2016/03/22

أفكار كويتية.. للنهوض بالعربية

هل يحب أساتذة اللغة العربية المادة التي يقومون بتدريسها؟ وقد يسأل الواحد منا كذلك: هل يحب كل الأطباء والمهندسين مهنهم؟ ألا يجد الطالب الجامعي نفسه في العالم العربي وقد دخل «نفقاً أكاديمياً» أو سلكاً مهنياً دون ارادته، ارضاءً لضغوط الأسرة، أو بحكم التقييم الأكاديمي والاختبارات أو لأي حافز آخر؟ غير ان أستاذ اللغة العربية الذي لا
يحب تخصصه ولا يخلص لمهنته يسيء الى «مراجعين» و«زبائن» لا يمتلكون هوامش واسعة للمناورة، وقد لا يدركون الا في وقت لاحق بعيد، حجم الأضرار التي نزلت .. بأداتهم اللغوية!
«أنا أضع المسؤولية كاملة على عاتق كلية التربية الأساسية، تحديداً قسم اللغة العربية»، يقول الدكتور جميل المري أستاذ علم الاجتماع في هذه الكلية في الكويت، فهذه الكلية، يضيف المري، يفترض ان يتم تدريس الطالبات فيها ليتخرجن مدرسات للغة العربية، «الا أنني فوجئت في احدى زياراتي للكلية برغبة معظم الطالبات في ترك قسم اللغة العربية لصعوبتها وجفافها، ما يجعلني أؤكد حاجة منهج اللغة العربية الى تسهيل وتبسيط».
وطالب الأستاذ بأن لا يقف هذا التبسيط عند المنهج الجامعي، بل أن يمتد الى المراحل قبل الجامعية، ويشمل كل المراحل، «خاصة منهج النحو الذي لا يتقنه طلبة المرحلة الثانوية حتى الآن».
ولكن الدكتور المري لا يقف هنا عند أبعاد ونتائج ما يطالب به، فالمشكلة لن تحل بأن يتم حذف بعض أبواب الكتب والمناهج المقررة، بل القضية بحاجة ماسة الى دور لغوي ابداعي، تقوم به مثلاً مجامع اللغة العربية، فيدرسون المشكلة ويقارنون تجارب مختلف البلدان العربية ومشاكل الطلبة مع قواعد النحو ومناهج اللغة العربية، ثم يتخذون ما يرون من قرارات. ولكن من يقوم بكل هذا، بل من يجرؤ؟ د. المري أشار في حديثه مع صحيفة «الوطن» الكويتية الى «مجمع اللغة العربية» في مصر، وطالب بانشاء أفرع له في جميع الدول العربية، وأن يكون لهذه الأفرع «وجود إعلامي بارز على شاشات التلفزيون، وأن يكون القائمون عليه نخبة تمتلك أدواتها في اللغة العربية وتقدمها بشكل جذاب ومنوع بعيداً عن «النحو» و«الصرف»، مما يؤدي الى احياء اللغة العربية». (2011/9/28). ولكن من يقنع أعضاء «مجمع اللغة العربية» بحجم معاناة المتعلمين والطلاب والمدرسين، ومن منهم سيتزعم مثل هذه الحركة التجديدية.. ومن سيحميه؟ ومن سينفق عليه؟.
نحن بحاجة الى مجمع لغوي عصري شاب نشط، يستفيد من علم وخبرة الجيل السابق ولكن يدرك حجم التحديات المعاصرة. كما أننا بحاجة ماسة الى وضع القواميس الحديثة وكتب التعليم المشوقة المشابهة لكتب تعليم الانجليزية ومناهج تعليم اللغات الأوروبية وأساليب بناء المهارات اللغوية في تلك المدارس. فأين «كتب القراءة» في بلادنا، إعداداً وطباعة، عن تلك المتداولة في أوروبا والولايات المتحدة؟
إن البعض لا يزال يتجاوز الصعوبات ويعشق اللغة العربية، مثل د.المري والكثيرين غيره.. ولكن لظروف خاصة.. لا لجودة وتقدم مناهج التدريس! يقول: «حبي للغة العربية كان نابعاً من حبي لمدرس المادة الذي كان دمث الخلق، يحدثنا بكياسة وبلطف وثقة الوالد الناصح المعلم وبطريقة طبيعية غير مفتعلة، وهو ما نحتاجه لترغيب وتحبيب أبنائنا بلغتهم الأم». ولا شك ان في حياة بعضنا أساتذة أبويين أفاضل أمثال هذا المدرس. غير ان تطوير تدريس اللغة العربية مطلب يتجاوز الجهد الفردي والتفاني في التدريس. واذا كنا نتحدث عن محاصرة اللغة الانجليزية مثلاً للغة العربية، فإن لغات العالم كلها، بما فيها الفرنسية والألمانية والإسبانية تعاني من هيمنة اللغة الإنجليزية، وتقول المحررة بالصحيفة نفسها شيرين صبري: «ان معظم أصحاب الأعمال من العرب في الدول الأوروبية يجدون ان أعمالهم لا تُنجز الا اذا تحدثوا بالانجليزية، ما قد يكون سبباً لفقدانهم الاحساس بقيمة لغتهم العربية، ويؤكدون حاجتنا الى تنمية روح الاعتزاز والثقة في لغتنا».
ولا مهرب من التأكيد ان الانجليزية قد غدت، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وزوال سلطان أوروبا لصالح الولايات المتحدة، اللغة العالمية الأولى. غير ان الأمريكيين والانجليز والفرنسيين والألمان والاسبان لا يعانون من مشكلة كبرى مثلنا بنفس الحدة وهي منافسة «اللهجات العامية» للغة الفصحى. والسبب أن اللغات الأوروبية كلها محكية ومستخدمة في الحياة اليومية بشكل طبيعي. وهناك بالطبع لهجات انجليزية وفرنسية وألمانية واسبانية، وهناك كلمات «عامية» Slang كثيرة، بل وهناك قواميس فيها ومؤلفات بها، ولكن هذه اللغات الأوروبية مستخدمة ومحكية، بعكس اللغة العربية، من أبسط إنسان الى ارقى مفكر! ويستطيع الإنسان الانجليزي أن يتحدث باللغة الشعبية واللغة المتوسطة واللغة الرفيعة، والجميع يتقبل منه ذلك، ويعتبره طبيعياً ومفهوماً، ولكننا بالطبع لا نعايش واقعاً لغوياً باللغة العربية كهذا الموقع. وهناك مثلاً أكثر من عشرين دولة عربية لا نجد فيها مدينة واحدة حتى عواصمها، يتحدث الناس فيها باللغة العربية الفصحى. وحتى لو دخلنا أقسام اللغة العربية وآدابها في اي جامعة عربية، فسنجد أن الأساتذة والطلاب يتفاهمون «بلهجة عربية» قد لا نفهمها ولو تحدث القوم باللغة الانجليزية أو الفرنسية، لفهمنا الحديث فهماً كاملاً!.
ان اللهجات العربية والكلمات العامية واقع بارز في حياتنا اللغوية ومفاهيمنا الثقافية، والكثير من الكلمات العامية قد تثري «الفصحى». بعد أن تطورت مع الزمن وعمقها الاستخدام اليومي. فلا تكاد تجد كلمة في اللغة العربية دقيقة مفهومة مثلها. ولابد لنا إن كنا بصدد تطوير اللغة وتقريبها من الحياة اليومية والواقع المعايش، من أن ننزل من عليائنا الثقافية، ونتصالح مع اللهجات المختلفة، ونستخدم الكثير من كلماتها الصالحة والدقيقة في التعبير، وبخاصة أن الكثير منها من الفصيح المهجور أو مما استخدمته قبائل العرب في مرحلة ما أو غير ذلك عبر القرون.
فالكثير منا يستخدم كلمة «شاف» بمعنى رأى، وفي القاموس كلمة «شاف» بمعنى أشرف ونظر. ونستخدم كلمة «انخشّ» بمعنى اختبأ أو دخل، وهي في القاموس بمعنى دخل في القوم. وفي اللهجة الكويتية كلمات قاموسية كثيرة لا تستخدم في الكتب والصحف وأدبيات الاعلام، ومنها «طمر»، بمعنى «وثب»، وكذلك نقز، ومنها «نقز الظبي» و«نقز الطير» بمعنى قفز، ونقول في العامية والفصحى «نقّزه» أي وثّبه ورقصه. ومعظمنا لا يعرف كلمة الـ «دقَل»، رغم انها في القاموس بمعنى الصاري، وهي «خشبة طويلة تشد في وسط السفينة يمد عليها الشراع»، كما يقول «المعجم الوسيط». وفي اللهجة الكويتية مثلاً كلمة دقيقة لا وجود لها في القاموس، وهي «الحداق» وتعني صيد السمك بالصنارة، وتعادل كلمة Angling بالانجليزية، اسم الفاعل والحدّاق Angler، ويترجمها قاموس المورد «المُصَنِّر»، صائد السمك بالقصبة والصنارة، و«التَّصَنُّر». ويمكن القول باختصار إن في دراسة اللهجات، ومفرداتها التي يعدها الكثيرون من «العامي المبتذل» إثراء لا جدال فيه للغة العربية المعاصرة.
ونعود الى آراء الأكاديميين والكتاب الكويتيين في واقع اللغة العربية، فنرى «د.عبدالعزيز سفر» يشتكي من وجود «أخطاء كثيرة تتعلق بالتراكيب والصياغات اللغوية والمفردات، بالاضافة الى دخول بعض التعبيرات الجديدة التي تحمل ألفاظاً ينبغي ألا تقال ولكنها تقال، وكل هذه أمور تمس اللغة العربية في الصميم وتمثل خطورة عليها». ويضيف: «اننا اليوم أمام واقع اختلطت فيه المفردات والتعبيرات الغربية باللهجة وباللغة العربية الفصحى، مما أفرز منتجاً ركيكاً وضعيفاً يتصور البعض أنه لغة.. وحقيقة الأمر ان هذه اللغة لا تمت للعربية بصلة». وانتقد د.سفر عدم ايلاء اتقان اللغة العربية الاهتمام الكافي، ويطالب بإنشاء «لجنة عليا يناط بها النظر في مخرجات تلك المقررات التعليمية من فترة لأخرى» (الوطن 2011/9/28).
ومما يلفت النظر في مجال الاهتمام بواقع ومستقبل اللغة العربية، غياب اهتمام التيار الاسلامي وجماعات الاسلام السياسي باللغة العربية، «لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة»، كما يذكرون الناس دوماً في الكتب والمقالات، بينما لا نجد مصرفاً اسلامياً واحداً يخصص مليون دولار مثلاً أو بضعة ملايين لدعم البنية التحتية في هذا المجال المهم، حيث تشتد الحاجة الى القواميس الحديثة واللجان العصرية وتطوير التدريس والمناهج وغيرها، على الرغم من كثرة البنوك الاسلامية وموجوداتها التي باتت تصل الى التريليونات!
ويتساءل الواحد منا كذلك أين دور وزارات الأوقاف العربية المتربعة على مخازن هائلة من المال، وأين دور المحسنين والمتبرعين المسلمين الذين لا يرون من الدين وأعمال الخير إلا حفر الآبار وبناء المساجد؟! بينما لا يتلفت أحد الى ترجمة الكتب والاعتناء باللغة والثقافة وغير ذلك.
ويسند د.سفر الى مجامع اللغة دوراً خاصاً، حيث يطالب بإنشاء مجمع «على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، وان تأخد قراراته صفة الإلزام، كما هي الحال في قرارات مجمع اللغة العربية في مصر». ولكن في مصر كذلك، كما نعلم جميعاً، شكوى بلغت عنان السماء من تدهور المستوى اللغوي في التعليم النظامي العام وبين مخرجات الجامعة وفي وسائل الإعلام.
فالمشكلة إذن ليست في توفير ونحت الكلمات الجديدة والترجمات الدقيقة للألفاظ المستجدة فحسب، بل بثقة الكثير بما يتعلق بواقع العالم العربية ومستويات الأمية وتفاني أساتذة اللغة العربية وحماس الطلاب وغير ذلك. وعن معلمي اللغة العربية، يقول د.سفر عن واقعهم ومخرجاتهم التعليمية: «يؤسفني أن ألاحظ أخطاء في الصياغة وضعفاً في التركيب وفقداناً لعنصر التشويق في الجمل، وهناك الكثير من التوصيات التي تخرج بها مؤتمرات اللغة العربية، إلا ان تلك التوصيات لا ترى النور».
وتشبه تجربة د.خالد القحص في ولعه باللغة العربية تجربة د.جميل المري، حيث لعب مدرس اللغة العربية دوراً اساسياً في اهتمامه بها، فيقول: « كنت أكره مادة اللغة العربية في صغري، حتى جاءني مدرس سوري في مدرسة الجهراء المتوسطة، فحببني باللغة العربية منذ ذلك الوقت، لأنه اتبع طريقة محببة في التدريس، وأصبحت اللغة العربية من المواد المفضلة لي، لأن الذي نقل لي اللغة نقلها بطريقة غير تقليدية وجذابة».
ويرى د.القحص ان الاعلام بمختلف وسائله يلعب دوراً من خلال برامجه في «تنفير الناس من اللغة العربية، أو على الاقل عدم الاهتمام بها، وذلك من خلال انتشار وشيوع اللهجات العامية في كثير من البرامج والأغاني والمسلسلات والأفلام والمسرحيات، ما يجعل المشاهد العربي عرضة بشكل كبير وشامل للعامية». والأخطر في رأي أستاذ الاعلام د.القحص، ان انتشار العامية لم يتوقف عند البرامج الترفيهية والدرامية، «بل تعداها ليصل حتى الى البرامج الأدبية والاخبارية والثقافية والدينية، فأصبح الجمهور العربي لا يستمع الى اللغة العربية بشكل كاف، مما أفسد ذائقته، وحرم أذنه من استماع العربية، وجعلها ثقيلة على النفس». واضاف: «حتى في البرامج التي تستخدم اللغة العربية كالأخبار والبرامج السياسية والأدبية والثقافية والدينية، بدأنا نحلظ كثرة الأخطاء اللغوية والنحوية، ما يشوه اللغة العربية، ويجعل المشاهد والمستمع عرضة لتعلم اللغة العربية بالطريقة الخطأ». وانتقد انتشار اللغة الأجنبية في الخطاب الإعلامي الموجه للمشاهد والمستمع العربي، حتى «وصل الأمر الى أن تصبح أسماء البرامج الموجهة للشباب والأطفال بمفردات أجنبية».
وأعرب د.القحص عن اعتقاده بأن اللغة العربية «تواجه اليوم جملة من التحديات»، حيث «يعتبر الاستعمار أحد أهم هذه التحديات». واضاف ان كلاً من الاستعمار البريطاني والفرنسي والايطالي كان له تأثيره السلبي على اللغة العربية». ومن التحديات الأخرى «اللهجات العامية والمدارس الأجنبية ووسائل الاعلام». (الوطن 2011/9/28).
ولكن هذه اللغات الأوروبية لها فضل كبير على اللغة العربية من ناحية اثرائها بالألفاظ والتعبيرات والعناية بدقة المصطلح وغير ذلك، وكان للاستعمار دوره السلبي في دولة الجزائر، التي حاولت فرنسا تحويل ثقافتها ولغتها، خلال فترة الاحتلال، ولكن فرنسا وبريطانيا هما اللتان احتضنتا الصحافة العربية، من «العروة الوثقى» التي اصدرها السيد جمال الدين الأفغاني الى العديد من الصحف والمجلات التي تصدر باللغة العربية في البلدين الأوروبيين، والكتب والمؤلفات العربية التي قد لا تسمح بعض الدول العربية بصدورها في بلدانها. ثم إننا نسأل ونتساءل: ماذا فعلنا ثقافياً ولغوياً.. منذ «رحيل الاستعمار»؟.

خليل علي حيدر

ليست هناك تعليقات: