2016/02/07

انهيار لغة السُّوق

الكاتب: حبيب محمود
في العصر الجاهلي، مثلاً، كانت السُّوقُ وعاءً للغة المشتركة. وُفود القبائل العربية كانوا يتوافدون على مكة حُجّاجاً وتُجّاراً، وكان عليهم أن يتفاهموا عبر اللغة. لذلك كانت لغة المكان، لغة قُرَيش، هي الوسيط اللغويّ الأمثل للتواصل والتفاهم.
في العصر الجاهلي كانت هناك لهجاتٌ عربية كثيرة، غير اللهجة القرشية، إلا أن موقع مكة الرُّوحيّ والتجاريّ كرّس النظام اللغوي السائد فيها وفرضه على سائر العرب.
ولذلك؛ نزل القرآن الكريم على النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغة قُريش، بوصفها لغة رئيسةً ومشترَكة، ويفهمها العرب الآخرون. فضلاً عن كونها اللغة الأكثر صفاءً وخُلوَّاً من الشوائب اللسانية، التي لحقت بلغات العرب الأخرى لأسباب مختلفة.
مفهوم السوق هذا؛ يمكن ملاحظته على اللهجات المحلية الدارجة في كلّ الحواضر. فاللهجة المحلية -في أيّ مكان- هي نظامٌ لغويٌّ مشترَكٌ للجالية الاجتماعية. ابن البلدة الرّيفية يتربّى على نظام لغويّ فيُتقنه ويورّثه لأبنائه. ومثل ذلك ابن البلدة الساحلية، وابن القبيلة البدوية أيضاً.
وفي هذا النظام تنعكس الحقائق الجغرافية والثقافية والاقتصادية للمكان وساكنيه، وكلّ شيء يُمارسه المجتمع، مهما كان صغيراً. إلى السوق تذهب المنتجات المحلية، وإليه يذهب السكان، وفيه يتفاهمون، ويتبايعون، ويحتاجون في ذلك إلى لغة مشتركة تحدّد الدلالات المطلوبة بدقة وغير قابلة للالتباس. في السوق معجمٌ غنيٌّ وثريٌّ جداً، ذلك أنه يشكّل ـ أيضاً ـ منطقة تواصل بين الأجيال، وليس بين البائعين والمشترين فحسب. الأفراد يتلقَّفون الكلمات والدلالات من ألسنة الأفراد الآخرين. وكلهم يجمعهم نظام لغوي مشترك، أو تجمعهم أنظمة لغوية متقاربة.
وإذا فهمنا هذا؛ فإن ذلك يقودنا إلى فهم أمرٍ آخر، هو أن اللهجات المحلية في بلادنا لم تعد هي الوسيط الأمثل في أسواقنا. بتنا نحتاج إلى تعديلات كثيرة على الأنظمة اللغوية/ اللهجية، بحكم أن المتزاحمين في الأسواق يختلطون بجاليات كثيرة. والباعة المحليون تراجعت أعدادهم لصالح الباعة الآتين من شرق آسيا. والتفاهم اليومي معهم يحتاج إلى لغة وسيطة غير لغة الجالية الاجتماعية القديمة.
صحيح أن الآسيويين يتأثرون بلغتنا ويتحدّثون بمفرداتنا، لكنّ النظام اللغوي ليس مفرداتٍ فحسب. إنه نظامٌ متكامل يحتضن كثيراً كثيراً من المفاهيم والأعراف. هذا يعني أننا نتخلّى، شيئاً فشيئاً، عن أنظمتنا اللغوية/ اللهجية في سعينا إلى تسيير أمورنا.
انهيار لغة السوق المحلية؛ يعني ـ بالمحصّلة ـ نُشوء نظام لغويّ جديد ليحلّ محلّ النظام القديم، الذي يمثّل إرثاً في جانبٍ من جوانب الثقافة الاجتماعية.

ليست هناك تعليقات: