2015/01/28

(( اصل اللغة العربية ))

تساءل العلماء كثيراً عن العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ووصَلَنا بها الشعر الجاهلي، وكُتِبَ بها تراثُنا الإسلامي، والتي لا تزال لغة العرب في كل مكان، ويستخدمها المسلمون في العالم كله في عباداتهم، وفي كثير من شؤون حياتهم، تساءلوا: هل كانت قبائل العرب جميعاً تتكلم بهذه اللغة، أو هي لغة قريش وحدها سادت بعد الإسلام ونزول القرآن بها؟


ولقد اختلف العلماء في الإجابة عن هذا السؤال، فمنهم من ادعى أن العربية التي وصلتنا هي لغة قريش وحدها.

ومنهم من قال: إنها لغة مشتركة للعرب جميعاً، تعاملوا بها، واستعملوها في لقاءاتهم ومواسمهم الدينية والثقافية والتجارية، وإلى جانب هذه اللغة كان لكل قبيلة لهجة خاصة بها، أو لغة خاصة.
وإذا كان الرأي الثاني هو الأرجح فهل يعني أن القبائل العربية المتعددة كانت تتكلم بلغات، أو بلهجات بعيدة عن الفصحى المشتركة؟ .
وهل وجود هذه اللهجات يعني أن العرب لم يكونوا جميعاً يتكلمون الفصحى، أو يتعاملون بها؟ .
أو أنهم كانوا يتعاملون في حياتهم اليومية بلغات خاصة ثم يتخاطبون بالفصحى عند لقاءاتهم؟ .
والإجابة القاطعة على هذه التساؤلات ليست سهلة لأمور منها ما يلي:
1- أن ما وصلنا من روايات عن لهجات العرب قبل الإسلام ليس بالشيء الكثير الذي يمكن أن يصور لنا حجم هذه اللهجات ومدى بعدها أو قربها من الفصحى.
2- وأن ما وصلنا من أدب جاهلي لا يمثل اللهجات الخاصة بقبائل شعرائه بقدر ما يمثل الفصحى.
3- ولأن العلماء أضربوا كثيراً عن نقل اللهجات لأن ما وصلنا من أخبار وروايات عن اللهجات العربية، وما جاء منها في القراءات المتواترة وغير المتواترة يمكن أن يُستنتج منه بعضُ خصائص اللهجات العربية، ويبين لنا أن الاختلافات بين اللهجات لا تعدو أن تكون اختلافات قليلة من إمالة صوت أو إبداله، أو إدغامه، أو إعمال حرف عند قبيلة تهمله قبيلة أخرى، أو اختلاف في دلالة لفظ بين قبيلة وأخرى، أو أنها - بصفة عامة - لا ترقى إلى درجة الزعم بأن اللهجات العربية كانت متباعدة، أو أنه كان لكل قبيلة لهجة خاصة.

وقبل الحديث عن أشهر سمات اللهجات العربية وما بقي منها في عربيتنا اليوم لابد من التقديم بحديث عن تعريف اللهجة، وأسباب حدوثها، والغرض من دراسة اللهجات.

تعريف اللهجة، وأسباب حدوثها، والغرض من دراستها، وانقسام اللهجات، والعلاقة بينها
أولاً: معنى اللهجة: يفهم من معنى اللهجة في المعاجم العربية أنها اللغة، أو طريقة أداء اللغة، أو النطق، أو جرس الكلام ونغمته.
ويعرفها المُحْدَثون بأنها: الصفات أو الخصائص التي تتميز بها بيئة ما في طريقة أداء اللغة أو النطق.
ثانياً: انقسام اللهجات والعلاقة بينها:

وبناءاً على ذلك التعريف السابق فاللغة الواحدة قد تنقسم إلى عدة بيئات لغوية لكل منها لهجة خاصة، أو صفات لغوية معينة، ويشترك أفراد البيئات المختلفة أو المتكلمون باللهجات المتعددة - في أكثر خصائص اللغة.

فإذا قلنا: اللغة العربية قصدنا اللغة التي يتفاهم بها المسلمون، ويقرؤون بها ويكتبون، ويسمعون عباراتهم، فيفهمونها.

أما إذا قلنا لهجة الجنوب، أو الشام قصدنا طريقة أداء أهل تلك المنطقة للغة، فقد تكون لهم خصائص معينة يختلفون فيها عن غيرهم.
والخصائص التي تميز اللهجة قد تكون صوتية؛ فجماعة تنطق القاف كافا، أو الجيم ياء، أو الذال زايا. . . الخ.

وقد يكون في ترقيق صوت أو تفخيمه، أو في طريقة النبر ونظام المقاطع.

وقد تكون هذه الخصائص في بنية الكلمة ووزنها، وفي تقديم بعض الأصوات على بعض.
وقد يكون الاختلاف في تركيب الجملة، والربط بين أجزائها كما قد يكون في دلالات بعض الألفاظ.
ولكن اللهجات التي تنتمي إلى لغة واحدة يجمع بينها روابط صوتية ولفظية، ودلالية، وتركيبية كبيرة.
وكلما ازدادت الصفات المشتركة بين مجموعة اللهجات ازداد التقارب بينها.
وعلى العكس من ذلك إذا قلت الصفات المشتركة بين هذه اللهجات ابتعدت عن بعضها حتى تصبح هذه اللهجات مع مرور الزمان كأنها لغات لا يربط بينها إلا روابط ضعيفة.
ويذكر أن أكثر اللغات المعروفة انفصلت عن لغات أسبق، فهي - في الأصل - لهجة من اللغة الأم أو فرع منها، ثم اتسعت الفروق بينها وبين اللغة الأصلية حتى غدت لغة مستقلة كما حدث في مجموعات اللغات الهندية الأوربية، أو في اللغات السامية.

ثالثاً: أسباب حدوث اللهجات:
وهناك عوامل مختلفة تؤدي إلى حدوث اللهجات، منها ما يلي:
1- العامل الجغرافي: فقد تتسع الرقعة الجغرافية للمتكلمين باللغة، وتفصل بينهم الجبال والأنهار، ويقل الاتصال بينهم؛ فتأخذ اللغة في التغيير شيئاً فشيئاً ويسلك المتكلمون باللغة مسلكاً مختلفاً عن غيرهم، فيؤدي ذلك إلى حدوث لهجة جديدة.
2- العامل الاجتماعي: فالظروف الاجتماعية في البيئات المتعددة الطبقات تساعد على حدوث اللهجات؛ فكل طبقة تحاول أن يكون لها لغتها، أو أسلوبها اللغوي المميز.
3- العامل السياسي: فانفصال قبيلة أو دولة عن غيرها، واعتناق المذاهب السياسية، أو الدخول في الديانات الجديدة يساعد على دخول ألفاظ واصطلاحات جديدة في اللغة.
4- الصراع اللغوي والاحتكاك: وربما كان ذلك أهم العوامل التي تساعد على حدوث اللهجات؛ فالصراع يؤدي إلى انتصار إحداها على الأخرى طبقاً لقوانين لغوية؛ فالأقوى حضارةً ومادةً قد يُكتَب له الانتصار، ولكن اللغة المغلوبة تترك أثرها في الغالبين، وتؤدي إلى تطور، أو تغير في لغتهم.

كما أن اختلاط الأقوام ببعضهم يؤدي إلى التغييرات اللغوية، فاللغات السامية التي دخلت العراق احتكت بالسومرية، وانتصر الساميون على السكان الأصليين للعراق بعد أن أخذوا منهم الكثير، وبعد أن فقدوا كثيراً من مميزات لغتهم الأصلية.
والمسلمون بعد فتح فارس، والمغرب وغيرها نشروا العربية.
ولكن لهجات خاصة نشأت في تلك البلاد نتيجة الاحتكاك بين الفاتحين وسكان البلاد الأصليين.

رابعاً: اللهجة الخاصة: إلى جانب اللهجة التي سبق الحديث عنها، وعن أسباب حدوثها هناك ما يسمى بـ اللهجة أو اللغة الخاصة، وهي تلك التي تستعملها طوائف وجماعات خاصة؛ ففي سلك القضاء أو الطب، أو أعمال الحداد، أو النجارة، أو بين اللصوص وقطاع الطرق تجد ألفاظاً واصطلاحات لا تستخدم إلا عندهم، وتمتاز هذه اللغات باستخدام التعبيرات الاستعارية، واستعمال الألفاظ في غير مدلولاتها الحقيقية، وقد تنشأ هذه اللهجات نتيجة شعور أصحابها بالعزلة أو معاداتهم للنظام، أو رغبة في التمويه، أو تمييز أنفسهم.

خامساً: اللغة المشتركة:
ويقصد باللغة المشتركة مجموعة الصفات اللغوية التي تجمع بين لهجات اللغة الواحدة، وتجعل الأفراد المتكلمين بهذه اللهجات يتفاهمون مع بعضهم بسهولة، فهي لغة وسيطة تقوم بين المتكلمين بلهجات مختلفة.

وتتميز اللغة المشتركة - إضافة إلى أنها مفهومة لدى جميع المتكلمين بها أو سامعيها - أنها فوق مستوى العامة، وأنها لا تنتمي إلى بيئة واحدة، وإنما هي مزيج بين اللغات أو اللهجات المختلفة.

سادساً:
لماذا ندرس اللهجات؟:
اللهجة ظاهرة لغوية موجودة في كل بيئة وفي كل عصر، ودراسة اللهجة ليس دعوة إلى نصرة اللهجات والعاميات، ولكن دراسة اللهجات العربية لها مسوغات، وينتج عنها فوائد منها:
1- أنها تفيد في تفسير بعض قضايا العربية ومفرداتها ودلالاتها؛ فظواهر الاشتراك، والتضاد، والترادف، والإبدال، وغيرها يمكن أن يُرَدَّ كثيرٌ منها إلى اختلاف اللهجات العربية.
2- ودراسة اللهجات تعين على تفسير كثير من القراءات القرانية، ومعرفة اللهجات التي وردت عليها.
3- كما يفسر لنا كثيراً من اللهجات الحديثة ويعرفنا بأصولها، وكيفية حدوثها.





(ما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية)



(ما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية)



نشرت صحيفة القدس العربي عدة مقالات وردود حول كتاب (ما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية) للباحث والمفكر العربي عبدالمنعم المحجوب.. وقد أثار هذا الجدل ردود فعل متنوّعة بين الرفض والتبني.. وفي كل الأحوال فإن استمرار هذا الجدل يدلّ على الصدمة المعرفيّة التي أنجزتها أطروحته تلك، حتى ليصح وصفه بأنه يقلب المعطيات العلمية المتداولة رأساً على عقب، فالسومرية كما يعرف الجميع لغة لا صلة تربطها بأيّ من اللغات المجاورة لها، معجمياً وصرفياً، ولكن دفاع د. المحجوب الرئيسي هو أننا حتى الآن لا نفكّر من الناحية المنهجية سوى في مستوى من البحث الفيلولوجي نريد للغات أن تتناسخ فيه، بينما نهمل الآليات المتشعبة للانتشار والتحوّل اللغويين وما يحدثانه من إزاحة دلاليّة، ولعلّ أكثر فرضياته إثارة للجدل تلك التي يقول فيها ان اللغة العربية كانت في مرحلة من مراحل تطورها لغة مقطعية، كالسومرية تماماً، إلا أن العرب لم يعرفوها إلا في شكلها الاشتقاقي الذي أثبتته المعاجم العربية.

هنا حوار معه حول أهم ما أورده في كتاب (ما قبل اللغة) من فرضيات.

لك نظرية في علاقة اللغة السومرية باللغة العربية، ومجرد التفكير في ذلك يُعتبر غريباً لأن السومرية كما هو معروف لا صلة لها بأية لغة أخرى، كتابك (ما قبل اللغة) يربك القرّاء إلى درجة الشكّ في كل ما تعلموه؟

لنفكّر أولاً في هذا التشميل، هل توجد لغة في العالم لا علاقة لها بأية لغة أخرى؟ هذا الافتراض يتطلب خيالاً استثنائياً، كأن نتصوّر بيئة إنسانية نشأت في عزلة مطلقة ثم اندثرت دون أن يعرفها أحد، إذا كان هذا ممكناً من الناحية الواقعية فإنه لا يتفق مع السومريين الذين كانوا أساس ما نعرفه الآن من تاريخ وحضارة وعلوم وأديان.

ما يتصل بالسومرية استقرّ كيقين علمي لأكثر من مائة سنة، لم نكلّف نحن العرب أنفسنا عناء البحث، كنا نعتقد أن الجذور هي ما درجنا على اعتباره جذوراً لغوية فقط، لم نكلّف أنفسنا عناء الحفر أعمق. هل كنا نخشى على المعول أن ينكسر؟ لماذا هو معولٌ إذن؟ بدل أن تكون لغتنا حارسة لنا، لكياننا، لهويتنا، صرنا حرّاسها، غلّفناها بالمقدّس والغيبي، صادرنا سمتها الإنسانية، وجعلناها وثناً، نفكّر بها دون أن نفكّر فيها.

اللغة مَخْبَر بشري، بقدر ما نخضعها إلى الاختبار والتجريب بقدر ما نجعلها أقوى وأطوَع، نجعلها قابلةً وقادرة، قابلة للتجدّد وقادرة على الاستمرار في أبنية وأشكال جديدة، لغة زمنيّة لا لغة فوق الزمن أو خارجه، نحن صنيعة اللغة هذا صحيح، لكن اللغة صنيعة التاريخ، فإذا جعلنا اللغة فوق التاريخ نكون في الحقيقة قد حكمنا على أنفسنا بالبقاء خارج التاريخ، خارج العالم، الأنكى من ذلك أننا نتصور العالم انعكاساً لنا في مرآة لغتنا، هذا انتحار، نحن ننتحر جماعياً ونحكم على أنفسهم بالانقراض من أجل أن تكون لغتنا حيّةً، بينما نحن نحنّطنها. إذا أردنا للغتنا أن تحيا فعلاً فلننزع عنها ما راكمناه عليها من أغلفة، مرّة باسم الدين، ومرّة باسم السلطة، ومرّة باسم المالايجوز.. إلى آخر هذه المحرّمات التي تجعلنا أشبه بالآلات الحيّة!

العربية الآن ربما تعيش اسوأ تحدياتها في مواجهة العولمة اللغوية؟ فاللغة الإنكليزية مثلاً تتقدم عليها كثيراً؟

التحديّات التي تواجهها العربية قد تكون الأسوأ، لكن اللغة العربية الآن تعيش أروع لحظاتها، والعربية كفيلة بأن تخوض حربها لتنتصر فيها إذا كان العرب أنفسهم أهلاً لخوض هذه الحرب. أنا أدّعي أن لغتي ورثت تجارب الأمم، وأنها تقود الكلام إلى غاياته، بما فيه من فصاحة وبما فيه من رطانة أيضاً.

سأنتقل من هذه الحماسة إلى العلم كما تعلّمنا أن نتكلم فيه بفعل تأثيرات العالم فينا، لا العلم في مفهومه العربي، أعني أننا بحكم ما استقرّ لدينا إذا تحدثنا علميّاً سنلجأ إلى أساليب متأصلة ومؤصلة فينا، لكن هذه الأساليب أصبحت مهجورة ومهملة الآن، لندرس علم الأساليب وتاريخها كي نكتشف ذلك، ربما إذا أراد أحدنا اليوم أن يكون أكثر فصاحة وبياناً، فعليه أن يلجأ إلى الإنكليزية مثلاً.

العربية الآن لا تصمد أمام الإنكليزية، أعني استعمالياً، الإنكليزية لغة طارئة على تاريخ الحضارة، لغة عابرة، لكنها في الحقيقة تتصدّر الآن قائمة أكثر اللغات استعمالاً في العالم، لماذا؟ لأنها لغة وقحة، الإنكليزية لغة عارية، وقحة حتى في تعبيرها عن أكثر المشاعر رهافةً، وعارية حتى في تعبيرها عن أكثر الأحوال استبطاناً، وهذا للمفارقة أحد أهم أسباب قوتها. هل تستطيع مثلاً أن تترجم لها محيي الدين ابن عربي (من العرب) أو فريد الدين العطار (من الفرس) أو محمد إقبال (من باكستان) أو حتى المزروعي (من أفريقيا)، دون أن تلعن هذه اللغة الوسيطة بينك وبين العالم، دون أن تسخر من نفسك لأنك لا تجد غيرها للتعريف بثقافتك في يوم الناس هذا؟ أقول ثقافتك لأن جميع الأسماء التي ذكرتها عربية أصيلة وإن اختلفت بلدانها وبيئاتها المحلية.. حتى إذا ترجمنا لها ملحمة غلغامش، وهو نص فوق تاريخ اللغات، سيصيب هذه الملحمة الكثير من التسطيح. هل تدرك ما أقول؟ أشكّ في أن جميع من تعرّف على ملحمة غلغامش عن طريق الإنكليزية قد توصّل إلى الأبعاد التي رمى إليها هذا النص الخالد! الإنكليزية لغة عارية، لغة مياومة، لغة سياسة، لغة إعلام وShow وEntertainment. الإنكليزية تنتصر لوقاحتها وسلاطة مفرداتها، كما كان الأكديون يسمون لهجة Emesal السومرية غير الفصحى لأنها خليط بين الأصيل والعابر بوصف (لِشانُ سليطُ)، لهذا تتقدّم الإنكليزية الآن وتكتسح المجال اللغوي في العالم، لا لعظمتها كلغة، لا لأهليتها، بل لوقاحتها وعُريها.

لغة شكسبير التي يميّزها الدارسون في تاريخ الإنكليزية هي لغة مستعارة في أسلوبها وبلاغتها، بلاغة شكسبير بلاغة شرقية، لهذا السبب بدت كابتكار وكإبداع لا مثيل له، لأنها اجترحت ما لا يعرفه المتكلمون بها، هذا هو الفرق بين الاستعمال وبين جوهر اللغة، المسألة لدينا أن الاستعمالي المنحط في العربية هو السائد، بينما البلاغي الرفيع هو المهجور.

الكثيرون يدافعون عن تطوير العربية من هذا المنطلق، أي من باب مواكبة اللغة للعصر الحديث؟

هؤلاء يقتلون العربية، لسبب بسيط، غاية في البساطة، لأن اللغة العربية لا يمكن لها أن تتطور بمعنى مواكبة العصر، هذا ضحك علينا نحن المتكلمين بالعربية، العربية منظومة مغلقة لا سبيل إلى إضافة الجديد لها، السبيل الوحيد لجعلها تواكب الجديد هو النهوض بها من داخلها، لا من خارجها، هو العودة إلى المهمل والمهجور والمتروك، العودة إلى ما ضيعته الترجمة والمواكبة وإحلال الأساليب الغربية في استعماليتها ومياومتها، الجذور العربية الضاربة في القدم إلى درجة احتواء السومرية هي أقدم ما تلفّظ به البشر حتى الآن، لماذا نخشى إعلان هذه الحقيقة اللغوية، لقد حاربني الكثيرون، بعضهم لأنني ‘أذيب’ اللغة العربية في اللغة السومرية، وبعضهم حاربني باسم الإسلام لأنني أنزع عن لغة القرآن قدسيتها، وبعضهم حاربني بدعوى القومية الأشورية لأنني أنزع منها ريادة الساميّات، ما هذا النزاع السريالي.

السرياني!
السريالي، ليته كان سريانياً.. هؤلاء جميعاً أحاديو الرؤية، تخيّل معي أن معرفةً باللغات تستطيع أن تقيم هذه الصلة بين السومرية والأفروآسويات، ما الذي يحدث عندما نعمّم المعرفة بأن السومرية هي مبدأ ومنشأ الأكدية والأشورية والكنعانية والعبرية والجعزية والسبأية والأوغاريتية والمؤابية والأدومية والآرامية والسريانية والمندائية والسبئية والمعينية والقتبانية والحضرمية والسُّقُطرية والمهرية والشحريّة والمصرية والقبطية والتارقية والشاوية والشلحية والقبائلية والمزابية والحوسا والسواحيليّة وأكاو والفلاشا والجعزية والأرغُبّة والتغرينية والتغريّة والحَرَرَيّة والغَفَت والماو والديزي والغونغا والمالطية ولغة جزر الخالدات، هذه اللغات تنتمي جميعاً إلى أصل واحد هو السومرية، بل أن دراستي للغة قبائل التبو في الصحراء أثبتت صلات أخرى بالسومرية كانت غائبة حتى هذه اللحظة. إن الأمثلة المقارنة تعدّ بالمئات. إذا تمّ تعميم هذه المعرفة فإننا نستعيد لهذا الخلْق بين المحيط الكنعاني والأحواز العربية تاريخاً يمتد إلى 12 ألف سنة، نذهب بهم إلى ما قبل انحسار آخر عصر جليدي، نجعلهم يؤسسون الحضارة الإنسانية، نجعلهم يصنعون الأديان، يخلقون الآلهة، يبنون الأسواق، يقيمون المدن، يؤثثون الحياة، ويخترعون التاريخ.. مَن نرى الآن من شعوب وقبائل في الشرق الأدنى، في غرب آسيا، وشرق وشمال أفريقيا، العرب في أفراسيا، هم أصل الحضارة، هم أصل الحياة.

إذا كان كلّ هؤلاء ينتمون إلى أصل واحد، فكيف تنظر إلى اليهود الآن الذين يتحدثون العبرية، وهم جزء من الكتلة التاريخية الحضارية التي تدعو إليها؟

اللغات التي ذكرت جميعاً تنتمي إلى أصل واحد هو السومرية التي توضّعت وتوطّنت فيها.. إسرائيل جسم غريب في الكيان التاريخي العربي، كدولة لا كشعب، قبل 48 في الواقع قبل 37 لم يكن يوجد مجتمع عربي، مدينة، أو قرية، لم يكن يحتوي على حارة لليهود، لقد عاشوا بيننا كما عشنا، مارسوا نفس الأعمال، بل اعتدّوا بأنسابهم في ما بين عائلاتهم وأسرهم كما كنا نفعل، إسرائيل ذوّبت هذه التفاصيل الإنسانية، لأنها نشأت باسم الربّ ‘جيفه’، إسرائيل آلة قتلٍ، هي ليست مجتمعاً إنسانياً يمكنه أن يحيا بمنطق التاريخ، بمنطق الحياة.

يوماً ما سوف يكون الصهاينة أكثر من يندم على مغامرة هذا الكيان اللقيط، في الحقيقة سوف نشفق عليهم أكثر مما يفعلون بأنفسهم، هذا منطق التاريخ، ولا حلّ أمامهم إلا العودة إلى التاريخ، اليهود جزء تاريخي من الأمة العربية، فإذا أراد هذا الجزء أن ينفصل ويستقل فإن عليه أن يبحث عن مخبر بيولوجي كما أطفال الأنابيب أو الكائنات المستنسخة، العالم لم يقر الإستنساخ على مستوى الدول بعد، أو لعلّه فعل. الحل الوحيد هو أن يتعايشوا، هو أن يقيموا دولة واحدة ثنائية الحزب، لا ثنائية القومية، لأن العرب واليهود هما جزءان من تاريخ واحد يبدأ من سومر. شاؤوا أم أبوا، لا وضع بديل يمكن للتاريخ أن يتوطّن فيه مهما كان منطق المصلحة السياسية هو الغالب.

إذا تكلمنا عن اللغة العبرية كأساس للدين اليهودي، وإذا تكلمنا عن اليهودية كأساس لنشأة دولة إسرائيل، أقول لك أن التراث العبراني جميعه لا معنى له خارج تراث أفراسيا، لقد وضع الدكتور فاضل عبدالواحد كتاباً بعنوان من ألواح سومر إلى التوراة، وبين فيه كيف أن اليهود، وهم جوّالون في البلاد، قد اقتبسوا الأساطير السومرية ليجعلوا منها أصلاً كوسموغونياً توراتياً، عملي يضيف إلى جهده بعداً تأسيسياً جديداً يتّصل باللغة، خذ مثلاً كلمة (تِ) أو (تي) ti ، هي في السومرية: سهم، حياة، ضلع. ولهذه الدلالات في السومرية أسباب متّصلة، لكن عندما قام الناسخون العبرانيون بنقل أساطير سومر ليضمّنوها كتابهم الذي تحوّل إلى نص مقدّس بعد ذلك، اختلط عليهم الأمر بين معنيي الحياة والضلع، فنسبوا (الحياة) وهي أصل اسم (حواء) إلى الضلع، أي إلى ضلع آدم، لأن الكلمتين تلفظان في السومرية بنفس الطريقة، تي، والخلق على هذا النحو لا وجود له سوى في التوراة.

هل تؤمن بوضعية النصوص المقدسة؟

أؤمن بتاريخية هذه النصوص، لكن التوراة نص كتب عدّة مرات، والإنجيل تفصل بينه وبين عيسى مئات من السنين، هناك في الحقيقة أكثر من عيسى، وهناك أكثر من موسى، وما يجعل محمداً واحداً هو اتصال التواتر في نقل هذا النص، أي القرآن، بين مرحلة زمنية وأخرى، حتى وإن اختلفنا في اتصال وتواتر غيره من النصوص.

نعود إلى اللغة العربية وعلاقتها باللغة السومرية!

لا شيء أكثر مما كتبت في (ما قبل اللغة)، أعمل الآن على كتاب (التجريد) الذي أتوقع أن يصدر بين 10 إلى 15 جزءا على مدى السنوات القادمة، وهو معالجة شاملة لجميع المداخل المعجمية كما حفظتها لنا أمهات المتون العربية القديمة من خلال ردّ جذورها إلى السومرية وكشف تطابقها اللفظي والدلالي.. لقد وجّهتُ دعوة إلى اللغويين العرب لتأسيس مَخْبَر لغوي يعمل على أساس نظرية الأصل السومري، وما زلت في الانتظار.. وصلتني ردود لباحثين أصدقاء أحترمهم وأجلّ عملهم، أما أصحاب النظريات فيبدو أنهم يخشون على أرصدتهم الأدبية، على رأسمالهم الرمزي، بالرغم من أن أحداً لم يقدّم نقداً فعلياً لنظرية الأصل السومري بل عمدوا إلى تكرار ما كنا نسمعه على مدى أكثر من مائة عام وكأنه نص مقدّس.

اللغة العربية التي نعرفها مرّت بمراحل لم نعرفها، لأنها كانت خارج التدوين، ولا يمكن اكتشاف تلك المراحل إلا بالتدقيق في بنيتها، في صواتتها، وفي نِسابَة مفرداتها قياساً بالسومرية. وعندما أقول أن السومرية متوطّنةٌ قارّةٌ في العربية فأنا لا أعني أن العربية فرع لغوي من السومرية، كما درجت العادة في تصنيف اللغات واللهجات، أنا أعني حرفياً أن السومرية هي (حالة جنينية) تطوّرت إلى اللغات الأفروآسيوية، بما فيها اللغة العربية، بل إن اللغات الهندوأوروبية ليست استثناءً، لقد نشأت اللغات الهندوأوروبية في مسار القوس السنسكريتي العظيم بالتقاطع مع بلاد ما بين النهرين، هذه قراءة لا تفتقر إلى الشواهد؛ المئات، بل الألوف من الشواهد المقارنة تترى أمامي، هذه القراءة في حاجة إلى بعض الوقت فقط.

أي أن السومرية هي اللغة الأم، أول لغة في العالم؟

إذا كنا نذهب في السومرية إلى الفونيم المجرّد، إلى الحرف في حركته البسيطة، فكيف يمكن أن نفكّك الكلام إلى أبعد من ذلك؟ هل يمكن الوصول بصوت الإنسان إلى طبقة في التلفّظ أعمق من هذا؟

ماذا يعني ذلك من الناحية التطبيقية؟

في الدرس اللغوي التطبيقي للصّواتة لا يمكنك أن تفكّك حرف الهمزة مثلاً إلى أبعد من حركة واحدة، وأقول حركة لا vowel، (ءَ) مثلاً، (ءِ)، (ءُ)، أو (بَ)، (بِ)، (بُ)، إلخ. هذه كلمات سومرية تامّة الدلالة، وهذه المقاطع أو الكلمات التّامة الدلالة متوطّنة في جميع اللغات الأفروآسيوية، وعلى الأخص العربية، خذ (لَ)، أو (لِ)، أو (لُ) مثلاً، نأخذ (لُ) lu ، هي في السومرية (إنسان)، (رجل)، كوّنت هذه الكلمة الحرف في السومرية كثيراً من الكلمات بفعل الإلصاق، أي بضمّ مقطع إلى آخر لتكوين كلمة، منها مثلاً على الأشهر (لُكَل) lugal، وتعني: ملك، هذا الحرف الكلمة في العربية هو (ءَلْوَ)، أو في صيغته المعجمية لا الصواتية: ألوى alwa ، وهو أيضاً (الآلُ)، (آلٌ) alun فالآل هو الرجل وإن كانت الكلمة قد انصرفت في هذا الزمن إلى آل الرجل وأهل بيته، فكلمة ‘لُكَل’ lugal هي في التأثيل العربي الفصيح (آل جَلّ)، و(ألوى جَلّ)، أي (رجل كبير)، و gal هي (جلّ) أي الكبير، أو الجليل، أو الجَلّ. هذان الحرفان الكلمتان كوّنا في مسار آخر نحو الجنوب كلمة عربية تامّة مفردةً هي: (القيْل) alqayl بمعنى: الملك.

الكلمة الحرف، أو الحرف الكلمة (لُ) lu كوّن مثلاً: لُكُ lugu، أو لغو، فالحرف (لُ) lu أي إنسان، في اشتراكه مع الحرف (كُ) أو (غو) أي صوت، أدّيا معنى (لغو)، ومنه (اللغة)، وأدّى في ما بعد إلى logo أو logos اليونانية، بنفس الدلالة، وإن كانت هذه الكلمة ستتنوع دلالاتها في ما بعد إلى معان أخرى منها: العقل، الروح، واصطلاحاً سيُضفَى عليها بعد المسيحية معان كهنوتية أكثر تحديداً. عموماً.. يمكننا استخراج مئات من الكلمات السومرية التي توطّنت في اللغات الأفروآسيوية بهذا المنهج الدقيق الذي أعتمد فيه على قراءة السومرية جذرياً وقراءة العربية، واللغات العاربة، مقطعياً. وقد لا يتعدّى إسهامي هذه الإضافة المنهجية، لأن التطبيقات تتالى وتتواتر وتتكشّف لكل من استخدم هذا المنهج في أية لغة افروآسيوية أخرى، ويمكن لأي ممارس أو متعلّم في أية لغة أخرى أن يصنع قاموسه الخاص، هذه المعرفة مشاعة إلى هذا الحدّ، طالما أن مفتاحها هو ما ذكرت لك.. فهل لك أن تتخيل إلى ما سيؤول أمر هذه القراءة، أقول لك باختصار.. السومرية هي أمّ اللغات المعروفة في العالم الآن، لكنها السليل المباشر للغة العربية واللغات الأفروآسيوية.

أليست العربية جذرية إلى الدرجة التي يبدو فيها هذا المظهر الإلصاقي في اللغة غريباً عنها؟ ألا تبحث عن الشواهد التي تدعم نظريتك، بينما تهمل الشواهد التي لا تدعمك؟

في ما يتصل بالمنهج الذي اخترته لست انتقائياً. لقد ترددت كثيراً، لأكثر من عشر سنوات، لأعلن نتيجة عملي، اختر أية كلمة عربية من أي معجم عربي قديم واختبر هذا المنهج، لن تجد مفردة واحدة لا تندرج تحت هذا التسلسل اللفظي، وهناك بالطبع مبدأ الإزاحة الدلالية وإعادة التشكّل كما وضحته في (ما قبل اللغة)، أقول لك أننا في السومرية نعود إلى الفونيمات الأساسية في صيغتها الأكثر تجريداً، إلى أي شكل آخر من بدائية التلفّظ علينا أن نذهب، وأكرّر القول ان العربية مرّت بمراحل لا نعرفها لأنها كانت خارج التدوين، ما أقوم به هو نوع من الترميم، نوع من البحث عن القطع الضائعة وإعادة توطينها لتكتمل الصورة.

كيف تقيّم هذا المنهج؟ وكيف تصفه بين مناهج اللغة؟

مهّدت حقلاً جديداً، وزرعته، وإنني في انتظار أن يثمر. أشعر أن هذا الحقل جديد، وذهب الآخرون يصفون ترابه قالوا أنه غير ذي زرع، وعندما عمدت إلى تمهيده رأيتهم يأسفون لجهدي وقرّروا مسبقاً أنه سيؤول إلى البوار. الزمن كفيل بمواسمه وفصول حصاده.

تتحدّث مثل راءٍ، من الناحية العلميّة كيف (تقيّم) عملك؟

طلبت مني أن أصف. ولقد فعلتُ. أما إذا عدنا إلى السومرية فهي لغة إلصاقية لا صلة لها بما جاورها من اللغات، هكذا تعلمنا على يد الرواد من قراء المسماريات، وهذا ما يقرأه الآن طلبة الجامعات وكليات الدراسات الشرقية واللغات القديمة، يعلّمونهم أن السومريين جاؤا ثم ذهبوا، لا أحد يعرف من أين ولا إلى أين، كأنهم نجم مذنّب مرّ في السماء دون أن يتوطّن الأرض، حتى أن العلماء اليهود مثل هاليفي الذين استشعروا الخطر على تراثهم المقتَبَس الذي حاولوا أن يعزلوه قالوا أن السومرية هي لغة بدون شعب، لغة لأن الكهنة البابليين اخترعوها ليتحدثوا ويتراسلوا بها سراً، ودون شعب لأن الألواح المسمارية لا تقول لنا ما هي سومر ومن هم السومريون.. وقد سار على نهجهم هذا باحثون عرب مثل د. نائل حنون، الذي أعتبره من الباحثين القلائل المتميزين في تاريخ العراق القديم، وأيده د. عثمان سعدي، الذي أجلّ عمله وأكبره جداً في تخصّصه الأمازيغي، هذا وجه من الصورة، جانب منها فقط.

الوجه الآخر، وهو مثل قاعدة جبل الجليد التي لا تبدو سوى قمتها على السطح، هو أن تراثنا لم يقدّم حتى الآن ضمن رؤية تستلهم الحراك الاجتماعي والتاريخي، بما في ذلك تحولات اللغة وأنماط الإنتاج والمعتقدات، وفوق ذلك ما مرّ بالمنطقة من تحولات طبيعية.. وأعتمد تأسيساً لقراءتي هذه التحولات، أي الطبيعية، لأبدأ حواري مع المناهج والنظريات السابقة.

أسأل أولاً: من هم العرب؟ العرب في اعتقادي، في عقيدتي أيضاً، هم مجموع تلك القبائل والجماعات التي دفعتها التحولات الطبيعية لكي تهاجر شمالاً وجنوباً بدءاً من الجزيرة العربية قبل عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، أو قبل 12 ألف سنة من زمن الناس هذا، وإن كنا سنعود إليها مع إبراهيم كما يصف القرآن رحلته ـ ومن ناحية البحث التاريخي علينا أن نستظلّ بمقولة أنباط العراق كما في الحديث، هذا الحديث لا يعني شيئا من الناحية العلميّة، ولكنه يغذي توجّه البحث وروحه، كانت الجزيرة قد بدأت تخلوا تدريجياَ من سكانها، منهم من رحل شمالاً ومنهم من رحل جنوباً، هذا الترحال في توقعي استمر لمئات من السنين، وقد كان انحسار آخر العصور الجليدية تدريجياً، أي أنه لم يكن زلزالاً حدث بين يوم وليلة، لم يكن خسفاً أو قصفاً، كان تصحّراً استدعى أن تهجر تلك الجماعات والقبائل بشكل تدريجي، وأعتقد أن من بقي من تلك الجماعات والقبائل هم من كوّن في ما بعد ما تعرفهم العربية باسم الأعراب، وهي الصفة التي وردت في زمن شلمنصر الأشوري، لكن الملك الذي أطلق هذه الصفة، أي الأعراب، على سكان الجزيرة، لم يعد يذكر هو أو مجايلوه بمرور الوقت أنهم ينتمون إلى نفس تلك المجموعات والقبائل، الفرق الوحيد أن أسلاف ذلك الملك كانوا قد توطّنوا بيئة زراعية قارّة، صنعوا مدنيتهم، وبنوا مدنهم، وأقاموا هندسة للمعمار والري، واختاروا آلهة جديدة، ثمّ نتيجة لهذا التقدّم في الاستقرار ابتكروا الكتابة.

ابتكار الكتابة كان تعبيراً عن لغة سادت لمئات من السنين وأقول مئات من السنين خشية المجازفة، لأننا قد نقول آلافاً من السنين دون أن تتغيّر معطيات البحث أعني الفرق بين استقرار الكلام وتداوله بين تلك الأقوام المهاجرة، وبين تمثيله من خلال الكتابة المسمارية التي مرّت بأطوارها المعروفة، عدْ إلى (ما قبل اللغة) لتعرف أن اللغة وتمثيل اللغة ليسا منفصلين عن الأنماط الإجتماعية للإنتاج التي سادت في بلاد ما بين النهرين.. الرافدان العظيمان في العراق القديم هما ملحمة خلق، هما ملحمة نضال من أجل أن توجد الحياة، ومن أجل أن يصبح الإنسان على ما أصبح عليه، لا تاريخ إلا بدءا من هذه اللحظة السومرية العظيمة، لا حياة كان من الممكن أن توجد على النحو الذي نعرفه دون المرور بسومر، دون المرور بأوروك وأريدو وغيرهما من المدن الممالك المؤسسة للحياة على الأرض وفي التاريخ.

إذا تصورت معي الألف الرابعة قبل الميلاد، مدينة أوروك أخذت تكتظّ بساكنيها الأصلاء والوافدين والمستعبدين، هذه الطبقات الاجتماعية الثلاث، كان يقابلها طبقات أخرى تمثّلت في الكهنة، والملوك غالباً ما كانوا يخرجون من هذه الطبقة، والتجار والحرفيين والمزارعين، ثم الأرقاء ثم المقايضين من تجار في السلع والنساء والعبيد، هذه هي الصورة البدائية لمجتمع أوروك وغيرها من القرى والمدن الصغيرة التي كانت تجايلها، كان الدين المعتقد قد اكتمل بالنسبة للسكان الذي لجأوا إلى إله أو مجموع آلهة ترعى المدينة، كما اختار كل شخص إلهه أو حارسه الشخصي، كما كان العرب يفعلون قبل الإسلام، وكان الجميع يتحدثون لساناً واحداً، لقد عدت إلى ملحمة (إنمركر وسيد أرتا) وترجمتها في نقحرتها السومرية، اكتشفت أن الملحمة تختلف جذرياً عن الترجمة التي قدمتها لنا جامعة أوكسفورد، هم يقولون أن لسان البشر كان متعدداً، والملحمة تقول حرفياً أن لسان البشر كان واحداً برعاية رب الأرض الإله إنكي الذي جادل السادة والأمراء والملوك، عد إلى (ما قبل اللغة) وعد إلى لقائاتي حيث وضحت هذه المسألة، النزاع بين المدن والقرى السومرية لم يكن نزاعاً قومياً أو لغوياً، كان بالأساس صراعاً على السلطة. لقد عرف العراق القديم أول اشكال سيادة الآلهة على البشر، من هنا منشأ الدين، وعرف أول أشكال سيادة البشر على البشر، ومن هنا منشأ نظرية التفويض الإلهي التي شهدت في ما بعد أشكالاً أخرى كالوراثة في الحكم، والوراثة بالوصاية، كما أن التاريخ يدلّنا على أول الانتفاضات الجماهيرية الكبرى التي حاولت أن تعيد السيادة للبشر جميعاً، أي السيادة الإنسانية والسيطرة على المقدرات.. جميع الفعاليات الإنسانية بدأت منذ تلك اللحظة السومرية في تاريخ العالم.

ما هي الصلة التي تقيمها بين سومر وكنعان والعرب؟

سومر اسم جامع يدلّ على نشأة الأقوام التاريخية التي توطّنت الشرق الأدنى واسّست ممالك ودول وحضارات أخذت أسماء مختلفة، وانفصلت لهجاتها ثم تطوّرت في تلك البيئات المختلفة لتتحول إلى لغات.

إذا عدنا إلى السومرية نجد أن اسم سومر في لهجة إيميسل الشعبيّة هو (كنانغ) والحرف الصامت الأخير كان يُحذف عادةً كلما ذكرت الأسماء خارج السياقات المتصلة في الكلام، أي أنه في واقع الأمر (كنآن) هكذا استقرّ لدينا بصيغة كنعان، وهذا التفسير يجيب على السؤال الذي ظلّ لغزاً حتى الآن وهو أصل الكنعانيين أسلاف العرب الذين يذكر كتّاب التاريخ القديم أنهم ظهروا فجأة ليتوطّنوا الساحل الشرقي للمتوسّط، فالعرب الآن بهذا التحليل هم أقــدم أمة حضارية بمعنى الكلمة على وجه الأرض، أما قرّاء الألواح فقد غيّبوا الصلة بين الرموز المسمارية التي يمكن أن تفيد حرف العين، وقاربوا بين الصواتة السومرية وبين مخارج اللفاظ كما في اللغات الهندوأوروبية، وهذا خطأ علمياً، هذه خطيئة حرّفت مسار البحث اللغوي، ونتجت عنها فجوات كثيرة في مسارات التاريخ، عملي يسعى إلى إعادة تجسير هذه الفجوات لكي نتمكّن من قراءة تاريخنا قراءة سليمة صحيحة.


ليست هناك تعليقات: