي) ، وهذا التنوع والتعدد مرده إلى ما أشرنا إليها سالفاً من التنوع اللغوي القائم على اللغات الوطنية واللهجات الاجتماعية التي تخص كل جماعة على حدة ؛ إذ تتميز كل جماعة بلكنات وألفاظ مهنية معينة وطرائق كلامية تختلف باختلاف الأعمار أو المدارس أو السلطات ، كما أن هناك ظواهر لغوية محددة نجدها لدى مرتادي الأندية المتنوعة أو متبني الموضات حتى تلك العابرة منها والمرتبطة بزمن معين أو محدد ، أو تلك المرتبطة بظواهر اجتماعية أو سياسية طارئة ومؤقتة ، ولذلك فإن باختين يعتقد أن على كل لغة أن تنقسم داخليا وعند كل لحظة من وجودها التاريخي ، وهو انقسام سيؤدي إلى إثراء اللغة وتطورها وتنوعها ، وبالتالي إثراء النص الثقافي بأبعاده المتعددة .
عليه فإن التعدد اللغوي هنا وما يتولد عنه من تعدد صوتي ، سيغذي النص (المكتوب أو الشفهي) وبالتالي سيستطيع التلاؤم بين ثيمات المحتمع من ناحية والنص من ناحية أخرى وبين عالمهما الدال ، ملاءمة مشخَّصة ومعبَّر عنها ؛ ذلك لأن النص هو تمثيل للواقع الاجتماعي وتاريخه الحضاري سواء الواقعي أو المتخيل على المستوى السردي ، فهذا لا يعنينا هنا بقدر ما يعنينا الأخذ بمستوى الخطاب اللغوي الذي يتأسس من خلال هذا التنوع ، ليستطيع المتلقي تقبل الأصداء المتعددة للأصوات الاجتماعية وتقبل اتصالاتها وترابطاتها المختلفة التي تكون دائما في شكل حواري ، أو تلك الاتصالات والترابطات الخاصة بين الملفوظات واللغات، وتلك الحركة للثيمات التي تمر عبر اللغات والخطابات ، وتشذرها إلى تيارات وقطرات ، وصيغتها الحوارية – كما يقول باختين – هو المظهر الذي يتخذه التفرُّد الأولي لأسلوبية النص .     للابد إذن أن يكشف لنا النص الخصائص اللغوية التي تميز كل شخصية على حدة ، وهي خصائص لابد أن تتلاءم مع الطبيعة العامة للغة أو اللهجات المتعددة للمجتمع الذي يمثله النص والحقبة الزمنية التي يتمثلها ، وهذا أمر لابد منه في النصوص جميعا على المستوى المكتوب أو الشفي أو البصري ،والأمر هنا لا يختلف أيضا بين النص الأدبي أو التاريخي أو السياسي ، أو أي نص آخر ؛ ذلك لأنه متعلق باللغة باللغة وتاريخ ألفاظها وارتباطه بالأمكنة والأزمنة من منطلق أن اللغة متطورة كما هو حال الأمكنة وأزمنتها ، ولهذا فإننا دوما نستعيدها من خلال تلك النصوص التي حفظتها سياقيا ودلاليا ، ليكون النص حافظا لها من الضياع كما حفظت نصوص العصور الجاهلي أو الأموي أو العباسي وغيرها من النصوص لغات عصورها. هكذا نريد لنصوصنا في العصر الحديث ، وهكذا نأمل أن تُحفظ لهجاتنا كما حُفظت لهجات أجدادنا نصوصهم المكتوبة والشفهية.

ليست هناك تعليقات: