2016/01/11

المعجم الدلالي بين العاميّ والفصيح

المعجم الدلالي بين العاميّ والفصيح

د. حسناء القنيعير
    قال بعض أهل العلم: «يتوق كل من يؤلف كتاباً إلى المدح، أما من يؤلف معجماً فحسبه أن ينجو من اللوم» وأحسب أن هذا القول مبالغ فيه حيث لا ينطبق بالضرورة على كل من ألف معجما ومن هؤلاء صاحب المعجم الذي بين أيدينا وهو المعجم الدلالي بين العامي والفصيح الذي ألفه الدكتور
عبدالله الجبوري، وعالج به لوناً من ألوان التأليف المعجمي في العربية، وهذا اللون هو دراسة ألفاظ وقع عليها تطور دلالي بعضها فصيح ويظنه الناس عامياً ،وبعضها الآخرعامي يعده الدارسون فصيحا، ولكل منهما وجه من الاستعمال صحيح فصيح. والعاميات التي جاء المؤلف على ذكرها عاميات عربية خصص منها عامية العراق.
ويعد هذا النوع من المعاجم خطوة رائدة في طريق بناء المعجم اللغوي الجديد (المعجم اللغوي التاريخي) الذي تفتقر إليه اللغة العربية وتكشف مادته اللغوية عن علاقة اللغة بالمؤثرات الخارجية تلك العلاقة التي تعد سمة من سمات اللغات المتطورة بحيث يكون المعجم سجلاً شاملاً لكل مفردات اللغة العربية الأصيلة منها والمعربة والدخيلة والمولدة التي استخدمت في حياة اللغة منذ بدايتها الموثقة حتى الآن، على مستوى لغة التأليف والكتابة مع بيان تطور كل كلمة ورسمها وما طرأ على نطقها أو صيغتها أو تصريفها واستخداماتها المختلفة ومستويات تلك الاستخدامات ومعانيها ودلالاتها وتطور تلك الدلالات، مع إيراد النصوص والاقتباسات الدالة التي وردت فيها الكلمة.
وعلم الدلالة (semantics) من أخص مباحث علم اللغة وقد كتب فيه المتقدمون كثيراً من المؤلفات، ومعلوم أن الدلالة تتعرض لكثير من التغير أو التطور لأسباب أفاض في الحديث عنها اللغويون القدامى والمحدثون، ذلك أن التطور الدلالي مؤشر من المؤشرات الدالة على حيوية اللغة ونموها وامتدادها واتصالها، نتيجة للاستعمال وما يقتضيه الواقع المعاش لأبناء اللغة وما يعتريه من عوامل التطور وتقلّب الأحوال وتغيّر أنماط المعيشة وغير ذلك مما يصبغ حياة الأمم.
يقع المعجم في مائة وأربع وثمانين صفحة، وصدرت طبعته الأولى عام 1998عن مكتبة لبنان، وقد نسقه المؤلف على حروف الهجاء فجعله (ثلاثي التركيب، الحرف الأول فالثاني فالثالث). وقدم له بمقدمة عن الدلالة وتطورها لدى القدماء، وقد تناول ألفاظ اللغة الشائعة في الاستعمال، وكتب أمام كل لفظ المقابل باللغة الإنجليزية، ولا أدري ما الذي دفع المؤلف إلى ذلك لاسيما أن المعجم كما يبدو أحادي اللغة لأن شرح الألفاظ وطريقة استخدامها كان بالعربية فقط، كذا يتضمن الألفاظ الشائعة في الاستعمال في الحياة اليومية بمعنى أنه لم يتناول الألفاظ ذات الاستخدامات العلمية التي لا يستخدمها إلا المختصون ويحتاجون إلى معرفة مقابلها الأجنبي ،مما يعني أن القارىء باللغة الإنجليزية ستكون فائدته محدودة من هذا المعجم. أما المصادر التي استقى منها مادته - حسبما ذكر- فهي المعاجم اللغوية، حيث ذكر اللفظ كما ورد فيها ثم بحث في استعماله لدى أهل الأدب والتاريخ، ثم أخذ في عقد موازنة تاريخية تأصيلية بينه وبين نظيره في اللهجات العربية المعاصرة التي سماها «العاميات العربية» ثم نسب اللفظ إلى واحدة منها أو أكثر حسبما اقتضاه اللفظ.
ولدى استقرائنا للمعجم وجدنا المؤلف لم يفِ بما وعد في بعض المواضع، فتارة يأتي على ذكر الكلمة في إطارها الفصيح دون أن يذكر لها استخداماً دلالياً جديداً سواء في المستوى الفصيح أو العامي، وذلك مثل: الترهات، والإمعة، والحدج، والحارس، والحيّز، وركح، والشط، والصمد، والتصويب، والضريبة وغير ذلك.
وتارة يأتي على ذكر ألفاظ تطورت دلالتها في استعمال العامة في العراق أو لبنان أو إحدى دول الخليج العربي لكنه لا يذكر ضمن ذلك ما استعمل منها في منطقة نجد وهذا كثير ولا يليق بمعجم يرصد دلالات الألفاظ في استخدام العامة ولا يأتي على ذكر منطقة لغوية كبيرة كمنطقة نجد وهي لا تبعد جغرافيا عن المناطق التي ذكرها، ويعود هذا ربما لعدم إلمام المؤلف بلهجة هذه المنطقة. ومن ذلك قوله:
1 - «بلش به ولبش إذا انهمك بضربه ومنه البلشة بسكر الباء المفردة ويقصدون بها الورطة... وفي اللبنانية بَلْشة ورطة ومحنة، وبلَّش بدأ...» ولم يمر عليَّ استخدام اللبنانيين لكلمة «بَلْش» للدعاء بالشر.
2 - «البلم قارب صغير مشهور الاستعمال في بغداد.... والأصل عربي قديم انتقل من العربية إلى الآرامية والسريانية والعبرية» ولم يذكر أن بعض العامة في نجد يستخدمون كلمة (بلم) لطبق بيضاوي الشكل تقدم عليه المأكولات كالأزر ونحوه. وربما يكون هذا الاستخدام من باب الاستعارة حيث يوجد شبه شكلي بين القارب والبلم.
3 - «الحميس وهو التنور ومنه: حمس الشر: اشتد... والمحموس عندهم: لحم يسلق بالماء ثم يقلى بالسمن، وكذلك الشحم (إلية الخروف) تقلى ليخلص وسمنها ويبقى ثفلها فيقلى وهذا هو الحميس أو المحموس» وفات المؤلف أن الحميس معروف في منطقة نجد وهو اللحم الذي يطهى مع الماء وبعض البهار حتى ينضج ويشرب ماءه كله. والحميس على وزن فعيل المحول عن مفعول مثل كثير من المأكولات في منطقتنا كالجريش والهريس وغيرهما.
4 - «الخبن... خبنت الثوب، إذا رفعت ذلاذله حتى يتقلص بعد أن تخيطه وتكفيه...» والعامة في بلادنا تستخدم الخبن في دلالته القديمة وهو كفُّ طرف الثوب أو (البشت) ليكون طوله مناسباً لطول لابسه.
5 - «الرقي هو البطيخ الشامي.... وعند أهل نجد واليمن الحبحب... ويعرفه أهل الإمارات العربية باسم (اليح والرقي)...» وفاته أن العامة في نجد يسمونه (الجح) الذي قلبت جيمه ياءً في لهجة أهل الإمارات كما ذكر.
6 - «الزبن التمرد... والزبون نوع من الألبسة التي تلبس فوق الثياب...» والعامة في نجد تقول زبن فلان عند فلان أي لجأ إليه متوارياً عن الأعين.
7 - «السنع الجمال.... وفي لهجة أهل نجد الآن هذا الأمر سُينع أي جيد» والصواب أن أهل نجد يقولون هذا أمر سنع وليس سُينع.
8 - «شخل في الموصيلة: شَخَل: انحدر، وهو من الفصيح: شخل الشراب: صفاه... والمشخل والمشخلة بالكسر اسم الآلة: المصفاة..» والعامة في نجد يستخدمون اسم الآلة من (شخل) على وزن مِفعالة فيقولون مِشخالة.
9 - «شقح وعند العامة في بغداد شَقّاحة للمرأة الماكرة» وشقح في نجد تعني تخطي الشيء بالقفز من فوقه.
10 - «شلخ... الشقُّ نصفين... يقولون شلخه شلخاً...» وهو الاستخدام نفسه في لهجة النجديين ويستخدمونه للأشياء التي تقسم نصفين كالبطيخ.
11 - كحص «الكاحص الضارب برجله، ومن استعمال العامة، كحص فلان يكحص... زحف عن موضعه». والعامة في نجد يقولون قحص فلان قام من مجلسه.
12 - الكفخة «كفخة بالعصا... كفخاً إذا ضربه... والكفخ في العامية العراقية الصفع على الرأس فقط ويكون باليد...» وعامة نجد يستخدمون الكفخ في المعنى نفسه لكنهم أحياناً يبالغون فيه فيستخدمونه مضعفاً (كفَّخ) بتشديد أوسطه على وزن فعّل للدلالة على الكثرة والمبالغة.
13المعط «معطه بالسوط... والمعط عندهم الأخذ بقوة، يقولون فلان معط الشيء....» وبعض العامة في نجد يستخدمون الكلمة في الدلالة على أخذ الشيء بالقوة من يد ماسكه.
14 - الهجاج «...هج البيت يهجه هدمه... وفي العامية هججه: طرده...» وبعض عامة نجد يقولون: هجَّ الباب إذا فتحه.
15 - الهوش «هو الفساد والاختلاط، ومنه هوشات السوق...» وفي العامية النجدية الهوش والهواش هو الخصام والنزاع حيث تطورت دلالة الكلمة فبعد أن كانت تعني الفتنة والهيج والاضطراب والهرج والاختلاط حسب لسان العرب، ضيقت دلالتها فأصبحت تعني علو الأصوات عند النزاع على شيء بين طرفين أو أطراف.
هذا بعض مما أردت استدراكه على المعجم، الذي يكشف بلا ريب عن جهد كبير قام به المؤلف لاسيما فيما يتعلق بتأصيل بعض الألفاظ بردها إلى أصول لغوية قديمة معظمها قد مات واندثر كالآشورية والسريانية والبابلية والفينيقية والآرامية والعبرية.
وما ذكرناه من ملاحظات لا يقلل بأي حال من قيمة المعجم وريادته في مجاله لاسيما بالتأصيل لبعض الألفاظ الرائجة في المنطقة، ونتمنى أن يستدرك المؤلف في الطبعات اللاحقة ما فاته من ذكر لاستعمال بعض الألفاظ لدى عامة نجد حيث إن هذه العامية تنتشر على مساحة جغرافية كبيرة من جزيرة العرب لا يمكن لأي باحث في اللهجات العامية أن يغفلها، بل إننا لا نبالغ فيما إذا قلنا إن معظم اللهجات العربية الواقعة على ساحل الخليج العربي ليست إلا امتداداً لها.

ليست هناك تعليقات: