2016/02/29

الراحل الدكتور عبد الصبور شاهين من علوم القرآن إلى اللسانيات

د، محمد جمال صقر
مات أستاذنا الدكتور عبد الصبور شاهين؛ فـ «مَنْ سَرَّه أَنْ يَنْظُرَ كَيْفَ ذَهابُ الْعِلْمِ فَهكَذا ذَهابُه»، أو كما قال ابن عباس ترجمان القرآن، حين مات زيد بن ثابت ـ رضي الله عنهم ! ـ كاتب الوحي وجامع القرآن وعالم الأنصار؛ فصَدَّقَ قَوْلَ رسول الله ـ صلى الله عليه، وسلم! ـ: «إِنَّ اللّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزاعاً يَنْتَزِعُه مِنَ الْعِبادِ، وَلكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَماءِ؛ حَتّى إِذا لَمْ يُبْقِ عالِماً اتَّخَذَ النّاسُ رُؤوساً جُهّالًا، فَسُئِلوا؛ فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلّوا، وَأَضَلّوا»!
لقد درستُ عليه أربع سنوات، منذ سنة 1404هـ=1984م الجامعية، دراسة نظامية بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة: أولى دار العلوم، وفيها كان كتابه «علم اللغة العام»، وثانيةَ دار العلوم وفيها كانت ترجمته لـ «علم الأصوات»، كتاب برتيل مالمبرج، ورابعةَ دار العلوم وفيها كان كتابه «دراسات لغوية»، وتمهيديةَ قسم علم اللغة وفيها كان كتابه «المنهج الصوتي للبنية العربية: رؤية جديدة في الصرف العربي». ثم جلستُ إليه مجالس مختلفة، واطلعتُ على كثير من أعماله اطِّلاعاً حُراً، ولكن لم يقم لمعرفتي به شيء مثلما قامت تلك السنوات الأربع!
لقد كان من علماء القرآن دِرايَةً وتِلاوَةً، وما مَثَلُه في الناس إلا مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ ريحُها طَيِّبٌ وَطَعْمُها طَيِّبٌ، أو طَعْمُها طَيِّبٌ وَريحُها طَيِّبٌ، على رِوايَتَيْ تَمْثيلِ رسول الله ـ صلى الله عليه، وسلم ! - مَثَلَ المؤمن الذي يقرأ القرآن؛ تَجْذِبُك إليه أحيانا تِلاوَتُه ثم دِرايَتُه : ريحُها طَيِّبٌ وَطَعْمُها طَيِّبٌ - وتَجْذِبُك إليه أحياناً دِرايَتُه ثم تِلاوَتُه : طَعْمُها طَيِّبٌ وَريحُها طَيِّبٌ!
كان أستاذنا رجلاً طويل القامة صحيح البنية أنيقاً وسيماً ميسور الحال مبسوط اليد صافي القلب مصريا عربيا مسلما عبقريا غيورا طموحا، يحار الناس فيه، تُحَيِّرُهم مناقبه، لا مثالبه؛ فلقد نَشَأَ وشَبَّ واكْتَهَلَ وشَيَّخَ راضيا عن حاله، ساخطاً على حال أمته، وامتحنه الله - سبحانه وتعالى! - بالسجن قريباً من منتهى طلبه الجامعي ومبتدأ انطلاقه المعيشي؛ فكأنما أَطارَ بالسجن طائِرًا كان في صَدْره؛ ففَزِعَ كُلَّ مَفْزَعٍ، واشتغل بأعمال كثيرة، ينوء بها العصبة أولو القوة، من غير أن ينخلع في أي منها، عن رضاه ذاك ولا عن سخطه؛ فكان في أكثرها كأنما يُثيرُ الناس إليها، ويغريهم بها، ليُحَقِّقوا منها ما لم يَتَحَقَّقْ، ويُدَقِّقوا ما لم يَتَدَقَّقْ، غيرَ ضائِقٍ بهذه المنزلة!
ها هو ذا يتحدث في تقديمه كتاب «الإسلام يتحدى» لوحيد الدين خان، عما أريد له أن يكونه فأباه أشد الإباء ورصد حياته للثورة عليه، قائلاً: «جاء جيلنا ليتوهم ـ أو ليراد له أن يتوهم ـ أنه مجرد وارث لأجيال سابقة، عليه أن يستغل تركتها في خلق ملذاته، فإذا ما جوبِهَ بتحديات عصره لجأ إلى المباهاة بتراثه، المباهاة وحدها، المتمثلة في أكثر الكتابات المنشورة، التي لا تمل أن تحكي وتحكي، حكايات في حكايات، وتقف أحيانا مستعلية من فوق منبر، لتمطر على الحضور وعظاً في وعظ، دون أن تبلغ في ظن الجماهير أن تهز وجدانا، أو حتى تحرك قشة. إن أخص صفات عصرنا هي أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء، وليس من الضروري أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون نافعة دائماً كالأشياء؛ فإن المجتمعات التي تصدر إلينا أشياء الحضارة ترى في الأفكار سلعة ينبغي أن تتغير كل يوم، كما تتغير طرز الأشياء؛ ولذلك يقف مثقفونا مبهورين أمام موجات الفكر الواردة من الخارج: ماذا يأخذون، وماذا يدعون؟ بل قل: ماذا يقرؤون، وماذا يترجمون؟ ولا شيء أكثر من هذا! يكفيهم أن يستطيعوا ملاحقة الأفكار، دون أن يكون عليهم أن يواجهوها، أو ينقدوها؛ فهم إلى أن يصوغوا نقدا معينا لأحد الاتجاهات الجديدة نسبياً يكون الوقت قد فات، وتَقادَمَ بمرور الزمن ما ينتقدون، وغطت عليه أفكار أخرى أشد لمعانا وأكثر جاذبية وإشعاعاً. ومما لا شك فيه أن العالم الإسلامي هدف ثمين من أهداف تصدير الأفكار، نظراً إلى موقعه وخطورة موقفه بين الكتل المتصارعة، أو بعبارة أخرى مراكز الإنتاج. والهدف من وراء التصدير واحد لدى كل هذه المراكز؛ أن يبقى هذا العالم مفتقراً إليها على اختلافها، وأن يحال بينه وبين أفكاره الأصيلة، التي يمكن أن تغنيه عن الاستيراد، وتحقق له الاكتفاء الذاتي».
تلك كلمةٌ له في تقديم عملٍ لغيره، ولكنها أوجز ما يعبر عن رسالة الثقة والطموح والسخط والجرأة، التي وَطَّنَ عليها نفسه ورصد لها أعماله. والأمثلة كثيرة:
منها عمله بكتابه «القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث»، الذي قال في مقدمته: «هذا كله (أعمال اللغويين الحداثيين المعاصرين) وغيره على كثرته وغناه، لم يحاول أن يقترب من دراسة ظواهر اللغة العربية الفصحى دراسة نقدية، تصفي آراء القدماء، وتقومها، وتضع حلولاً جديدة للمشكلات التي بقيت دون حل، أو التي نالت حلاً خاطئاً قام على تصور قديم خاطئ»؛ فأغرى الدكتورَ الطيب البكوش بإنجاز مأموله، وإن لم يبرأ من النعي عليه قائلاً: «إن ما نجده في بعض عناوين هذه الكتب من إشارة إلى ذلك (الدرس في ضوء العلوم اللسانية الحديثة) لا يخلو من ادعاء؛ فنحن لا نجد فيه من الألسنية الحديثة إلا بعض المصطلحات والمفاهيم الثانوية، أما المبادئ الأساسية كالنظام ووظائف وحداته وعلاقة بعضها بالبعض، فإننا لا نجد فيه أثراً لذلك، وهو ما يستوجب إعادة النظر فيها بصفة أعمق وأحدث، مع إثرائها وإنارتها بنتائج البحوث في اللهجات العربية العصرية على اختلافها».
ومنها عمله بكتابه «المنهج الصوتي للبنية العربية: رؤية جديدة في الصرف العربي»، الذي قال في مقدمته: «إن المهم دائما هو الوصول إلى الحقيقة، ولكن وسيلة الوصول تختلف من عصر إلى عصر. ولقد كانت للأقدمين وسائلهم المناسبة لبلوغ ما طلبوا من الحقيقة، ثم مضوا إلى مستقرهم تاركين بصماتهم على ما خلفوا من آثار ودراسات، فيها وصف لما عرفوا من الحقيقة من وجهة نظرهم، وجاء بعد ذلك دورنا في محاولة الوصول إلى الحقيقة، بوسائلنا لا بوسائلهم، ومن وجهة نظرنا، لا من وجهة نظرهم، ولكن عوامل التقليد تقف دائما دون هذه المحاولة في ميدان الدراسات العربية، ولا سيما النحو والصرف. والتقليد هنا يشبه ما يسمى بسياسة فرض الأمر الواقع، على أنه حقيقة يستحيل تغييرها، وليس في معارف البشرية ما يمكن أن يكون قد بلغ الكمال، حتى يستحيل تغييره، ما دام مصدره هو العقل الإنساني؛ فهذا العقل يؤكد في كل لحظة نقصه، بسعيه الدائب نحو كشف المجهول»؛ فأغرى أستاذَنا الدكتور سعد مصلوح بتأمل عمله، مُتَحَفِّظاً منه بمثل قوله: «أشهد أن هذا المنهج أثار حفيظتي بالفعل، وليس حسَناً أن تذهب هذه الدعوة الكريمة بَدَدًا دونما جواب؛ ومن ثم عمدت إلى بعض ما عنّ لي من ملاحظات، لأجعله تحت بصر مؤلف الكتاب وقرائه؛ لعله ولعلهم واجدون فيها ما يقع في دائرة النقد البناء الذي يقوم المعوج ويسد الخلل».
ومنها عمله بكتابه «أبي آدم : قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة»، الذي قال في أثنائه: «لا يطلق لفظ (إنسان) بمفهوم القرآن إلا على ذلك المخلوق المكلف بالتوحيد والعبادة لا غير، وهو الذي يبدأ بوجود آدم - عليه السلام - وآدم على هذا هو (أبا الإنسان) وليس (أبا البشر)، ولا علاقة بين آدم والبشر الذين بادوا قبله، تمهيداً لظهور ذلك النسل الآدمي الجديد، اللهم إلا تلك العلاقة العامة أو التذكارية، باعتباره من نسلهم»؛ فأغرى أستاذَنا الدكتور محمد بلتاجي حسن بتأمل عمله، مُتَحَفِّظًا منه بمثل قوله: « قد حاكمنا كتاب الدكتور عبد الصبور إلى المعيار الذي قَبِلَه (مراعاة قداسة النصوص المنزلة وعدم مخالفة معلوم من الدين بالضرورة...)؛ فتهاوت مقولاته واحدة بعد الأخرى (...) فهل يعيد الدكتور عبد الصبور النظر في مقولات كتابه على ضوء ما فصلناه؟ نرجو ونأمل».
قال لي مرةً بعضُ تلامذتي: ألا تمر محاضرة من غير أن تذكر الأستاذ محمود محمد شاكر؟! إن كثرة ترديد اللسان علامة تعلق القلب، ولقد تعلق أستاذنا الدكتور عبد الصبور شاهين بالدكتور إبراهيم أنيس؛ فلم يكن يترك ذكره لنا، ولا يمله، تعبيرا عن أفضاله، وتنبيها على أعماله. لقد حظي بالجلوس إليه كما حظي غيره - وإن استفاد ما لم يستفيدوا - ثم حظي بإشرافه عليه في عمله برسالتيه للماجستير والدكتوراه جميعاً، فكانت بينهما علاقة وثيقة طويلة، أَثَّرَتْ في بناء تفكيره العلمي اللغوي وممارسته العملية التعليمية، تأثيراً كبيراً، حتى قال فيه في آخر مقدمة كتابه «أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي»، الذي كان رسالته للماجستير: «أسجل هنا عرفاني لأستاذي المغفور له الدكتور إبراهيم أنيس، على ما أمدني به من مراجع وتوجيهات كان لها أبعد الأثر في إنجاز مهمتي؛ فكثيراً ما دلني على وجهة الحق، كما جنبني مزالق كثيرة، رحمه الله وجزاه عن العلم والمتعلمين جزاء العلماء! ولئن كان هذا البحث قد أُنْجِزَ في حياته، فقد كتب الله ألا ينشر إلا بعد وفاته، راجياً أن يكون ذلك رضاً له في بَرْزَخِه». وقال في آخر مقدمة كتابه «تاريخ القرآن»، الذي كان الجزء الأول من رسالته للدكتوراه : «لست أريد أن أضع القلم قبل أن أسجل هنا عرفاني العميق لأستاذي الدكتور إبراهيم أنيس الذي عاش معي هذه المحاولة، دفعني إليها، وسدد خطاي في طريقها». وقال في أثناء مقدمته لكتابه «القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث»، الذي كان الجزء الأخير من رسالته للدكتوراه: «قد انتقلت موجة البحث اللغوي هذه إلى الشرق على يد جماعة من الرواد، الذين تلقوا مناهجه في أوروبا، ثم جاؤوا إلى الوطن، ليقدموا إلينا ما تلقوه عن أساتذتهم في صور مختلفة. وكان في مقدمة هؤلاء أستاذنا الدكتور إبراهيم أنيس الذي يعد ـ بحق ـ أول من حاول تطبيق مناهج علم اللغة الحديث في الوطن العربي على تاريخ العربية الفصحى، وخرج لنا بجملة من الملاحظات النظرية، تدعمها الشواهد اللغوية، وبخاصة في كتابه «في اللهجات العربية»، كما درس عدة ظواهر لغوية هامة في كتابه «من أسرار اللغة»، وخصص كتاباً ثالثاً لدراسة الأصوات اللغوية، وكتاباً رابعاً لدراسة دلالة الألفاظ». وفي إهداء كتابه «المنهج الصوتي للبنية العربية: رؤية جديدة في الصرف العربي»، الصادر بعقب وفاة الدكتور إبراهيم أنيس في 1977م، يقول: «أستاذي الدكتور إبراهيم أنيس، إلى روحك في الرفيق الأعلى، تحقيقاً لأمل طالما تمنيته، ووفاء ممن علمته ورعيته، وعليك سلام الله ورحمته وبركاته».
وكذلك تعلق بالأستاذ محمود محمد شاكر الكاتب الأديب الفذ، وطاب لديه ذِكْرُه، حتى دعانا في بعض محاضراته إلى الاستشهاد بلغته فيما نستشهد لِلُّغة العالية. وحكى لنا أنه كان يتردد على مجلسه في أثناء ترجمته لكتب مالك بن نبي صديقه العالم الجزائري الفذ، فلا يجد لنفسه مكانا بين جبال الحاضرين الشامخة، ثم اتصلت بينهما الأسباب، حتى قال في مقدمة ترجمته لكتاب «الظاهرة القرآنية» لمالك بن بني: «كان من فضل الله أن تولى أستاذنا الكبير محمود محمد شاكر، تقديم كتاب «الظاهرة القرآنية» إلى القراء، هذا التقديم الثمين، الذي يعد ـ بحق ـ من أروع ما كتب في مسألة اتصال بيان العرب في الجاهلية بقضية إعجاز القرآن. وإني لأرجو الله مخلصاً، أن يتولى عنا جزاء أستاذنا، بقدر ما بذل من جهده وما ضحى من وقته، على عظيم تبعاته وخطر مسؤولياته». ولم يؤثر في تقديره هذا الكبير لبيان الأستاذ محمود محمد شاكر عن مسألة «اتصال بيان العرب في الجاهلية بقضية إعجاز القرآن»، ميله الواضح في البيان عن إعجاز القرآن، إلى الأستاذ سيد قطب خصيم الأستاذ محمود محمد شاكر، عن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي حميم الأستاذ محمود محمد شاكر، حتى قامت لديه بعض عبارات «في ظلال القرآن» للأستاذ سيد قطب، بـ «إعجاز القرآن» للأستاذ الرافعي ؛ فلم تكن كتابة الأستاذ الرافعي الغامضة على جمهور القراء، لتعدل لديه كتابة الأستاذ سيد قطب الواضحة لجمهور القراء، على رغم اعترافه بغلبة كتابة الأستاذ الرافعي عليه، في مرحلة من حياته.
لقد أنتج له رضاه عن نفسه، ثِقَةً واضحةً فيها، وأنتج له سَخَطُه على حال أمته، جُرْأَةً واضحةً عليها، ثم تَأَيَّدَتْ تلك الثقةُ بتلمذته للأستاذ محمود محمد شاكر الذي رصد حياته لتَوْثيق تلامذته بما بين أيديهم، وتَأَيَّدَتْ هذه الجرأةُ بتلمذته للدكتور إبراهيم أنيس الذي رصد حياته لتَجْريء تلامذته على ما بين أيديهم؛ فامتزج في شرابه المزاجان، والتأم في كسائه اللِّفْقانِ.
ما أحسن ما أحاط حياته العلمية بحياطة القرآن الكريم؛ فحصل في سنة 1962م على الماجستير برسالة في «الأصوات في قراءة أبي عمرو بن العلاء»، نشرها فيما بعد بعنوان «أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي»، وحصل في سنة 1965م على الدكتوراه برسالة في «دراسة صوتية في القراءات الشاذة»، نشرها فيما بعد على كتابين بعنواني «تاريخ القرآن» و«القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث»... حتى أتاه في سنة 2010م اليقين وهو منقطع لتفسير القرآن الكريم.
وفيما بين هذين الحدين كانت له أبحاث مختلفة مؤتلفة، مقالات وكتب، منها: المنهج الصوتي للبنية العربية : رؤية جديدة في الصرف العربي في علم اللغة العام في التطور اللغوي. العربية لغة العلوم والتقنية. دراسات لغوية. عربية القرآن. المنهج اللغوي في كتاب سيبويه. دراسة إحصائية لجذور معجم تاج العروس باستخدام »الكمبيوتر». الألفاظ الأجنبية في اللهجة الكويتية. نظرة في اللهجات والقراءات في السودان. المستقبل الحضاري للغة العربية. القومية ضرورة عربية. الإنسان المسلم. أبي آدم : قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة. السنة والشيعة أمة واحدة. بل كانت له تحقيقات تراثية وتقريبات؛ منها تحقيق لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني، وتقرب إحياء علوم الدين للغزالي والرسالة للشافعي.
كيف حملته نفسه على تعلم الفرنسية حتى انضم وحده إلى معهد تعليمها، وكيف بالغ في طلبها فوق ما طلبها زملاؤه المنقطعون لها، وكيف صبر على ذلك واستسهل المصاعب! ما أطربه حين حدثنا أنه خرج مرة إلى ذلك المعهد، فإذا السماءُ مَطَرٌ والأرضُ طينٌ؛ فلم يبال بالمضي في سبيله بنعليه القديمتين النافرتين، حتى أَثْقَلَتْ قَذائفُهما الطينيَّةُ جِلْبابَه، وكادت تقلبه رأسا لعقب! ثم كيف أتقن الفرنسية فوق ما يطمح الطامحون، حتى حكى لنا أستاذنا الدكتور رجاء عبد المنعم جبر أنهما زارا فرنسا معا ـ ربما كانت المرة الأولى ـ فأقبل أستاذنا يكلم الفرنسيين بما استغربوا؛ حتى قال له أستاذنا الدكتور رجاء: تكلم العامة بالفرنسية الفصحى، وتنتظر أن يفهموك، أو كما قال!
ولقد كانت عينه كلما قرأ بالفرنسية، على ما يفيد أمته العربية الإسلامية، في تحريك واقعها، واستشراف مستقبلها؛ فهو يترجم أعمالاً لغربيين عن الثقافة العربية الإسلامية، يريد بها أن نَرى أنفسنا في عيون الآخرين، كما في ترجمته لروجيه جارودي (فلسطين أرض الرسالات الإلهية)، وهنري فليش (التفكير الصوتي عند العرب، العربية الفصحى) ـ ويترجم أعمالاً لمسلمين عرب وغير عرب، عن الثقافة العربية الإسلامية، يريد بها أن نعرف كيف نُري الآخرين أنفسنا، كما في ترجمته لعبد الله دراز (دستور الأخلاق في القرآن الكريم) ومالك بن بني (الظاهرة القرآنية، شروط النهضة، وجهة العالم الإسلامي، الفكرة الأفريقية الآسيوية، مشكلة الثقافة)، وكما في مراجعته وتقديمه لترجمة ظفر الإسلام خان لكتاب أبيه وحيد الدين خان (الإسلام يتحدى)، وما أطربه حين لاحظ تلاقي عمل وحيد الدين خان وعمل مالك بن نبي «الظاهرة القرآنية»، على منهج واحد؛ فقال: «ذلك أن خطوات هذا المنهج بنفس الترتيب تكاد تكون طبق الأصل من كتاب أخرجته من قبل مترجماً عن الفرنسية، هو كتاب «الظاهرة القرآنية»(...) وهي ملاحظة غريبة في المنهج لا تنصرف إلى مادة الكتابين (...) وتفسير هذا التوافق ينحصر في توارد الأفكار على مشكلة واحدة»، وهي بهجة من اطمأن قلبه إلى وحدة منطلقه وغايته. ويترجم أعمالا لغربيين في الثقافة الغربية، يريد بها أن نَرى نحن الآخرين أنفسهم - كما في ترجمته لبرتيل مالمبرج ( علم الأصوات ) ـ ولا يخلي أيا من ترجماته تلك، من مقدمات وتعليقات، يضبط فيها أمرها، بحيث يستقيم استيعابها، وتكتمل منفعتها.
***
لقد ألقى بين عينيه حَديثَيْ رسول الله ـ صلى لله عليه وسلم- «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَه»، و«مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم فَكَتَمَه أَلْجَمَهُ اللّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ يَوْمَ الْقِيامَةِ»، ثم أقبل يعلم تلامذته، بحراً زخّاراً فَيّاضاً سَمْحاً جَواداً مَكيناً وَدوداً.
وأنعم عليه الكريم ـ سبحانه وتعالى ـ بما ينعم به على أساتذة الجامعة، من نعمة سابغة لا يعرف قدرها كثير منهم، هي طلاب الماجستير والدكتوراه، الذين يستطيعون أن يؤسسوا لأستاذهم أساس مدرسة يمضون به فيها إلى آماد لا يصل إليها وحده؛ فعرف نعمته ـ سبحانه وتعالى ـ وشكرها؛ فقسم في أجسام تلامذته جسمه، ووزع في عقولهم هَمَّه.
لقد وجه رسائل بعضهم إلى القرآن الكريم، مثل: الرسم المصحفي: دراسة لغوية تاريخية، لغانم قدوري الحمد. اختلاف المصاحف: دراسة لغوية تاريخية، لعبد اللطيف السعيد يوسف الخميس. قراءة المدينة في القرن الأول الهجري: دراسة صوتية تاريخية، لأحمد مصطفى أحمد أبو الخير. دراسة لغوية إحصائية لأنماط الجملة البسيطة في القرآن الكريم، لمحمد رضا كاظم الطريحي.
ووجه رسائل بعضهم إلى ما بين القرآن الكريم والتوراة، مثل: أبنية المصادر في اللغتين العربية والعبرية واستعمالاتها في القرآن الكريم والتوراة، لصلاح الدين صالح حسنين. دراسة مقارنة لأساليب الاستفهام في العربية والعبرية في ضوء ما ورد في القرآن والتوراة، لعبد الله علي مصطفى. داود وسليمان في العهد القديم وفي القرآن الكريم : دراسة لغوية تاريخية مقارنة، لأحمد عيسى الأحمد.
ووجه رسائل بعضهم إلى مادة اللغة العربية غير القرآن الكريم، مثل: اللغة العربية بين المذكر والمؤنث، لإبراهيم عبد المجيد ضوة. لغة أبي العلاء في رسالة الغفران، لفاطمة الحبابي. خواص لغة الطب عند الرازي كما تبدو في كتاب الحاوي، لمحمد يوسف حبلص. الألفاظ العلمية عند جابر بن حيان الكوفي : دراسة لغوية ومعجم، لفائق خلف سلمان. دراسة لغوية لصور التماسك في لغتي الجاحظ والزيات، ثم دراسة صوتية للأخطاء النطقية وأسبابها لدى طلبة دار العلوم واختيار التدريبات العملية المناسبة للعلاج، وكلتاهما لمصطفى صلاح قطب. الربط بين التراكيب في اللغة العربية المعاصرة، لمحمد حسن عبد العزيز. الألفاظ الدالة على الكلام في اللغة العربية المعاصرة: دراسة دلالية تأصيلية، ثم أفعال الحركة في العربية المعاصرة : دراسة دلالية تركيبية، وكلتاهما لمحمد إمام داود.
ووجه رسائل بعضهم إلى تاريخ اللغة العربية، مثل: العربية في العصر المملوكي : دراسة لغوية، لهويدي شعبان هويدي. اللغة العربية في عصر الحروب الصليبية كما تمثلها كتب التاريخ : دراسة لغوية تاريخية، للبدراوي زهران.
ووجه رسائل بعضهم إلى ما بين اللغة العربية واللغة العبرية، مثل: الإسرائيليات في تفسير الطبري: دراسة في اللغة والمصادر العبرية، لآمال محمد ربيع. الشعر الديني العبري كما تمثله مزامير العهد القديم وعلاقته بالأدب العربي: دراسة لغوية مقارنة، لأحمد عيسى الأحمد. أبنية الجموع في اللغة العربية: دراسة مقارنة باللغات السامية، لأحمد شوقي النجار.
ووجه رسائل بعضهم إلى علماء اللغة العربية، مثل : ابن حزم لغويا، ليعقوب يوسف الفلاحي. ابن الطيب الفاسي وأثره في المعجم العربي مع تحقيق كتابه شرح كفاية المتحفظ، لعلي حسين البواب. كتاب مختصر القاموس المحيط لعلي بن أحمد الهيتي : تحقيق ودراسة، لأحمد مفرح السيد. التفكير اللغوي عند العرب قبل سيبويه، لفتحي محمد جمعة. الفكر اللغوي بين سيبويه وابن جني : دراسة تأصيلية نقدية، لأشرف مصطفى رضوان. الدرس الصوتي عند موفق الدين بن يعيش في ضوء علم اللغة الحديث، لمنى إبراهيم صادق. جهود البلاغيين العرب في مجال الأصوات والدلالة في ضوء علم اللغة الحديث، لإبراهيم الدسوقي عبد العزيز. النقد المعاصر للنحو العربي: دراسة لغوية، لفتحي محمد جمعة. وحدة التحليل الصرفي بين القدماء والمحدثين، لمحمد أحمد حماد. اتجاهات التحليل الفونولوجي في المدارس اللغوية المعاصرة مع محاولة تطبيقية على اللغة العربية، لأحمد عزت البيلي.
بل وجه رسائل بعضهم إلى بعض اللهجات العربية، مثل: الخواص التركيبية للهجة طرابلس الغرب بليبيا، لعبد الله عبد الحميد سويد. دراسة صوتية صرفية للهجة مدينة نابلس الفلسطينية، لمحمد جواد النوري. دراسة صوتية في لهجة قبيلة الشايقية، لبكري حاج أمين. الأصوات والأبنية في لهجة قبيلة العبابدة بمحافظة البحر الأحمر : دراسة في ضوء المنهج الوصفي، لخالد حسن أبو غالية.
لقد كانت محاضرته جرعة ثقافية كاملة مركبة، أفكارا وتجارب ورحلات وكتبا ورجالا ومواقف...، لا يفضل عنصر من عناصرِ مُرَكَّبِها عنصراً؛ فمن المعروف من طبائع الأشياء بالضرورة، أن لعناصر المركبات وجودا في مركباتها غير وجودها على انفرادها ؛ لهذا كان لكلامه في أيٍّ من تلك العناصر، مذاق خاص عميق جليل مهيب. لقد كانت محاضرته صورة من شخصيته هو نفسه، وكان ملء الصورة، ملء السمع والبصر!
ما أظرفه خطيباً ـ وإنما ظَرْفُ هذه الأمة في لسانها ـ حاضر البديهة، لا تفلته النكتة، ولا تعجزه الملحة، حاد الصوت عميق نبوعه سليم مخارجه منغوم صفاته، قصير الجمل، عربي اللغة، واضح الأفكار مرتبها متدفقها، قرآني الأسلوب، خطيب موهوب، واع، مجدد، لا يشغل الناس بما لا يفيدهم عما يتعلق به وجودهم، ولا يجمد لهم فيما بعد الاستراحة على ما كان قبلها فيُمِلّهم، حَيَويّ المنهج غير منقطع إلى القديم ولا منقطع عنه بل مازج مزجاً عجيباً بين القديم والحديث والطموح إلى المستقبل.
رَحِمَ اللّهُ أُسْتاذَنَا الدُّكْتورَ عَبْدِ الصَّبورْ شاهينْ، وَلَمْ يَحْرِمْنا أَجْرَه، وَلَمْ يَفْتِنّا بَعْدَه!
آمين!

ليست هناك تعليقات: