بين
اللغة المنطوقة و اللغة المكتوبة
الدكتور عبدالله اللحياني
الازدواج اللغوي واقع كلِّ لغةٍ ، و في كل عصر ، ففي كلِّ لغة هناك فروق _ مع
نسبيَّتها _ إلا أنها حقيقة لغويّة لا تقبل الجدل بين اللغة المكتوبة واللغة
المنطوقة .
فاللغة الأدبية الفصحى واكبتها لهجات
اختصت بها قبائلها ، و قد نقل لنا الرّواة ظواهرَ عدّة من تلك اللَّهجات ، بل أنّ
حديث الحروف السبعة التي نزل
بها القرآن فُسّر على رأي أنها لهجات عدد من القبائل ممن عرفت بالفصاحة ، و لقد كان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ يخاطب كلّ قوم بلغتهم . لقد كان هذا الازدواج موسوما بالفصاحة _ أعني قبوله بغضّ النّظر عن درجة تلك الفصاحة ، و مدى اطِّراده ، أو شذوذه _ إلى نهاية عصر الاحتجاج في المدر والوبر ، إلا أنّه أصبح فيما بعد لحنا يُعاب الواقع فيه ، و يمتدح المتنكّب عنه .
بها القرآن فُسّر على رأي أنها لهجات عدد من القبائل ممن عرفت بالفصاحة ، و لقد كان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ يخاطب كلّ قوم بلغتهم . لقد كان هذا الازدواج موسوما بالفصاحة _ أعني قبوله بغضّ النّظر عن درجة تلك الفصاحة ، و مدى اطِّراده ، أو شذوذه _ إلى نهاية عصر الاحتجاج في المدر والوبر ، إلا أنّه أصبح فيما بعد لحنا يُعاب الواقع فيه ، و يمتدح المتنكّب عنه .
لقد بدأت اللغة المنطوقة تحت تأثيرات
متعدّدة _ نتجاوز الحديث عنها _ تشقُّ طريقها إلى ألسنة المتكلّمين غير آبهة
بصرخات علماء العربيّة ، ساخرةً من استماتتهم في ردها إلى الصراط ، حتى أصبح اللحن
داءً عامّا اتسع خرقة ، و استحال رتقه ، و أصبح من لا يلحن يُعدُّ عدّا ، فقيل : "
أربعة لم يلحنوا في جدٍّ و لا هزل : الشّعبيّ ، و عبد الملك بن مروان ، و الحجّاج
بن يوسف ، و ابن الفرية ، و الحجّاج أفصحُهم " ، كما أصبح التمسُّك بأهداب
الفصحى عنتا من العنت ، خاصة في لغة الخطابة التي يقارن فيها الفكر لفظه دون
استمهال ، أو رويّة و لقد قيل لعبد الملك ابن مروان مع فصاحته : أسرع إليك الشيب ،
فقال : شيبني ارتقاء المنابر و مخافة اللحن " .
إنّ الازدواج اللغويّ ليس
ظاهرة شاذّة تمتاز بها لغةٌ دون أخرى ، بل هو سنّة لغــويّة لا
تقبـل التّخلّفَ ، و لئن كانت أمم الأرض قاطبة لا تحفل به ، و
لا ترفع له رأسا ؛ إذ هو من طبيعة اللغات ، و اللغة إنما هي وسيلة للاتصال تتحقّق
في إي صورة كانت إلا أنّ الأمر في اللغة العربية مختلف جدّا .
لقد ارتبطت اللغة العربية بتراث
دينّي تمثّل في قرآنها المجيد ، و سنة نبيّها الكريم ، و تراث أدبيّ تتصاغر أمامه
آداب الشعوب الأخرى ، فكان للعربية صورتان : عربية فصيحة توقفت _ في كثير من
مظاهرها _ عند الزمن الذي احتُجّ به ، و الصورة التي رُويت بها ، و أخرى عاميّة
حالت بينهما أمواج التغيُّر ، و لا زالت تبعد بينهما الشقّة و لذا كان وقع سهام
الازدواج أليما ، و نزعها إن ريم إصلاحه أشد ألما .
لقد انقسم دارسو اللغة أمام
هذه المعضلة ، فكانوا أزواجا ثلاثة :
فريق يرى أن نستبدل العامية
بالفصحى ، فليست لغتنا بدعا من اللغات ، و نحن حينما نفعل ذلك نوفّر الكثير من
الجهد والوقت ، و هو رأي لا يقوله من يقوله و هو مؤمن ، مؤمن بخصوصية اللغة
العربية لذا كان اطّراحُه ، و الإعراض عنه هو الصواب الذي لا يخفى على ذي فطنة
ودين ، و لا على قوميّ يحوط تراثه [1] ، بله ذو عقل ، إذ كيف يقارن بين لغة أدبية فصيحة غنية بألفاظها ،
و مترادفاتها ، و تراكيبها ، لغة عامّية عرجاء ليس فيها من الألفاظ و التراكيب إلا
ما يفي بالحاجة الضرورية الملحّة ، و لهذا كان أكثر من ناصر هذه الدعوة المستشرقون
، و أذنابهم .
و هذا الرأي يغفل عن أمور :
_ وجوب الإبقاء على الصلة بين الخلف
و السلف ، والانتفاع بتراثهم .
_ و أنّ اللغة هي من أهم الروابط التي
تربط بين الشعوب العربية و الإسلامية .
_ و أنّ اللهجات العربية غير ثابتة في
نفسها ، بل أنّ هناك لهجات متعددة في البلد الواحد ، فعلى أيِّ عامّية نصطلح .
و لمّا كانت تلك دعوة صريحة
للهدم ألبسوها لباس العلم ، و هو ما يعرف بـ ( علم اللغة العامّ ) الذي يدعو إلى
دراسة اللغة في ذاتها ( المنطوقة ) ، و من أجل ذاتها ، فكانت مادّة دراستهم
اللهجات العاميّة . [2]
و فريق حمل لواء دعوة مثاليّة [3] مطالبا العودة إلى اللغة العربية الفصحى ، و أنْ يُحشد لذلك كلُّ
الوسائل الإعلامّية ، و التعليميّة ، بل ربّما وضع برنامجا لذلك يرى أنّه يفضي إلى
ما يهدف إليه . ألا إنّ تلك أمنية لن تتحقّق حتى يؤوب القارضان كلاهما ، و
سيظل متمنُّوها في سنتهم حتى يرتطموا بالسنن اللغوية التي تفرض الازدواج اللغويّ
فرضا .
إنّ اللغة إنما تؤخذ تلقينا ،
فالسمع _ كما قال ابن خلدون _ أبو الملكات اللسانيّة ، و لئن عجَز علماؤنا
المتقدمون عن كبح جماح اللحن ، و فساد اللسان و هم أحرص منّا على اللغة العربية ،
في مجتمع كانت الفصاحة فيه _ مع حداثة عهد بها _ هي الأصل و الفساد
طارئ عليها فلنحن أعجز منهم في ردّ لهجات شعوب عربية مزّقتها الحدود ، و ألحّت
عليها عواملُ مختلفة تلاعبت بلسانها ، هذا إلى أنّ اللغة العاميّة المبتذلة هي
الأصل استعمالا ، و الفصيح إنما يُتكلّف تكلُّفا ، ثّم لا تُحكم أصولُه إلا بعد
سنوات من الدرس ، و يظل ذلك إحكاما عقليّا يجد الطبع اللغوي المنحرف من خلاله سُبُلا
لا سبيلا .
و رأى فريق ثالث أنّ الحفاظ على
اللغة الفصحى المكتوبة واجب ديني ، و أنّ الاعتراف بالازدواج اللغوي تفكير منطقيّ
، و أنّ التواضع على لغة منطوقة تحمل قدرا كبيرا غيرَ مثقل من الفصحى ، و تفي بلغة
الخطاب اليوميّ بما تتصف به من يسر و سهولة واجب لغويّ .
إنّ هذا الفريق يزعم أن ليس في ما
يقوله دعوة إلى العاميّة ، أو نبذٌ للفصحى ، و لكنّها تنطلق من إيمان بحقيقة
الازدواج اللغوي ، فإنْ كان لا بدّ واقعا فلا أقلّ من لغة قريبة من الفصحى ، هذا
مع ملاحظة أنّ اللهجات العاميّة تتفاوت في مقدار قربها من الفصحى و ابتعادها عنها
، و إذا كان سكان الجزيرة العربية موطن الفصحى أقرب إليها ، و الخطب لديهم أيسر ،
فإنّ سكان المغرب العربيّ ـ مثلا ـ أبعد ما يكونون عن اللغة العربية الفصحى .
و لكن تبقى أسئلة خطيرة : ما ملامح تلك
اللغة ؟ و كيف يمكن التواضع و الاتفاق عليها ؟ و ما مدى استجابة الشعوب العربية
لها ، مع النظر إلى ما بينهم من
تفاوت في الثقافة ، و الدوافع العاطفّية ؟ و هل يمكن لهذه
الدعوة أن تؤتي ثمارها حينما تكون همّا مشتركا تتبناه كل مؤسسة حكومّية وأهليّة
بدأً بالجامعات ، و مرورا بالمجامع اللغويّة ، و المراحل التعليميّة المختلفة ، و
الإعلام المغّيب عن كثير من آلام الأمة و آمالها نافثين في روح كلّ فرد الدوافع
الدينيّة ، و العواطف القوميّة ذلك أن لكلَّ منهما في عالمنا العربيّ بنون ؟
إنّ من الملامح التي يمكن طرحها _ مع أنّ
لي فيما يقوله هذا الفريق رأيا _ ما يلي :
_ في الجانب الصوتي أحسب أنّ الحفاظ
على أصوات اللغة الفصحى أمر يسير ؛ إذ أنّ انحراف العامّة في أصوات اللغة لم يصب
إلا قدرا يسيرا منها .
_ و أمّا في جانب البنيّة فلعلّ من
الواجب التخلّص من كلّ الأبنية التي لم يأت عليها إلا شواذّ من الألفاظ ، و الميل
إلى الأبنية الخفيفة على اللسان ، بل لا أراني أبعد إذا قلت : إن في اللهجات
العاميّة أبنية أستحدثها الموروث اللغوي ، و أخرى فصيحة توسعت العاميّة في بنائها
متجاوزة ما وضعه الصرفيون من ضوابط ، و ثالثة ترتبط من الفصحى بسبب و إنْ لحقها
التحريف ما يمكن قبوله .
_ و أمّا في جانب التركيب فلا شكّ أنّ
الإعراب الذي هو أهمّ ظواهره أشدّ تفلتا من الإبل في عقلها ، و أحسب أنّ الدعوة
للمحافظة عليه زعم لا يستند إلا على جدار من الوهم ، فإنْ كان لابد فالاقتصار على
ما لا يتأتّى المعنى إلا به ، أمّا ما تدلّ عليه القرائن ، و يؤديه التقديم و
التأخير فلا ضير في تجاهله ، ذلك أنّ الإعراب أمر عقلي يعيق المتكلّم
فيتلجلج اللسان ، و الفكر إنْ لم يكن طبعا ، يقول ابن خلدون عن المجتمعات البدويّة
في عهده [ المقدمة 1390 _ 1391 ] : " إننا نجد في هذه اللغة في بيان المقاصد
، و الوفاء بالدلالة على سنن اللسان المُضَرِيّ ، و لم يُفقد منها إلا دلالة
الحركات على تعيين الفاعل من المفعول ، فاعتاضوا عنها بالتقديم والتأخير ، و
بقرائنَ تدلّ على خصوصيات المقاصد ...، و لا تلتفتنّ في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل
صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق ...، و لعلَّنا لو اعتنينا بهذا اللسان
العربيّ لهذا العهد ، و استقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابيّة في دلالتها
بأمور أخرى موجودة فيه ، فتكون لها قوانين تخصّها " .
_ أما فيما يتعلّق بصور تركيب الجمل
فينبغي الميل إلى الأساليب الواضحة التي يعبّر بها المتكلم عن مقاصده بأقرب طريق ،
بعيدا عن تلك الأساليب الشاذّة ، و المعقّدة ، و لعل أوّل ما يتبادر إلى
الذهن اطِّراحُه الكثير من أساليب التنازع ، و الاشتغال ، و الأساليب التي يفصل
فيها بين متلازمين مما أجازه النحاة في السعة ، كبعض صور الفصل بين المضاف و
المضاف إليه ، و الجنوح في الأعمّ الأغلب إلى وضع كلّ مفردة في مكانها بعيدا عن
التقديم و التأخير الذي لا يعين على فهمه إلا الإعراب ، و المعرفة بأسراره الدقيقة
، و حذف ما يمكن أن تؤديه القرائن ، أو طريقة الأداء كهمزة الاستفهام مثلا ، ثّم
إنّ كثيرا مما قصره علماؤنا المتقدمون على السماع مما استعملته
اللغة العاميّة اليوم يمكن توسيع دائرته فكما يقال : مررت زيدا ، يقال مثلا :
سافرت الرياض .
_ أمّا في جانب الدلالة فإن التسارع
الحضاري ، و الاتّصال الوثيق بالأمم الأخرى ، و الاطّلاع على ثقافاتهم
يُحتاج معه إلى ألفاظ تفي بالقدرة على التعبير ، و إلا كان الإنسان حيوانًا أعجمَ
، وإذا كانت العامّية ستصلِح هذا النقص فيها ، إلا أنّها لن تبالي أوجدت في
الفصيح بغيتها أم ركنت إلى المولّد ، أو المعرب ، أو الدخيل ؟
و على كلّ فإنّ في اللغة
المنطوقة يجب الارتفاع بها عن الألفاظ الوحشيّة الغريبة ، و تلك التي تجاوزها
التطور الصوتي مما يثقل النطق به ، كما يمكن الاعتماد على الألفاظ التي ما زالت
مستعملة في العامية مما بقي على فصاحته في لفظه ومعناه ، أو في لفظه دون معناه مما
جرت عليه سنن التغيير بتخصيص الدلالة ، أو تعميمها ، أو نحو ذلك مما يبقي الصلة
بينه و بين الفصيح قائمة و لو على وجه بعيد ، أمّا المولّد و المعرّب و الدخيل فإن
كان في الفصيح ما يؤدي معناه فيجب إحياؤه ، و الرجوع إليه ، و إلا فلا ضيرَ
في استعماله كما كان الحال في اللغة الفصحى .
أمّا رأيي الذي أؤمن به فإنّه من
الصعب الاصطلاح على لغة واحدة لخطاب تتفق ـ مع اتساع رقعتها ، و تباين مشاربها ـ
في أصواتها ، و بنيتها ، و تراكيبها ، و دلالاتها لتُظلّ كافّة أقطار العالم
العربيّ ، ثمّ وسمها بسمة الثبات الذي يعلها تستمرّ أجيالا بعد أجيال ، ثبات لم
يتحقق لأمها الفصحى مع ما حيطت به من عناية ، و درس ، و تدوين يجعلها أقرب
ما تكون للثبات ، ذلك ؛ لأن اللغة المنطوقة سريعة التفلُّت من القيود ، فهي كما
قال الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه [ فقه اللغة 159 ] : " من
سننها التطور ، و التبدّل ، و من طبيعتها أنْ تختلف في كلّ عصر عن الحالة التي
كانت عليها في العصر السابق له ، و لأنها لا تسير في تطورها هذا وفقا لإرادة
الأفراد ، أو تبعا للأهواء ، و المصادفات ، و إنّما تسير وفقا لنواميس ثابتة صارمة
لا يستطيع الأفراد سبيلا إلى تعويقها ، أو التغلب عليها ، أو تغيير مجراها ،
نواميس لا تقل في ثباتها ، و اطرادها ، و عدم قابليّتها للتخلف عن النواميس التي
تخضع لها ظواهر الطبيعة " .
إنّ الطبع اللغويّ الجمعيّ ـ إنْ صحّ
التعبير ـ لن ينتظر من مجمع لغويّ ما أنْ يقرَّ له دلالة ، أو تركيبا ؛ لأنّ اللغة
حاجة يوميّة دائمة التجدّد مع معطيات الحضارة الحاليّة ، و الاتصال السريع
بين أمم الأرض ، فليس لمجمع لغويّ سلطان على ألسنة العامّة يفرض به ما يراه من
مثاليات لغويّة قلّما تتحقق ، و لكن مع ذلك لا ينبغي ترك اللغة العاميّة تنحدر ما
شاء لها الانحدار ، فبما أنّ اللغة تؤخذ تلقينا فإنّ من الواجب تهذيب كلّ القنوات
التي تسهم في تشكيل اللغة ، و صبغها بصبغة الفصحى ، فتبقى اللغة الفصيحة أنموذجا
يتطلّع إليه الأدباء ، و المثقفون ، و تبقى اللغة العاميّة لغة تعايش بين عامّة
الناس ، و يبقى الازدواج سنة من سنن الله لكلّ لغة .
إننا إذا افترضنا التوصل إلى هذه
اللغة التي يراها الفريق الثالث ، فكيف ستفرض على المجتمع ؟ و هل ستقرّر في قاعات
الدرس ، فيكون تدريسها مرحلة نتجاوزها إلى الفصحى ؟ أم ستدرَّسان معا في أنموذج لم
يعهد من قبل في الدرس اللغويّ ؟
إنّ هذه اللغة حتى لو كُتب لها
الانتشار ، فليس إلا جيلين ، أو ثلاثة حتى ينفلت زمامها ، فتعود المعضلة جذعة لنرى
من يدعو إلى البحث عن لغة أخرى بين المنطوقة و المكتوبة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مما كتب لدرء ذلك : تاريخ الدعوة إلى اللغة العاميّة ، و آثارها
بمصر للدكتورة / نفوسة زكريا ، و أباطيل و أسمار للأستاذ / محمود محمد شاكر ، و
الزحف على لغة القرآن لأحمد عبد الغفور عطّار .
[2] هناك فريق أبعد النجعة ، فدعا إلى الأخذ بلغة أجنبية ، و
إذا كانت الدعوة إلى الأخذ بالعامية تحمل شيئا من خبث الطويّة فهذه الدعوة تحمل
الخبث كلَّه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق