2015/05/25

عن الفرق بين الكتابة الصوتية والكتابة الفونيمية

أنا تحدثت في مقالات سابقة عن القضية التي سأتحدث عنها الآن، ولكنني أريد أن أتحدث هذه المرة بمزيد من التوسع.
باحثو علم الصوتيات phonetics يستخدمون مصطلحين مهمين هما الفونيم phoneme والألوفونات allophones.
الألوفونات هي عدة أصوات مختلفة لنفس الفونيم.
سوف أضرب أمثلة على الألوفونات من اللهجة العربية المحكية في بلاد ما بين النهرين Mesopotamia.
بعض الناس يظنون أن كلمة “ما بين النهرين” Mesopotamia تعني الدولة المسماة حاليا بالعراق، ولكن هذا خطأ، لأن حدود ما بين النهرين هي أوسع من حدود العراق. كلمة “ما بين النهرين” بالتعريف النظري تشمل كل الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات، وبالتعريف العملي هي تشمل أيضا أراضي تقع إلى الشرق من نهر دجلة (وأحيانا أراضي تقع إلى الغرب من نهر الفرات). منطقة ما بين النهرين حاليا تقع في ثلاث دول هي العراق وسوريا وتركيا.
كلمة “العراق” هي في الأصل تسمية للقسم الجنوبي من بلاد ما بين النهرين (بغداد والمناطق الواقعة جنوبها). القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين كان يسمى تاريخيا “الجزيرة”. حاليا في سورية كلمة “الجزيرة” تطلق على منطقة صغيرة هي محافظة الحسكة، ولكن كلمة “الجزيرة” تاريخيا كان لها معنى أكبر من ذلك.
منطقة ما بين النهرين هي ليست مجرد منطقة جغرافية ولكنها أيضا منطقة ثقافية، بدليل أن سكان هذه المنطقة يتشابهون في اللغات والعادات.
المستشرقون يطلقون على اللهجات العربية المحكية في بلاد ما بين النهرين مسمى “عربية ما بين النهرين” Mesopotamian Arabic.
الموقع الإلكتروني المسمى ethnologue (والذي يعتبره كثيرون مرجعا في تصنيف اللغات) كان يصنف اللهجة الحلبية ضمن “عربية ما بين النهرين”. طبعا هذا التصنيف هو خاطئ وليس صحيحا، لأن اللهجة الحلبية هي أقرب إلى اللهجات السورية (المستشرقون يطلقون على اللهجات السورية مسمى “العربية المشرقية” Levantine Arabic). أظن أن من صنف اللهجة الحلبية ضمن “عربية ما بين النهرين” هو ليس ملما باللهجة الحلبية ولكنه متأثر بالدراسات التي أجراها بعض المستشرقين حول هذه اللهجة. من يقرأ دراسات بعض المستشرقين سيظن بالفعل أن اللهجة الحلبية هي من لهجات ما بين النهرين، لأن هذه الدراسات ركزت على جوانب محددة في اللهجة الحلبية (خاصة قضية الإمالة) وتجاهلت الكثير من الجوانب الأخرى.
لا أدري إن كان موقع ethnologue قد صحح هذا الخطأ أم لا. آخر مرة نظرت فيها في الموقع كانت قبل عدة سنوات. هذا الموقع بالمناسبة فيه الكثير من الأخطاء وهو محل انتقاد لدى كثير من الباحثين، ولكنه رغم ذلك يعتبر مرجعا دوليا.
المستشرق Haim Blanc (في عام 1964) قسم لهجات ما بين النهرين إلى قسمين:
لهجات qəltu
لهجات gələt
هذه التسميات هي مبنية على لفظ كلمة “قلت” (التي تلفظ بالعربية الفصيحة هكذا /qultu/). حسب Blanc فإن كلمة “قلت” تلفظ في لهجات المجموعة الأولى هكذا /qəltu/، وفي لهجات المجموعة الثانية هكذا /gələt/.
هناك فروقات عديدة بين لهجات qəltu ولهجات gələt. لهجات المجموعة الثانية هي أشبه باللهجات البدوية. Blanc طرح نظرية مفادها أن لهجات qəltu هي أقدم في ما بين النهرين وهي متحدرة من اللهجات التي كانت محكية هناك في العصر العباسي، وأما لهجات gələt فهي نشأت بسبب استيطان القبائل البدوية في ما بين النهرين بعد الغزو المغولي.
استيطان القبائل البدوية في المدن هو ظاهرة عامة حصلت في كل البلاد (بما في ذلك سورية ومصر والمغرب إلخ)، ولكن المستشرقين يرون أن الغزو المغولي لما بين النهرين أدى إلى هلاك معظم سكان المدن هناك، ولهذا السبب استيطان القبائل البدوية في ما بين النهرين أثر كثيرا على اللهجات المحكية هناك (لأن هذه القبائل استوطنت في مدن شبه خالية من السكان).
حسب Blanc فإن لهجات gələt هي سائدة في كل مناطق ما بين النهرين التي يسكنها بدو (سواء كانوا رحلا أم مستقرين)، وأيضا في المناطق التي استوطن فيها البدو بكثافة كبيرة. اليهود والمسيحيون يتحدثون دائما لهجات qəltu. بالنسبة لسكان المدن المسلمين فهم ينقسمون على أساس جغرافي: المدن الواقعة إلى الشمال من خط يمتد بين سامراء والفلوجة تسود فيها لهجات qəltu، والمدن الواقعة إلى الجنوب من هذا الخط تسود فيها لهجات gələt.
في بغداد اليهود والمسيحيون يتحدثون لهجتين مختلفتين تنتميان إلى مجموعة qəltu، والمسلمون يتحدثون لهجة تنتمي إلى مجموعة gələt.
أحد الفروقات بين لهجات qəltu ولهجات gələt يتعلق بكيفية لفظ حرف أو فونيم الكاف /k/. حسب Blanc فإن فونيم الكاف في المجموعة الأولى يلفظ دائما بصوته الأصلي [k]، وأما في المجموعة الثانية فهو يلفظ بصوتين أو ألوفونين مختلفين، الألوفون الأول هو الصوت الأصلي [k]، والألوفون الثاني هو [] (“تش”). الألوفون الثاني يظهر بانتظام بالقرب من أصوات العلة الأمامية (أي صوت الكسر وصوت الياء الممدودة)، ويظهر أيضا بالقرب من صوت الفتح في بعض الأحيان.
مثلا المسلمون في بغداد يلفظون كلمة “كيس” هكذا [tʃīs] (“تشيس”)، ويلفظون كلمة “كان” هكذا [tʃān] (“تشان”)، ولكنهم يلفظون كلمة “يكون” هكذا [ykūn] (“يكون”)، ويلفظون كلمة “كل” هكذا [kull].
بالمصطلحات الصوتية يمكننا أن نقول ما يلي: فونيم الكاف /k/ يلفظ لدى مسلمي بغداد بألوفونين هما [k] و [].
الألوفونات هي أصوات مختلفة لنفس الفونيم. لو استبدلنا أحد الألوفونات بألوفون آخر فإن هذا لن يغير معنى الكلمة. مثلا لو ذهبنا إلى مسلمي بغداد ولفظنا كلمة “كيس” أمامهم هكذا [kīs] (“كيس”) فهم سيفهمون تماما ما هي الكلمة التي نقصدها. هم سيفهمون دون أدنى شك أننا نقصد الكلمة التي تلفظ لديهم عادة [tʃīs] (“تشيس”).
ولكن لو لفظنا كلمة “كيس” أمام مسلمي بغداد هكذا [bīs] (“بيس”) فهم على الأغلب لن يفهموا الكلمة التي نقصدها، لأن الصوت [b] في لغتهم هو ليس أحد ألوفونات الفونيم /k/ ولكنه فونيم آخر /b/.
تغيير الفونيم يغير معنى الكلمة، ولكن تغيير الألوفون لا يغير معنى الكلمة. هذا هو الفرق بين الفونيم والألوفون.
في اللهجة الحلبية الألوفونات تظهر غالبا في نطق أصوات العلة vowels، وخاصة صوت الألف الممدودة /ā/. الألف الممدودة في اللهجة الحلبية تلفظ على الأقل بثلاثة ألوفونات مختلفة:
ألوفون خلفي أو مفخم [ɔː] يظهر عادة بالقرب من أصوات الصحة الخلفية وصوت الراء، وأحيانا بالقرب من أصوات صحة أمامية كما في كلمة “شارع” التي تلفظ تقريبا هكذا [ʃɔːrɛʕ].
ألوفون وسطي أو مرقق [æ̝ː] يظهر مثلا في كلمة “باب” [bæ̝ːb].
ألوفون أمامي أو ممال [ɛː] يظهر مثلا في كلمة “بارد” [bɛːrɛd].
الألوفون الوسطي [æ̝ː] يظهر في بعض الأحيان بدلا من الألوفون الأمامي [ɛː] (أو العكس). أنا أظن أن هذين الألوفونين هما في حالة اندماج حاليا وسيتحولان في المستقبل إلى ألوفون واحد هو الألوفون الأمامي [ɛː] (نفس هذا التطور حصل سابقا في بعض لهجات ريف إدلب وفي لبنان).
طبعا أنا أتحدث عن لهجة حلب قبل التدمير الذي أصابها مؤخرا على يد بشار الأسد. حاليا مدينة حلب صارت شبه خالية من السكان، وبالتالي أنا بصراحة لا أعلم كيف ستتطور لهجتها مستقبلا. وضع حلب الآن هو شبيه بوضع المدن العراقية بعد الغزو المغولي. تطور اللهجة الحلبية سيعتمد على لهجات السكان الذين سيسكنونها في المستقبل.
الكتابة الصوتية والكتابة الفونيمية
في الأعلى بينت الفرق بين مفهومين مهمين هما الفونيم والألوفون.

عندما نريد أن نكتب كلمة فإننا يمكن أن نكتبها بطريقتين:
الكتابة الصوتية phonetic transcription (الكتابة التي توضح اللفظ كما نسمعه)
الكتابة الفونيمية phonemic transcription (الكتابة التي توضح الفونيمات)
الجمعية الدولية لعلم الصوتيات International Phonetic Association توصي باستخدام قوسين مربعين [ ] للكتابة الصوتية وعلامتي / / للكتابة الفونيمية.

لو أردنا كتابة كلمة “كيس” في لهجة مسلمي بغداد فإننا يمكن أن نكتبها بطريقتين:
الكتابة الصوتية هي [tʃīs] (هذه الكتابة توضح لفظ الكلمة)
الكتابة الفونيمية هي /kīs/ (هذه الكتابة لا توضح اللفظ الدقيق ولكنها توضح ماهية الكلمة).
الكتابة الفونيمية هي مفيدة لمعرفة أصل الكلمة، والكتابة الصوتية هي مفيدة لمعرفة كيفية لفظ الكلمة في الواقع.
الكتابة الفونيمية تتطلب قدرا من المعرفة بأصول أصوات اللغة وكلماتها. الكتابة الصوتية لا تتطلب شيئا من ذلك. لهذا السبب الكتابة الصوتية هي أسهل من الكتابة الفونيمية.
الناس يميلون في الغالب لاستخدام الكتابة الصوتية، حتى عندما يكونون ملمين بأصول الأصوات التي يكتبونها. مثلا أنا لاحظت أن العراقيين يميلون لكتابة حرف القاف على شكل كاف (يقصدون بالكاف الصوت [g]). مثلا بعضهم ربما يكتب كلمة “قلت” بهذه الصورة “كلت” (المقصود هو [gələt]). من يكتبون “كلت” هم على الأغلب يعلمون أن هذه الكلمة هي أصلا “قلت”، ولكنهم يتجنبون الكتابة الفونيمية ويستخدمون الكتابة الصوتية.
نفس الظاهرة هي موجودة في سورية. بعض السوريين يكتبون كلمة “قلت” هكذا “إلت” (يكتبون همزة بدلا من القاف). هم يعلمون أن الكتابة الصحيحة هي “قلت”، ولكنهم يتجنبون الكتابة الفونيمية ويستخدمون الكتابة الصوتية.
لماذا يفعلون ذلك؟ هو ربما نوع من الكسل الفكري. الكتابة الصوتية تتطلب قدرا أقل من التفكير مقارنة بالكتابة الفونيمية. ربما لهذا السبب هي أحب إلى الناس.
الناس في بعض الأحيان يستخدمون الكتابة الصوتية بسبب الجهل وليس بسبب الكسل الفكري. هذه الظاهرة تحدث عندما يكتب الإنسان كلمات تنتمي إلى لغة غريبة عن لغته.
اللغة التركية تحوي كثيرا من الكلمات عربية الأصل، ولكن هذه الكلمات كثيرا ما تلفظ بصوت مختلف عن الصوت العربي الأصلي.
من الأمثلة على ذلك الكلمات التي تنتهي بالتاء المربوطة.
في معظم اللهجات العربية التاء المربوطة لها ألوفونان، الألوفون الأول تظهر فيه التاء [at] والألوفون الثاني لا تظهر فيه التاء [a] (هذه الأصوات لا تسمى ألوفونات ولكنها تسمى ألومورفات allomorphs. أنا سميتها الآن ألوفونات تجاوزا).
مثلا كلمة “رحمة” تلفظ في العادة هكذا [raћma]. في هذا اللفظ التاء المربوطة تلفظ هكذا [a]. ولكن عند إضافة الكلمة إلى ضمير فإن التاء المربوطة تلفظ هكذا [at] (مثلا كلمة “رحمتك” تلفظ هكذا [raћmatuk]).
في اللغة التركية التاء المربوطة عربية الأصل لها دائما صوت واحد هو في الغالب الصوت الذي يكتب بالأحرف التركية هكذا et. مثلا كلمة “رحمة” العربية هي هكذا rahmet. التاء التي في نهاية هذه الكلمة تلفظ دائما ولا تسقط أبدا من النطق. نفس الأمر ينطبق على معظم الكلمات الأخرى التي تنتهي بتاء مربوطة عربية الأصل. مثلا كلمة “أَمْنية” هي هكذا emniyet، وكلمة “حرية” هي هكذا hürriyet (بعض الكلمات تنتهي بـ e بدلا من et. مثلا كلمة “شبهة” هي هكذا şüphe، وكلمة “مجادلة” هي هكذا mücâdele. هذه الكلمات هي دائما دون تاء).


العربي الذي لا يملك معرفة كبيرة باللغة التركية لا يعرف أن الصوت التركي et يقابل التاء المربوطة العربية. لهذا السبب العرب الذين يسمعون كلمة rahmet التركية يكتبونها في الغالب هكذا “رحمت”، ويكتبون كلمة emniyet هكذا “أمنيت” ويكتبون كلمة hürriyet هكذا “حريت” (هذا هو أصل الأسماء الشخصية التي من قبيل “رفعت” و”رأفت” و”عزت” إلخ). عندما يحاولون أن يكتبوا هذه الكلمات فونيميا فإنهم في الغالب يكتبونها بشكل خاطئ (مثلا هم ربما يكتبون كلمة rahmet هكذا “رحمات” وكلمة emniyet هكذا “أمنيات”، لأنهم يظنون أن et تعادل الألف الممدودة والتاء)

ليست هناك تعليقات: