2015/07/19

التراث المادي والتراث المعنوي

يعتقد كثيرون أن مدلول كلمة «التراث» يقتصر على الخرائب الأثرية وبقايا كسر الفخار واللقى الأثرية، على رغم شمول التراث الكثير من الأشياء البسيطة الغالية على القلب في الوقت ذاته، كالتحف التذكارية، والحُلي، والصور الفوتوغرافية، والمجوهرات، والقطع
الأثرية، والتحف الفنية، فكل ذلك يندرج ضمن قائمة التراث.
يُعرف التراث بمفهومه البسيط على أنه خلاصة ما تُخلفه الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة، أو ما يُخلفه الأجداد كي ينهل منه الأحفاد، ويُضيف إليه جيل بعد جيل من خبرات حياته، على أي شكل كان من خلال العمارة أو الكتابة أو النقش أو الحاجات أو المصنوعات. أو هو بمعنى آخر «نتاج شعب أو جماعة تعيش في مكان معين وتعتقد وتمارس وتصنع أموراً خاصة في زمن خاص». فالتراث إذا معين ثري لا ينضب من المعرفة، ومصدر الهوية. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، وكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمن. ومن الناحية العلمية هو علم ثقافي قائم بذاته يختص بأحد قطاعات الثقافة، ويُلقي الضوء عليها من زوايا أثرية وتاريخية وجغرافية واجتماعية ونفسية، ويعنى بكل ما بقي على الأرض من دلالات حضارية وأطلال أثرية ترجع إلى العصور الماضية. أما التراث الحضاري فهو «نتاج الحضارات من فترة ما قبل التاريخ مروراً بالحضارات المختلفة في مختلف المناطق وصولاً إلى ما يُسمى اليوم فترة التراث الشعبي».
تعني كلمة التراث في اللغة العربية «الإرث» وبالتالي تشمل الحسب والنسب فضلاً عن الميراث المادي بأنواعه المختلفة، وفي دعاء زكريا، عليه السلام، «رب هب لي من لدنك ولياً، يرثني ويرث من آل يعقوب»، أي النبوة، وليس المال، وكذلك «وورث سليمان داود»، أي نبوته وملكه. أما في اللغة الإنكليزية فيُطلق على التراث كلمة Heritage، أي ما يتوارثه الإنسان، ويُحافظ عليه وينقله لمن بعده، وفي اللغة الفرنسية تُعبر كلمة Patrimoine عن التراث، وهي كلمة من أصل لاتيني مكون من شقين، الأول بمعنى الأب، والثاني بمعنى التعليم والإرشاد والنصح، وبالتالي فإن معناها يعكس أهمية الأشياء التي تُذكرنا بالآباء والأجداد، أي تلك التي تربطنا بالأسلاف والتاريخ.
يتمثل الشق المادي للتراث في ما يُخلفه الأجداد من آثار ظلت باقية من منشآت دينية وجنائزية كالمعابد والمقابر والمساجد والجوامع، ومبان حربية ومدنية مثل الحصون والقصور، والقلاع والحمامات، والسدود والأبراج، والأسوار، والتي تُعرف في لغة الأثريين بالآثار الثابتة، إلى جانب الأدوات التي استخدمها الأسلاف في حياتهم اليومية، والتي يُطلق عليها الأثريون الآثار المنقولة. ويُعد كذلك التراث الطبيعي جزءاً مهماً من التراث الحضاري، ويقصد به التشكيلات الجيولوجية والمواقع الطبيعية، ومناطق الجمال الطبيعي، والتي تتألف كمواطن للأجناس البشرية والحيوانية والنباتية، وعلى هذا فإن سواحل البحار، والكثبان الرملية، والسلاسل الجبلية، والأخوار، بل وحتى الأغنام، والنمور البرية، والفهود السود، كلها تشكل جزءاً من التراث الذي يجب الحفاظ عليه، باعتباره تراثاً للإنسانية مُعرضاً للانقراض.
يُعرف الشق المعنوي للتراث باسم «التراث الشعبي»، ويتكون من عادات الناس وتقاليدهم، وما يُعبرون عنه من آراء وأفكار ومشاعر يتناقلونها جيلاً عن جيل، وهو استمرار للفولكلور الشعبي كالحكايات الشعبية، والأشعار والقصائد المتغنى بها، وقصص الجن الشعبية، والقصص البطولية، والأساطير، ويشتمل على الفنون والحرف، وأنواع الرقص واللعب، والأغاني، والحكايات الشعرية للأطفال، والأمثال السائرة، والألغاز، والمفاهيم الخرافية، والاحتفالات والأعياد الدينية. وهذا الشق من التراث لا يقل أهمية عن التراث الثقافي والطبيعي، فهو يُخلد ذاكرة الوطن وهويته، لأنه يرتبط بالمأثورات الشعبية والمعارف، والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، وكذلك المهارات المرتبطة بالفنون والحرف التقليدية وفنون الأداء. وبهذا فإن مصطلح «التراث الثقافي» ليس قاصراً على المعالم التاريخية الأثرية والتحف الفنية، بل يشمل التقاليد الشفوية، والممارسات الاجتماعية، والمعارف والمهارات الحرفية التقليدية، وكذلك الأكلات الشعبية، والوصفات التي تعود إلى عصور قديمة، فالتراث غير المادي، شأن الثقافة، يتغير ويتطور ويزداد ثراءً جيلاً بعد جيل، ولكن في ظل الحداثة والعولمة باتت كثير من أشكال التعبير ومظاهر التراث الثقافي غير المادي مهددة بالاندثار، وأصبحنا بحاجة لاتخاذ تدابير من أجل أن يظل هذا التراث جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الشعبية والهوية الوطنية، فنحن بحاجة لمحاولات جادة لإحياء وتطويع التراث ليُصبح في متناول الجيل الجديد، ويغدو منبعاً ثرياً يُسهم في تحقيق الثقافة والقومية العربية والهوية الإسلامية.
يُمكن تقسيم المأثورات الشعبية إلى أربعة فروع رئيسة كبيرة، تتفاعل وتتكامل معاً، هي: الأدب الشفوي كالحواديت والأغاني والسير والأمثال والأساطير والخرافات. والثقافة المادية، كالفنون والحرف والعمارة والأزياء وأساليب التزيين، وطرق الطهي. والعادات والمعتقدات، كالأعياد والاحتفالات والألعاب، وأساليب التداوي، والمعتقدات الدينية والشعبية والنظرة إلى الكائنات والكون وتفسير نشأته ومصيره. وفنون الأداء، كالموسيقى والرقص والدراما.
يحمل التراث أهمية كبرى لدوره الفعال في تغذية العقل الجمعي ومده بالقيم، إلى جانب إسهامه في تشكيل الوعي العام، ولهذا كان الحفاظ عليه ونشره ونقله عبر الأجيال والحرص على ضمان استمراريته مسؤولية الجميع بلا استثناء، فكلنا راع وكلنا مسؤول عن صون تراثنا الذي يُمثل خيطاً شعورياً يضمن تواصل الأجيال، كما يحدد ملامح هويتنا. فبعد التطور الذي شهدته دول الوطن العربي، ومن بينها الإمارات، أصبح من الضروري أن نقف على ملامح حضارتنا، ومدى ارتباطها بأصولنا التراثية، وأن نثبت عدم صدقية الحركات الجانحة نحو الاستغراب سواء بتأثير العولمة أو غيرها من الظواهر التي أسفرت عن تعثر واضح وميلاد هجين لا جذور له ولا خصوصية. ولكن تمسك وارتباط الناس بماضيهم وعراقتهم وجذورهم دفعهم في شكل تلقائي إلى إيجاد سُبل جديدة تتماشى مع ما نحن فيه من طفرة حضارية تتلاءم ورغباتنا العاطفية التي تنزع إلى الحنين إلى الماضي.
تكتمل هوية الإنسان بالتراث سواء كان مادياً أم معنوياً؛ فهو ضرورة إنسانية، وأحد ركائز الهوية التي من دونها يُصبح الإنسان كالريشة تتقاذفها الرياح، ويقول المثل الشعبي المصري «من فات قديمه تاه»، وقديم الإنسان هو تراثه وتاريخه الذي يُمثل المرايا العاكسة التي ينظر إليها قائد السيارة من آن لآخر أثناء قيادته؛ كي يُحسن استخدام الطريق؛ وكي يصل إلى مقصده بسلام من دون أن يُعرض نفسه لأي خطر مُحتمل أو مُفاجئ. والتراث بشقيه يكتسب يوماً بعد الآخر أهميته من كونه مصدراً للفخر بحضارات الأجداد، وبالتالي يُعد الحفاظ على التراث والعمل على تنميته خياراً استراتيجياً للدول العربية، التي تنعم بتاريخ طويل وممتد في حضارات عظيمة أوجدت لنفسها مكانة سامية، وتقف شواهدها شامخة، منذ عصور ما قبل التاريخ وصولاً إلى أحدث الإبداعات الإنسانية. والحفاظ عليه ضرورة لها، خصوصاً هي تنظر بأمل تستشرف آفاق المستقبل، ولهذا لزاماً عليها أن تسترجع النقاط المضيئة في ماضيها؛ لتستمد منها العون للوصول لغدٍ أفضل. ومن المؤكد أن الحفاظ على التراث، كان، ولا يزال، نواة المفهوم الجديد للتراث العالمي الذي تضمنته اتفاقية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972 التي وضعت بنودها منظمة اليونسكو.

* صحافي وأكاديمي مصري

ليست هناك تعليقات: