2019/07/30

بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة




بين اللغة المنطوقة و اللغة المكتوبة
الدكتور عبدالله اللحياني
      الازدواج اللغوي واقع كلِّ لغةٍ ، و في كل عصر ، ففي كلِّ لغة هناك فروق _ مع نسبيَّتها _ إلا أنها حقيقة لغويّة لا تقبل الجدل بين اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة .
      فاللغة الأدبية الفصحى واكبتها لهجات اختصت بها قبائلها ، و قد نقل لنا الرّواة ظواهرَ عدّة من تلك اللَّهجات ، بل أنّ حديث الحروف السبعة التي نزل
بها القرآن فُسّر على رأي أنها لهجات عدد من القبائل ممن عرفت بالفصاحة ، و لقد كان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ يخاطب كلّ قوم بلغتهم .                لقد كان هذا الازدواج موسوما بالفصاحة _ أعني قبوله بغضّ النّظر عن درجة تلك الفصاحة ، و مدى اطِّراده ، أو شذوذه _ إلى نهاية عصر الاحتجاج في المدر والوبر ، إلا أنّه أصبح فيما بعد لحنا يُعاب الواقع فيه ، و يمتدح المتنكّب عنه .
     لقد بدأت اللغة المنطوقة تحت تأثيرات متعدّدة _ نتجاوز الحديث عنها _ تشقُّ طريقها إلى ألسنة المتكلّمين غير آبهة بصرخات علماء العربيّة ، ساخرةً من استماتتهم في ردها إلى الصراط ، حتى أصبح اللحن داءً عامّا اتسع خرقة ، و استحال رتقه ، و أصبح من لا يلحن يُعدُّ عدّا ، فقيل : " أربعة لم يلحنوا في جدٍّ و لا هزل : الشّعبيّ ، و عبد الملك بن مروان ، و الحجّاج بن يوسف ، و ابن الفرية ، و الحجّاج أفصحُهم " ، كما أصبح التمسُّك بأهداب الفصحى عنتا من العنت ، خاصة في لغة الخطابة التي يقارن فيها الفكر لفظه دون استمهال ، أو رويّة و لقد قيل لعبد الملك ابن مروان مع فصاحته : أسرع إليك الشيب ، فقال : شيبني ارتقاء المنابر و مخافة اللحن " .
       إنّ الازدواج اللغويّ ليس ظاهرة شاذّة تمتاز بها لغةٌ دون أخرى ، بل هو سنّة لغــويّة لا تقبـل    التّخلّفَ ، و لئن كانت أمم الأرض قاطبة لا تحفل به ، و لا ترفع له رأسا ؛ إذ هو من طبيعة اللغات ، و اللغة إنما هي وسيلة للاتصال تتحقّق في إي صورة كانت إلا أنّ الأمر في اللغة العربية مختلف جدّا . 
      لقد ارتبطت اللغة العربية بتراث دينّي تمثّل في قرآنها المجيد ، و سنة نبيّها الكريم ، و تراث أدبيّ تتصاغر أمامه آداب الشعوب الأخرى ، فكان للعربية صورتان : عربية فصيحة توقفت _ في كثير من مظاهرها _ عند الزمن الذي احتُجّ به ، و الصورة التي رُويت بها ، و أخرى عاميّة حالت بينهما أمواج التغيُّر ، و لا زالت تبعد بينهما الشقّة و لذا كان وقع سهام الازدواج أليما ، و نزعها إن ريم إصلاحه أشد ألما .
       لقد انقسم دارسو اللغة أمام هذه المعضلة ، فكانوا أزواجا ثلاثة :
       فريق يرى أن نستبدل العامية بالفصحى ، فليست لغتنا بدعا من اللغات ، و نحن حينما نفعل ذلك نوفّر الكثير من الجهد والوقت ، و هو رأي لا يقوله من يقوله و هو مؤمن ، مؤمن بخصوصية اللغة العربية لذا كان اطّراحُه ، و الإعراض عنه هو الصواب الذي لا يخفى على ذي فطنة ودين ، و لا على قوميّ يحوط تراثه [1] ، بله ذو عقل ، إذ كيف يقارن بين لغة أدبية فصيحة غنية بألفاظها ، و مترادفاتها ، و تراكيبها ، لغة عامّية عرجاء ليس فيها من الألفاظ و التراكيب إلا ما يفي بالحاجة الضرورية الملحّة ، و لهذا كان أكثر من ناصر هذه الدعوة المستشرقون ، و أذنابهم .
      و هذا الرأي يغفل عن أمور :
      _ وجوب الإبقاء على الصلة بين الخلف و السلف ، والانتفاع بتراثهم .
      _ و أنّ اللغة هي من أهم الروابط التي تربط بين الشعوب العربية و الإسلامية .
      _ و أنّ اللهجات العربية غير ثابتة في نفسها ، بل أنّ هناك لهجات متعددة في البلد الواحد ، فعلى أيِّ عامّية نصطلح .
       و لمّا كانت تلك دعوة صريحة للهدم ألبسوها لباس العلم ، و هو ما يعرف بـ ( علم اللغة العامّ ) الذي يدعو إلى دراسة اللغة في ذاتها ( المنطوقة ) ، و من أجل ذاتها ، فكانت مادّة دراستهم اللهجات العاميّة . [2]
      و فريق حمل لواء دعوة مثاليّة [3] مطالبا العودة إلى اللغة العربية الفصحى ، و أنْ يُحشد لذلك كلُّ الوسائل الإعلامّية ، و التعليميّة ، بل ربّما وضع برنامجا لذلك يرى أنّه يفضي إلى ما يهدف إليه . ألا إنّ تلك أمنية لن تتحقّق حتى يؤوب القارضان  كلاهما ، و سيظل متمنُّوها في سنتهم حتى يرتطموا بالسنن اللغوية التي تفرض الازدواج اللغويّ فرضا .
       إنّ اللغة إنما تؤخذ تلقينا ، فالسمع _ كما قال ابن خلدون _ أبو الملكات اللسانيّة ، و لئن عجَز علماؤنا المتقدمون عن كبح جماح اللحن ، و فساد اللسان و هم أحرص منّا على اللغة العربية ، في مجتمع كانت الفصاحة فيه _ مع حداثة عهد   بها _ هي الأصل و الفساد طارئ عليها فلنحن أعجز منهم في ردّ لهجات شعوب عربية مزّقتها الحدود ، و ألحّت عليها عواملُ مختلفة تلاعبت بلسانها ، هذا إلى أنّ اللغة العاميّة المبتذلة هي الأصل استعمالا ، و الفصيح إنما يُتكلّف تكلُّفا ، ثّم لا تُحكم أصولُه إلا بعد سنوات من الدرس ، و يظل ذلك إحكاما عقليّا يجد الطبع اللغوي المنحرف من خلاله سُبُلا لا سبيلا .
       و رأى فريق ثالث أنّ الحفاظ على اللغة الفصحى المكتوبة واجب ديني ، و أنّ الاعتراف بالازدواج اللغوي تفكير منطقيّ ، و أنّ التواضع على لغة منطوقة تحمل قدرا كبيرا غيرَ مثقل من الفصحى ، و تفي بلغة الخطاب اليوميّ بما تتصف به من يسر و سهولة واجب لغويّ .
      إنّ هذا الفريق يزعم أن ليس في ما يقوله دعوة إلى العاميّة ، أو نبذٌ للفصحى ، و لكنّها تنطلق من إيمان بحقيقة الازدواج اللغوي ، فإنْ كان لا بدّ واقعا فلا أقلّ من لغة قريبة من الفصحى ، هذا مع ملاحظة أنّ اللهجات العاميّة تتفاوت في مقدار قربها من الفصحى و ابتعادها عنها ، و إذا كان سكان الجزيرة العربية موطن الفصحى أقرب إليها ، و الخطب لديهم أيسر ، فإنّ سكان المغرب العربيّ ـ مثلا ـ أبعد ما يكونون عن اللغة العربية الفصحى .
      و لكن تبقى أسئلة خطيرة : ما ملامح تلك اللغة ؟ و كيف يمكن التواضع و الاتفاق عليها ؟ و ما مدى استجابة الشعوب العربية لها ، مع النظر إلى ما بينهم من
 تفاوت في الثقافة ، و الدوافع العاطفّية ؟ و هل يمكن لهذه الدعوة أن تؤتي ثمارها حينما تكون همّا مشتركا تتبناه كل مؤسسة حكومّية وأهليّة بدأً بالجامعات ، و مرورا بالمجامع اللغويّة ، و المراحل التعليميّة المختلفة ، و الإعلام المغّيب عن كثير من آلام الأمة و آمالها نافثين في روح كلّ فرد الدوافع الدينيّة ، و العواطف القوميّة ذلك أن لكلَّ منهما في عالمنا العربيّ بنون ؟
      إنّ من الملامح التي يمكن طرحها _ مع أنّ لي فيما يقوله هذا الفريق رأيا _  ما يلي :
      _  في الجانب الصوتي أحسب أنّ الحفاظ على أصوات اللغة الفصحى أمر يسير ؛ إذ أنّ انحراف العامّة في أصوات اللغة لم يصب إلا قدرا يسيرا منها .
       _ و أمّا في جانب البنيّة فلعلّ من الواجب التخلّص من كلّ الأبنية التي لم يأت عليها إلا شواذّ من الألفاظ ، و الميل إلى الأبنية الخفيفة على اللسان ، بل لا أراني أبعد إذا قلت : إن في اللهجات العاميّة أبنية أستحدثها الموروث اللغوي ، و أخرى فصيحة توسعت العاميّة في بنائها متجاوزة ما وضعه الصرفيون من ضوابط ، و ثالثة ترتبط من الفصحى بسبب و إنْ لحقها التحريف ما يمكن قبوله .
      _ و أمّا في جانب التركيب فلا شكّ أنّ الإعراب الذي هو أهمّ ظواهره أشدّ تفلتا من الإبل في عقلها ، و أحسب أنّ الدعوة للمحافظة عليه زعم لا يستند إلا على جدار من الوهم ، فإنْ كان لابد فالاقتصار على ما لا يتأتّى المعنى إلا به ، أمّا ما تدلّ عليه القرائن ، و يؤديه التقديم و التأخير فلا ضير في تجاهله ، ذلك أنّ الإعراب أمر عقلي يعيق المتكلّم  فيتلجلج اللسان ، و الفكر إنْ لم يكن طبعا ، يقول ابن خلدون عن المجتمعات البدويّة في عهده [ المقدمة 1390 _ 1391 ] : " إننا نجد في هذه اللغة في بيان المقاصد ، و الوفاء بالدلالة على سنن اللسان المُضَرِيّ ، و لم يُفقد منها إلا دلالة الحركات على تعيين الفاعل من المفعول ، فاعتاضوا عنها بالتقديم والتأخير ، و بقرائنَ تدلّ على خصوصيات المقاصد ...، و لا تلتفتنّ في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق ...، و لعلَّنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربيّ لهذا العهد ، و استقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابيّة في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه ، فتكون لها قوانين تخصّها " .
      _ أما فيما يتعلّق بصور تركيب الجمل فينبغي الميل إلى الأساليب الواضحة التي يعبّر بها المتكلم عن مقاصده بأقرب طريق ، بعيدا عن تلك الأساليب  الشاذّة ، و المعقّدة ، و لعل أوّل ما يتبادر إلى الذهن اطِّراحُه الكثير من أساليب التنازع ، و الاشتغال ، و الأساليب التي يفصل فيها بين متلازمين مما أجازه النحاة في السعة ، كبعض صور الفصل بين المضاف و المضاف إليه ، و الجنوح في الأعمّ الأغلب إلى وضع كلّ مفردة في مكانها بعيدا عن التقديم و التأخير الذي لا يعين على فهمه إلا الإعراب ، و المعرفة بأسراره الدقيقة ، و حذف ما يمكن أن تؤديه القرائن ، أو طريقة الأداء كهمزة الاستفهام مثلا ، ثّم إنّ كثيرا مما قصره  علماؤنا المتقدمون  على السماع  مما استعملته اللغة العاميّة اليوم يمكن توسيع دائرته فكما يقال : مررت زيدا ، يقال مثلا : سافرت الرياض .
      _ أمّا في جانب الدلالة فإن التسارع الحضاري ، و الاتّصال الوثيق بالأمم  الأخرى ، و الاطّلاع على ثقافاتهم يُحتاج معه إلى ألفاظ تفي بالقدرة على التعبير ، و إلا كان الإنسان حيوانًا أعجمَ ،  وإذا كانت العامّية ستصلِح هذا النقص فيها ، إلا أنّها لن تبالي أوجدت في الفصيح بغيتها أم ركنت إلى المولّد ، أو المعرب ، أو الدخيل ؟
      و على كلّ  فإنّ في اللغة المنطوقة يجب الارتفاع بها عن الألفاظ الوحشيّة الغريبة ، و تلك التي تجاوزها التطور الصوتي مما يثقل النطق به ، كما يمكن الاعتماد على الألفاظ التي ما زالت مستعملة في العامية مما بقي على فصاحته في لفظه ومعناه ، أو في لفظه دون معناه مما جرت عليه سنن التغيير بتخصيص الدلالة ، أو تعميمها ، أو نحو ذلك مما يبقي الصلة بينه و بين الفصيح قائمة و لو على وجه بعيد ، أمّا المولّد و المعرّب و الدخيل فإن كان في الفصيح  ما يؤدي معناه فيجب إحياؤه ، و الرجوع إليه ، و إلا فلا ضيرَ في استعماله كما كان الحال في اللغة الفصحى .
      أمّا رأيي الذي أؤمن به فإنّه من الصعب الاصطلاح على لغة واحدة لخطاب تتفق ـ مع اتساع رقعتها ، و تباين مشاربها ـ في أصواتها ، و بنيتها ، و تراكيبها ، و دلالاتها لتُظلّ كافّة أقطار العالم العربيّ ، ثمّ وسمها بسمة الثبات الذي يعلها تستمرّ أجيالا بعد أجيال ، ثبات لم يتحقق لأمها الفصحى مع ما حيطت به من عناية ، و  درس ، و تدوين يجعلها أقرب ما تكون للثبات ، ذلك ؛ لأن اللغة المنطوقة سريعة التفلُّت من القيود ، فهي كما قال الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه [ فقه  اللغة 159 ] : " من سننها التطور ، و التبدّل ، و من طبيعتها أنْ تختلف في كلّ عصر عن الحالة التي كانت عليها في العصر السابق له ، و لأنها لا تسير في تطورها هذا وفقا لإرادة الأفراد ، أو تبعا للأهواء ، و المصادفات ، و إنّما تسير وفقا لنواميس ثابتة صارمة لا يستطيع الأفراد سبيلا إلى تعويقها ، أو التغلب عليها ، أو تغيير مجراها ، نواميس لا تقل في ثباتها ، و اطرادها ، و عدم قابليّتها للتخلف عن النواميس التي تخضع لها ظواهر الطبيعة " .
      إنّ الطبع اللغويّ الجمعيّ ـ إنْ صحّ التعبير ـ لن ينتظر من مجمع لغويّ ما أنْ يقرَّ له دلالة ، أو تركيبا ؛ لأنّ اللغة حاجة يوميّة دائمة التجدّد مع معطيات الحضارة  الحاليّة ، و الاتصال السريع بين أمم الأرض ، فليس لمجمع لغويّ سلطان على ألسنة العامّة يفرض به ما يراه من مثاليات لغويّة قلّما تتحقق ، و لكن مع ذلك لا ينبغي ترك اللغة العاميّة تنحدر ما شاء لها الانحدار ، فبما أنّ اللغة تؤخذ تلقينا فإنّ من الواجب تهذيب كلّ القنوات التي تسهم في تشكيل اللغة ، و صبغها بصبغة الفصحى ، فتبقى اللغة الفصيحة أنموذجا يتطلّع إليه الأدباء ، و المثقفون ، و تبقى اللغة العاميّة لغة تعايش بين عامّة الناس ، و يبقى الازدواج سنة من سنن الله لكلّ لغة .
      إننا إذا افترضنا التوصل إلى هذه اللغة التي يراها الفريق الثالث ، فكيف ستفرض على المجتمع ؟ و هل ستقرّر في قاعات الدرس ، فيكون تدريسها مرحلة نتجاوزها إلى الفصحى ؟ أم ستدرَّسان معا في أنموذج لم يعهد من قبل في الدرس اللغويّ ؟
      إنّ هذه اللغة حتى لو كُتب لها الانتشار ، فليس إلا جيلين ، أو ثلاثة حتى ينفلت زمامها ، فتعود المعضلة جذعة لنرى من يدعو إلى البحث عن لغة أخرى بين المنطوقة و المكتوبة .                  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مما كتب لدرء ذلك : تاريخ الدعوة إلى اللغة العاميّة ، و آثارها بمصر للدكتورة / نفوسة زكريا ، و أباطيل و أسمار للأستاذ / محمود محمد شاكر ، و الزحف على لغة القرآن لأحمد عبد الغفور عطّار .
[2]  هناك فريق أبعد النجعة ، فدعا إلى الأخذ بلغة أجنبية ، و إذا كانت الدعوة إلى الأخذ بالعامية تحمل شيئا من خبث الطويّة فهذه الدعوة تحمل الخبث كلَّه . 
[3]  كنهاد الموسى و التحول إلى الفصحى .


ليست هناك تعليقات: