2015/04/07

اللغة العربية على لائحة الانقراض الفعلي

أحمد فرحات –
يؤكد العلامة اللغوي المغربي د. عبدالقادر الفاسي الفهري، أن اللغة العربية الفصحى باتت مهددة في بقائها. وهي مستهدفة في هذا الشأن. فمؤشرات هشاشة وضعها قائمة وكثيرة، على الرغم من كل ما تتميز به من سمات نوعية. إنها تعاني من كونها لم تعد مبيّأة التبييئ السليم والكافي، الذي يضمن لها البقاء، لأن دولها ونخبها وشعوبها
لم تعد تحميها، أو تذود عنها بما يكفي، أو تسعى إلى تهيئة بيئتها وتنقيتها باستمرار، وبصفة كافية. إنها لغة غالباً ما تغيّب (أو تهمّش) في بيئة الأسرة، فلا يُنشّأ الطفل ويفطّر عليها أولاً، ولا تنتقل عبر الأجيال كلغة للآسر، وللأطفال الصغار، وهي لا تلقّن في الروضات في سن مبكرة، وتشكلها النفسي (أو اكتساب ملكتها) في بيئة المدرسة في السنوات الأولى من تعلّم الطفل، يعوقه حضور العامية القوي، وحضور اللغة الأجنبية، استمراراً لحضورهما في بيئة الأسرة. وهي غير حاضرة، بما يكفي في التداول اليومي العمومي، وفي الشارع، والمعاملات الإدارية، والإشهار والإعلان.. إلخ. وجلّ متكلميها لا ينظرون إليها على أنها لغة العلم، أو لغة الثقافة بامتياز، أو لغة الفرص في الاقتصاد، وفي الشغل، أو لغة التواصل العالمي، بل إن منهم من لا يقرن هويته بصفة لصيقة بها.
ويرى د. الفهري في كتابه الجديد الصادر حديثاً عن دار “الكتاب الجديد” في بيروت تحت عنوان: “السياسة اللغوية في البلاد العربية”، أن تقويم مثل هذه المؤشرات السلبية، أمر ملحّ ومصيري، وهو مرتبط بخلق دينامية نهضوية جديدة، وتطوير بيئة شمولية عامة جديدة، نفسانية، ومجتمعية، وسياسية، واقتصادية، وتربوية.. إلخ، لا تتردد فيها الدول، والنخب، والشعوب في تحمّل مسؤوليتها، في استيفاء لغتها، ونشرها، وتطويرها، لتتحوّل إلى لغة الفطرة، والتعلّيم الشامل، والعلم، والمعرفة، والرقمنة، والتواصل خصوصاً، بعيداً من المواقف السلبية الرائجة في ذهنيات خصومها، أو حتى متكلّميها أحياناً. إن ما هو مطلوب، ليس باليسير، ولكنه ممكن. وقد بدأت مبادرات عدة، تتوخى تحقيق جزء من هذه الأهداف، لكنها ما زالت خجولة، وهناك تراجعات متكررة في الاختيارات المصيرية.

اليونسكو وتحديد اللغة المهددة
يذهب أحد تقارير اليونسكو الجديدة إلى أن أبسط تحديد للغة المهددة هو أنها اللغة التي لم يعد الأطفال يتعلمونها. ويقصد بذلك، على الخصوص، اللغة التي لم يعد اكتسابها فطرياً، إلا أن التحديد الدقيق للتهديد، تدخل فيه عوامل عدة أهمها:
-1 عدد المتكلمين،
-2 انتقال اللغة عبر الأجيال،
-3 عدد المتكلمين نسبة إلى مجموع الساكنة،
-4 مواقف أعضاء الجماعة اللغوية من لغتهم،
-5 توافر أدوات تعليم اللغة،
-6 مدى استجابة اللغة للمتطلبات الجديدة ولوسائل الإعلام،
-7 نوعية وجودة الوثائق المتوافرة بها،
-8 سياسات ومواقف الحكومة والمؤسسات تجاه اللغة، بما في ذلك الوضع الرسمي والاستعمال الفعلي.
وتعنى اليونسكو، إلى جانب هذه العوامل، بالجوانب المتعلقة بالحقوق اللغوية كحقوق إنسانية، بما في ذلك الحق في التعلّم باللغة / الأم، والحق في النشر باللغة التي يرتئيها الفرد، والحق المتساوي في الدعم المالي للدولة.. إلخ. وثمة نصوص مرجعية ملزمة في هذا المضمار، منها معاهدة الحقوق السياسية والمدنية، وأخرى ملزمة، ولكنها للتوعية، منها معاهدة الأمم المتحدة حول التنوع البيولوجي. ويدخل التنوع اللغوي من ضمن التنوع البيولوجي، باعتبار أن التنوع عامل إيجابي في حد ذاته، يدعم جودة الحياة فوق الأرض، والمحيط الإنساني، وأن في وسع الإنسان أن يتحكّم في قوى التجانس، وأن يميز الضعيف من الأجناس واللغات، لتفادي خسارة أجزاء من الثقافة البشرية، على غرار الخسارة التي تلحق بالأنواع في الطبيعة. ويكون إذن الانشغال هو الحفاظ على التنوع البيئي. لقد فقدت البشرية ما يزيد عن 230 لغة منذ العام 1950، وهناك لغات مصنّفة من ضمن المهددات، ومنها اللغة العربية.
ويمكن وضع تدرّج في أوضاع بقاء اللغات واستمرارها، من الوضع السالم إلى وضع الانقراض:
يمكن اعتبار لغة معينة سالمة، إذا كان هناك ناطقون بها عبر الأجيال، يتوارثونها بصفة غير منقطعة.
يمكن اعتبار اللغة في وضع هش، إذا كان جلّ الأطفال والأسر، لا يتكلمون لغة آبائهم إلا في البيت.
تكون اللغة مهددة بصفة تامة، إذا كانت اللغة لا يتم تعلّمها كلغة / أم، ولا تتعلّم في البيت، وأصغر متكلميها الفطريين هم جيل الآباء.
تكون اللغة مهددة بصفة صارمة، إذا كان لا يتكلمها إلا الأجداد أو الأجيال القديمة، ولا تتداول كل يوم، وليس لمتكلميها شركاء، وهم لا يتذكرونها إلا جزئياً.
يمكن اعتبار اللغة منقرضة إذا لم يكن أحد يتكلم، أو يتذكر هذه اللغة.
واللغات التي تدخل في هذه الفئة محل جدل كبير. فاللغة التي لم يعد يتكلم بها أحد، تعتبر منقرضة أو ميتة. ولأن جلّ اللغات لم تكن مكتوبة، فإن الانقراض يصبح واقعاً لا رجعة فيه. ويمكن إعادة إحياء اللغة المنقرضة، إذا كان هناك توثيق كاف، وحافز قوي عند الجماعة الإثنية. وقد حصل هذا للعبرية، وتحولت إلى لغة منطوق بها، بعدما كانت لغة مكتوبة في الأساس، ومقدسة عندما أصبحت اللغة الرسمية للدولة العبرية. وقد تمّ إعادة إحياء الكونيش والمانكش، ولكنهما ما زالتا غير فطريتين. وهناك لغات مكتوبة قديمة مثل الآرامية واللاتينية والإغريقية، التي ما زالت متوافرة عبر النصوص.
ويتعرض الباحث في علم الفيلولوجيا، كريستل إلى عدد من العوامل التي تتسبب في موت اللغات، منها الكوارث الطبيعية التي تستهدف متكلّمين محدودي العدد بأتمهم، مثل الزلازل أو المجاعة أو الجفاف.. إلخ. أو العوامل التي تنبذ الثقافة واللغة، مع بقاء الساكنة، مثل الاستيعاب الثقافي، أو الهيمنة (عبر الاستعمار)، وغيرها.
ويشير البعض إلى التأثيرات السلبية للازدواجية والثنائية على اللغة العربية. إلا أن اهتزاز وضع العربية الفصحى، لا يعود إلى وجود لغات، أو لهجات عربية وغير عربية في تنافس معها، بل يعود في الأساس إلى:( أ) عدم استعمالها لغة للحديث، أي فقدانها لوضع اللغة الفطرية التي تتوارث عبر الأجيال من دون تلقين. (ب) تآكل وظائف اللغة العربية الحياتية والعلمية والثقافية والاقتصادية والتواصلية تدريجاً. (ج) غياب سياسة لغوية فاعلة لتقوية استعمالها وحماية وظائفها.
النهوض بالعربية.. كيف؟
يقترح د. الفاسي الفهري للنهوض بالعربية أموراً عدة، لعل أولاها يكمن في تحسين بيئتها العامة، مجتمعياً وسياسياً واقتصادياً وقانونياً لإعادة الثقة فيها كلغة، ودفع العداء والبخس عنها، وبثّ الثقة في متعلميها ومعلميها، والعلماء من أهلها، والمشغلين والمشغّلين بها، ودعم تعريب التعليم أفقياً وعمودياً، وفي مختلف مناحي الحياة العامة، وحثّ شركات الإشهار والإعلان على استعمال العربية عوض اللهجات الدارجة، أو اللغات الأجنبية. فالتعليم مهم في بعث حيوية اللغة، ولكنه لا يكون معزولاً عن محيطه العام. ولا بد من إقرار خطط للبحث العلمي، ولتشجيع الابتكار والإنتاج والمتابعة والنقد، التي تجعل اللغة العربية منخرطة بالفعل في المجتمع الدولي العلمي، ولا بد من إقامة مؤتمرات دولية، تكون اللغة العربية حاضرة فيها بامتياز، ولا بد من استحداث مجلات، ومؤلفات إلكترونية على الخصوص، تروّج فيها لغة علم عربية، مع استعمال جزئي للأجنبية.
ولإقامة مثل هذه السياسة، ينبغي من وجهة د. الفهري، استنهاض الحكّام والنخب والمجتمعات والشعوب، وتشجيع تنظيمهم في هيئات وجمعيات متعددة الأنواع، اجتماعية وسياسية وعلمية وثقافية وتدبيرية وصناعية، وجمعيات حمائية من أجل الدفاع والرصد والتتبع واليقظة، لكي لا يقصّر مكوّن من مكوّنات الأمة، أو فاعل من فاعليها، في الإسهام في نشر هذه اللغة، والحرص على تنفيذ التشريعات.. إلخ.
وإذا كانت اللغة، واللغة العربية بشكل أخصّ، هوية وتاريخاً وتراثاً وثقافة، فهي كذلك خير عمومي، رمزي ومادي بامتياز، يمكن قياس فوائده بالنسبة إلى الأمة التي تستعمله، وتروّج له، وتستثمر فيه.
وينبغي أن تقوم النخب اللغوية والفكرية والعلمية بتنوير الرأي العام بصدد القضايا اللغوية، التي يعسر فهمها على المختصين، فما بالك بالفئات الشعبية، البسيطة أو المتوسطة.
وإذا كانت اللغة العربية تفرز نقط قوة وضعف، تترجم نقط قوة وضعف الشعوب الناطقة بها، فإن من سوء التدبير المؤكد، أن تترك لوحدها، في ليبرالية متوحشة، تعاني من أضرار الإشهار والإعلان المتوحش، أو التعليم الليبرالي المتوحش، أو توطين المعرفة باللسان الأجنبي كيفما اتفق… إلخ.
وإن من سوء التدبير السياسي والاقتصادي أن يضيع هذا اللحام الجماعي المتميز بفضائياته الإعلامية، وبصحافته المكتوبة، وبحضوره المتميز في التقانات الجديدة على الشبكة، وفي الهاتف النقال، بمئات الملايين من المستعملين، وفي التأليف والإنتاج العلمي والأدبي الذي يحتاج إلى الرفع من جودته، ولكنه مع ذلك موجود.

ليست هناك تعليقات: