2016/03/12

تعريب المصطلحات.. قضية ومشكلات






د. محمد إسماعيل بصل

قد يبدو للوهلة الأولى أن الحديث عن المصطلح ووضعه ضرب من التنظير الأكاديمي الذي لا يصلح إلا للقاعات الدراسية في المعاهد والجامعات, أو للجدالات والنزاعات اللغوية الأدبية والفلسفية في المنتديات الثقافية, أو ربما يصلح هذا الحديث -في أذهان البعض- ليكون عنوانا فخما
لمؤتمر قطري أو دولي, ولكن يجب أن نقول منذ البداءة إن الكلام عن المصطلح هو كلام ثقافي بامتياز.
وعندما تذكر كلمة ثقافة فإن الأمر يتعلق بطبيعة الحال باليومي والعادي, فمن منا لا يتطرق إلى حديث المصطلحات في يومياته؟ ومن منا لم يتوقف عند هذا المصطلح أو ذاك في أحاديثه العادية؟ وكم مرة قد تصادفك كلمات كثيرة عند الخباز والبقال والنجار والحداد والميكانيكي تسأل عن معناها وتفتش عن جذرها فتجد أن أصلها تركي أو فرنسي أو غير ذلك.

وخذ على سبيل المثال كلمة الميكانيكي التي ذكرناها آنفا وتستخدم في الشارع العربي برمته لتدل على معلم إصلاح الآليات, ولكن هيهات أن نستخدم في أحاديثنا اليومية ثلاث كلمات يمكن أن يحل محلها كلمة واحدة حتى لو كانت هذه الكلمة غير عربية القالب والمضمون. وقس على ذلك آلاف الكلمات التي يتداولها الناطقون بالضاد, ولا علاقة لهذه الكلمات بالضاد ولا بالقاف, وثمة من يؤكد إحصائيا أن هناك 50 مصطلحا جديدا يولد في العربية كل نصف ساعة.

إن القضية مطروحة أمام الجميع, فما هو السبيل إلى مناقشة إشكالياتها ومحاولة وضع الحلول المناسبة لها إن أمكن ذلك؟

يبدو أن حديث المصطلحات مباح لكل الناس, فالإنسان العادي يجادل في تسمية هذا الشيء أو ذاك ولا يبدو مقتنعا بكل ما هو مطروح من تسميات, والمختص ينظر ويطرح الإشكاليات اللغوية باعتماده على منهج ما أو على عدة مناهج في آن معا.

فقضية المصطلح تقع في قلب الحركة الفكرية لأي مجتمع, لأن المجتمع الذي يتبنى قضايا مستحدثة ويقبل أن يتعرف على ولادات جديدة, هو مجتمع مدعو لتعرف ماهيات وإشكاليات أصحاب هذه القضايا وآباء تلك الولادات, وهذا ما يدعو إلى بحوث معمقة, ليس فقط في العلاقة بين اللفظ باعتباره رمزا وبين الشيء الذي يدل عليه, وإنما في العلائق التي تنسج هذا المجتمع بكل صنوفها ورموزها ومعتقداتها وأساطيرها.

وعلينا أن نعترف منذ البداية بأن هذه القضية تتراوح أهميتها بين مجتمع وآخر, وإن أهميتها في اللغة العربية أكبر من أهميتها في اللغة الإنكليزية على سبيل المثال, فالولادات الحديثة, سواء أكانت علمية أم أدبية, لم تنجبها لغة الضاد, رغم أن أصحاب هذه اللغة يستخدمونها ويحتاجون إليها.

لقد بات معروفا جدا أن ثمة أزمة في المصطلح, والأزمة هي الشدة والقحط, وهي كما يقول لسان العرب "السنة المجدبة, ويقال: إن الشدة إذا تتابعت انفرجت, وإذا توالت تولت".

وإذا اعتبرنا أن اللغة العربية قاصرة عن مسايرة العلم والتقنيات, فإن التفكير الذي قاد إلى هذا الاعتبار هو في أزمة أزوم, فما بال المصطلح من بعد؟
أما إذا عرفنا أن الأزمة تعني تطور جهود مستمرة لعصر أو لمجتمع من أجل تحديد الأشكال التي تناسب أشياء معينة, فالمصطلح العربي وغير العربي في أزمة دائمة, وما علينا إلا أن نبحث في خصائص اللغة العربية للتأكد من قابليتها لتوليد الألفاظ, وكما هو معروف فإن الرابطة الاشتقاقية في اللغة العربية قوية وفعالة وخالدة، ولفرط إعجاب العرب بها أفردوا لها كتبا خاصة وانقسموا حيالها إلى فرق ومدارس, فمنهم من أنكر أهميتها, ومنهم من نادى بها وطورها وتعمق في أسبابها.

إن الاشتقاق وسيلة متاحة لكل من يريد أن يبحث في علم الترجمة ووضع المصطلحات، لأن الاشتقاق في الأصل هو أخذ صيغة من صيغة أخرى. إنه وضع وتوليد وتلبية أكيدة لدلالات جديدة.

والاشتقاق أنواع, فثمة الاشتقاق الصغير أو الأصغر وهو الأكثر شيوعاً. فلو أخذنا مادة ضرب مثلاً, فإننا نستطيع أن نحصل من مشتقاتها وتصاريفها ومصادرها ومصغرات أسمائها على كلمات كثيرة جداً, فأنت تأخذ من المادة الأصلية "ض ر ب" كلمات مثل ضارب، مضروب، ضربة، ضربات، ضريبة، ضرائب، ضراب، وإضراب. وقد تصل إلى كلمات مهملة وغير مستعملة من المادة ذاتها إلى أن يأتي يوم يحتاجها المستخدمون فيجدونها, ولعل أهم ما في الاشتقاق الأصغر هو ارتداد كل الكلمات الجديدة إلى معنى جامع مشترك.

وثمة الاشتقاق الكبير أو الأكبر, وهو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه, وإن تباعد شيء من ذلك رد بلطف الصنعة والتأويل إليه كأن تأخذ مادة "ق و ل" وتقلبها إلى ستة تقاليب: ق و ل، ق ل و، و ل ق، ل و ق، ل ق و، و ق ل. فلكل كلمة معنى خاص بها, وتجتمع الكلمات الست على معنى جامع لها.

وقد أولع ابن جني بهذا النوع من الاشتقاق وأطلق عليه اسم الاشتقاق الأكبر, وكان قد سبقه الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي ألف معجمه العين على أساس الاشتقاق الكبير أو الأكبر.

وثمة نوع آخر وهو الاشتقاق الكبار أو النحت, وهو أن تنحت من كلمتين أو أكثر كلمة واحدة, مثل البسملة لبسم الله الرحمن الرحيم, والحوقلة للا حول ولا قوة إلا بالله, والحيعلة لحي على الصلاة.

وإذا كنا نرى أن النحت غير مخصب في إنتاج كلمات جديدة, وأنه لا يعتبر من خصائص اللغة العربية التي يعتمد عليها اعتمادا مريحا, رغم أن بعض اللغويين العرب القدامى, وبخاصة صاحب كتاب الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها, الذي يرى أن أكثر الكلمات التي يزيد عدد أحرفها على الثلاثة منحوت, فإن الاشتقاق يبين بوضوح قدرة اللغة العربية على استيعاب متطلبات العصور المتلاحقة بتوليدها كلمات جديدة.

إن الكلمات الغريبة التي تقتحم حياتنا الثقافية من دون تأشيرات ولا جوازات, أكثر من أن تحصى, وهذه الكلمات لم تخضع لقواعد التعريب وشروطه, فكلنا يستخدم كلمة "تلفزيون" مع سبق الإصرار والترصد, مع أننا نعلم أن ثمة كلمة عربية مرادفة لمفهوم هذا الجهاز وهي كلمة "الرائي".

ولنفترض أن ترجمة (television) بالرائي غير موفقة, وهي فعلا غير موفقة, لأن صاحبها لم ير من الكلمة إلا جذرها الذي يدل على الصورة (vision) مع العلم أن هذه الصورة مرتبطة بالزائد (tele) الذي يدل على البعد، في هذه الحال نلجأ إلى التعريب بإكساب الكلمة وزناً من أوزان العربية, فنقول "تلفاز".
أما إذا ابتعدنا عن خصائص العربية وأقحمنا الكلمات الجديدة إقحاما واخترعنا صيغا لم تسمع بها العرب قديما وحديثا, فإننا نقول "تلفزيون". أي أننا تركنا كل الإمكانات التي تقدمها لنا اللغة من أجل نقل صحيح لمصطلحات مستحدثة.

فنحن مع أن اللغة تتطور, بل لا بد لها من التطور, ولكن لا بد أيضا من مراعاة خصائص اللغة ذاتها من أجل تطور مفيد. إن التطور لا يعني دوما التقدم والازدهار، فالانتقال من طور إلى طور إن كان اعتباطيا لا يعني إلا التأخر.

وعندما نعرف أن كلمة هاتف تعبر تماماً عن مفهوم (telephone) لأن هذه الكلمة وردت في القرآن الكريم وعلى ألسنة الأعراب الفصحاء ومعناها أن نسمع صوتاً دون أن نرى صاحبه, ونستخدم مكانها كلمة تلفون دون تعريب أو ترجمة أو اشتقاق, فهذا يعني أننا نضع خصائص لغتنا على الرف, وهذه هي الفوضى بعينها, وهي أشد خطورة حتماً من ظاهرة اللهجات.

فاللهجات مهما تطورت فإنها متفرعة من الفصحى ومتأثرة بها, وإن كانت أحياناً تشويها وتحريفا، ككلمة "رجل" الفصيحة التي تأخذ أشكالا متعددة بالعامية مثل راجل ورجال وراكل وريال. وعبارة "من أين" التي تصبح "منين" أو "من وين", وعبارة "أي شيء بودك" التي تصبح "إيش بدك" و"شو بدك" و"شنو بدك", وكلمة "السفح" التي تتحول إلى "السحف", و"السلحفاة" التي تصير "زلحفة" و"سلحفة", و"صار" تتبدل إلى سار, و"صفر" إلى "سفر".

والتحريف يمكن أن يصيب اللفظة المفردة في مبناها كما ذكرنا ويمكن أن يصيبها في معناها أيضاً, كما نلاحظ في كلمة "فشل" ومعناها الضعف حيث تستعمل بمعنى الإخفاق ضد النجاح.

إن للعربية مقاييس وضوابط وأسساً يجب الاتكاء عليها في كل مرة نضطر فيها إلى إدخال كلمات أجنبية, وتبقى هذه الكلمات إن لم تعرب معروفة بخروجها عن أوزان الكلمات العربية, كأن يكون أول الكلمة نونا ثم راء مثل نرجس أو أن يكون آخرها زايا بعد دال نحو مهندز، أو أن يجتمع فيها الصاد والجيم نحو الصولجان والجص, أو أن تجتمع فيها الجيم والقاف مثل المنجنيق.

وعندما يتعذر تصريف الكلمة فإن هذا يعني أن الأمر لا يتعلق بالتعريب بل بالتخريب, هذا ما يحدث عند إقحام الألفاظ الأجنبية بقصد استعراض العضلات والتشدق, أو إدخال العاميات في الفصحى عن جهل أو استسهال, أو الاعتماد على نحت الكلمات قبل اللجوء إلى الاشتقاق, أو الاتكاء على التعريب قبل تجريب الترجمة, ويبقى التعريب بمفهومه الشامل ظاهرة لغوية وحضارية عندما يخضع لطبيعة اللغة ولظروف الناطقين بها.


ليست هناك تعليقات: