2015/01/03

فتنة اللغة في (فتنة الكلمات)





د. حسناء القنيعير

    (فتنة الكلمات) للباحث اللساني د. عبدالسلام المسدّي، مجموعة نصوص تتفاوت طولاً وقصراً، واقعية ورمزاً وتربو على الثلاثين من شيق المقالات، لك أن تعتبرها أحاديث أدبية، أو تصنفها أناشيد وجدانية، أو تعدها تراتيل صوفية، أو تقول عنها تبتلا في محراب العشق؛ فهي ملتبسة الأنساق، محملة بالأزمنة الثقافية المديدة، ضاربة الغور في أعماق التراث. وهي إلى ذلك متنوعة المشارب، فمنها الوجودي الفلسفي، ومنها الصوفي، ومنها السردي القصصي. وهي شعر وليست بالشعر، أو نثر رفيع وليست بالنثر، أو هي شعر ونثر يعيشان لحظة الحلول وتربطهما (فتنة الكلمات).


يضع الكتاب قارئه في فضاء يمور فيه الشعر بالسحر والكهانة والعشق، وترتبط صوره وأنساق خطابه بالاستسلام لسطوة اللغة، اللغة التي فتنته، فلقد بدا الكاتب نفسه مغامراً باللغة وداخل اللغة، لذلك فإنه اتخذ فتنتها رمزاً، وقام باستيحائه استيحاء مطلقاً، حيث تحضر الفتنة في النص كله حضوراً طاغياً، بدءاً بالعنوان وانتهاء بالمعجم الذي يشكل مفرداتها ودلالاتها.

يتبنى الكاتب في حديثه أنساق الخطاب المختلفة، ومستوياته المتعددة، ففي أسلوبه من القرآن الكريم وفيه من الحديث وفيه من المثل والحكمة، تحس فيه نفساً من الجاحظ وشيئاً من أبي حيان وأثراً من الحلاج والمسعدي. بل إن فيه من مأثور الشعر وأحاديث الأعراب وألوان الطيف السبعة! كل هذه الأنواع انصهرت وسلس قيادها في يد الباحث اللساني المحترف، وهل من غرابة في ذلك وهو صاحب القراءات حول المتنبي والجاحظ وابن خلدون وأبي القاسم الشابي، وهو إلى ذلك المهتم بدراسة أساليب القرآن الكريم؟

هكذا تبدو فتنة الكلمات مغامرة داخل اللغة، حيث سعى الكاتب إلى تأسيس نص فني يحتفي بها، ففي شتى مراحل العمل يتضح أن النية مبيتة تجاهها، وأن العمل في ذلك قصديّ منذ بداياته الأولى فقد ألمح الى ذلك بقوله (هل تأذنين لي أيا لغتي ان آخذ منك إجازة، وأن أبحر في محيط الهندسة الجديدة أنتقي منك الحيامن والجينات وأثبت الخلايا في أنابيب المخابر فسيأتي عليك يوم النسيان يوم افتقاد الذاكرة) وهكذا همّ الكاتب أن يكون هذا البعث الجديد للغة على يديه في نقائها وصفائها، حيث تخوف عليها مغبة الحداثة وإرهاصات الجديد، والجري وراء الأساليب الرائجة، والعزوف عن المصادر الأولى التي شكلت عبقريتها.

وبدأت الحكاية مع الكلمات، فتنتها وغوايتها، فركن إليها وآمن بها وأعلن أنها وسيلته ومبتغاه، وأنها حبه ورضاه، ثم تعمد الإفصاح عنها والبوح باسمها وصفاتها (أيتها اللغة، أيا فصحاي، أيتها الفصحى، أيتها العربية، يالغتي..) فلقد خاطب الكاتب اللغة، ناداها وناجاها، أعلنها وأسرها، تبتل في محرابها، اندغم بين حروفها مدارياً بذلك الأسباب والدوافع التي قادته إلى الكتابة وأذكت روح الخلق فيه، أليس هو نفسه من يقول (سأقول المجاز وسأسكت عن الحقيقة ففي الحقيقة أسرار ولن أفتح ديوان الأسرار). نعم سرّ ما دعا الكاتب إلى التفنن اللغوي واختيار الكلمات والبحث عن المتميز الجديد، فهل يكون ذلك بسبب من العنوان المغري (فتنة الكلمات)؟.

هذا وإن كان المعنى الكلي للنص هو ما أشرنا إليه، فإن هندسته المعمارية لا تقل أهمية عن معناه، فلقد أحكم بناءه إحكاما يشي بقدرة فذة على تطويع اللغة لمراده، فها هي تسلم له قيادها فتستكين وتلين بين يديه؛ ليعيد تشكيلها تشكيلا يوافق ما يبتغيه منها، وما يريد لها أن تكون. وأكثر ما يُستشف في مناخات هذا النص ذلك البعد الوجودي في الرؤية إلى الحياة والنفس والأشياء، وهو بعد يبدأ من الفاتحة (في البدء كان الصمت، وقبل الصمت الخلاء، فلم الكلام، وكم من لفظة قتلت).

ثمة لمعان وتوهج في لغة (فتنة الكلمات) ونسيجها التعبيري، لمعان يتولد لا من قوة المعنى وتماسك بنيته المفتوحة على الحكمة وكثافة السؤال فحسب، بل من نزوع الكاتب إلى الجمع بين الاختصار وجمال التعبير، لغة موجزة تقول شيئاً وتفتح نوافذ التأويل على أشياء، نصّ فيه اقتصاد وإيحاء وقدرة بالغة على إصابة الهدف فلا فيض لغوي ولا إطناب، بل تكثيف يجعلها لغة مضاءة بالوجد، أو كما عبر الكاتب بقوله (أيتها اللغة أيا فصحاي، يا شاعرتي، عندما التقينا ودقت أجراس السماء بأنك قدري، كان اللحاف يغطي أشعارك، والبرقع يستر وجناتك، أحببتك كما أنت، ثم جئتني وسألتني خلع النقاب وخلعته، فأحببت عري الكلمات وانكشاف الحروف وفصاحة الحركات) هذه اللغة المكثفة والموحية تستغلق أحيانا باستغلاق المعنى الذي تريد مقاربته، فنراها تومئ ولا تفصح، تشير ولا تحدث كقوله (وسألت الأبراجُ حواء فقالت إذا الساكن مسكون فصحو واستسقاء، وإذا الساكن ساكن والمسكون مسكون فموجٌ يمور، فادلهمت السماء حتى الرميم، وأطبقت الأفلاك واحتمى حراسها)!.

يتكون النص من سبع وثلاثين مقالة تتراوح طولا وقصرا، وتتنوع هذه المقالات وتتعدد في صيغها وفي مستوياتها المختلفة، فهناك الأراجيز والأناشيد والحكايات، وهناك الدعاء والابتهال، يبتعد في ذلك كله عن الوصف الخارجي، وملامسة السطوح الظاهرية لينحو باتجاه الرمز والإشارة والتأويل المتعدد، فيضع للمقالات عناوين بأبعاد دلالية ذات صلة كبيرة بالعنوان (فتنة الكلمات) فهناك رسالة وإشارة وبيان وخطاب وعلامة ونص وسمة ومداد وحرف وإشمام وإدغام ونبرة وإمالة..

ولقد أسهمت اللغة المحكمة والتناظر والتكرار ورهافة الصياغات إسهاماً كبيراً في خلق بنية إيقاعية شديدة التوتر والجرس النغمي، فجاءت في شكل غنائية عذبة كسرت رتابة السرد (القلب تغريد ومرجل ٭ يشدو وعن شوقه لا يرحل) بل إننا لو قمنا بتقطيع بعضها لوجدنا تطابقا بينها كوحدات كلامية وبين الوحدات العروضية، وذلك كقوله من بحر الرمل (أنّ ذا الروح ملاك ٭ أن ذا طيفٌ حبيب) (عائدٌ يوما يغني ٭ سائحا بين الدروب) وكقوله من البسيط (الله أكبر كم في اللفظ من عجب). تتوالد هذه الغنائية عبر مؤاخاته بين النثر والشعر، وصهرهما معاً في بوتقة اللغة العاشقة أو المؤنثة كما يصرح هو نفسه (قالوا دأب أهل الأرض على عصيان خالقهم، فقد وضع لهم الأنثى ولم يجعل لهم لفظاً، ووضع لهم اللغة وجعلها أنثى).

ويعول الكاتب كثيراً على الألفاظ الغريبة والاشتقاقات المستحدثة، حيث يشتق الألفاظ من أصول معجمية متواترة، لكنه يأتي بها في صيغ مزيدة تمنحها قوة وفرادة وقديماً قال أهل اللغة: كل زيادة في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى، ومن ذلك ما جاء به على صيغة (تفاعَل) كقوله: تهاطلت الأكفّ، يتشامخ، تتجاعد، تمايست، تقاطر، يتجارح، يتفاوح، تهاتفين، يفاتحون.. وكل لفظ من هذه الألفاظ يقابله لفظ آخر مجرداً أو مزيداً بحرف أو بالتضعيف وهو أكثر استعمالاً، لكنه لفرط هيامه باللغة وشدة تمكنه منها فإنه لا يأتي منها السهل المألوف بل يصر على ركوب المركب الصعب، وها هو يشتق من الألفة فعلاً على وزن (تفاعَل) (وقالوا ستغدو القهوة حلوة بلا سكر حين تتعود بها تأنس وتؤالف ترك السكر)، ولاشك أن إتيانه بالصيغ المزيدة وإيثارها على الصيغ المجردة لم يأتِ من فراغ وليس لمجرد الرغبة في التفرد وفي بيان قدرته على تفجير اللغة إلى أقصى ما يمكنه منها، ولكن لأنه يرى في الصيغة المجردة قصوراً وعجزاً عن تأدية المعنى الذي يريده، وإلا كيف نفسر قوله (يحترق العودُ ويتفاوح) أليس لأنه يرى في (يتفاوح) قوة على أداء المعنى أكثر من الفعل المجرد (يفوح)؟ وفي السياق نفسه آثر استخدام صيغة المبالغة (مِخدار) على اسم الفاعل (مُخدّر) في قوله (والعطر مخدار)، أما الجموع فإنه يأتي بها على بنائين من أبنية منتهى الجموع (فعاليل ومفاعل) كقوله فراديس وتسابيح وبرازيخ، ومخاصر ومغارز ومراطب ومفاتح، كما يأتي بها على بنائين من أبنية جموع القلة (أفعال وفواعل) كقوله أمزاج وأحباق وأجراح، وفوائح ولذائذ.. ومن هذه الجموع ما هو قياسي ومنها ما هو على غير قياس وفيه عدول واضح عن صيغ جمعها المألوفة، ومما خالف فيه القياس (أبحار)؛ وذلك لأن ما جاء على فعْل بفتح الفاء وسكون العين مثل بحر فإنه يجمع على أبْحُر.. لكنّ ندرة بعض هذه الاشتقاقات وصيغ الجموع لا تقلل من شعرية النص التي توخاها الكاتب، بل إنه عندما يكرر بعضها لا يعطيها الموقعية التركيبية والدلالية نفسها بل يعمد إلى حمل اللفظ نحو فضاءات تركيبية ودلالية جديدة، مما يجنبه مغبة الوقوع في التكرار، ومن ذلك قوله (تهاطلت الأكف) و(رشها رذاذاً ممطراً متهاطلاً) وقوله (فتمايست أعمدة اليقين) و(تنساب مياسا).

وإذا ما رحنا نبحث عن الحقول الدلالية التي سيطرت على النصوص فإننا نجد منها على سبيل المثال لا الحصر: حقل الماء ومنه (البحر والموج والجداول والنهر والغيوم والسحب والمزن والغيث..) وحقل الأرض ومنه (الرمل والتربة والصحراء والمفازة والربى والهضاب والجبال..) وحقل الصوت ومنه (الصمت والهمس والأنين والنداء والضجيج والصراخ والصدى) وحقل الحب ومنه (العشق والهيام والوجد والجوى والمحبوب والآسر..) وحقل الموسيقى ومنه (اللحن والغناء والأنغام والأوتار و العزف والنغم والإيقاع..) وحقل الجسد ومنه (العيون واللحظ والأجفان والشفة واللسان والجيد والقلب والشغاف..) وحقل الزمن ومنه (الدهر والأيام والفجر والنهار والليل والأصيل والغسق..).

وفيما يخص الصور فإن الأنساق التي أراد أن يكتب فيها نصوصه بما تحمل من حرية وطلاقة وتنوع، تتماهى مع ما اختاره لنمطها ؛ حيث لا قيود شكلية، ولا التزام إلا بما يختاره هو وما تفرضه طبيعة النمط، وقد ساعدته هذه الحرية على الانتقال من لقطة إلى أخرى حيث النص حلقات متصلة من الصور الشعرية التي مكّنته من تكوين مشاهد تعج بالحركة والإشعاعات الداخلية، مشاهد تتكاثف فيها المفردات والصور معاً لإثبات انتمائها إلى مجموع مكوناتها وتفاصيلها وأجزائها الصغرى.

وهنا يمكننا ملاحظة حشد الصور الشعرية التي تقوم بدور أساس في تماسك لغة النصوص، وفي جعلها لغة إيحائية، تتوفر على كثير من التوثب والتداعي والانفتاح بين الوعي واللاوعي مما يجعل النصوص مفتوحة أو بمعنى أدق تصبح عارية، تأمل قوله: الأزهار تتناجى، أنشد النهر خرير الألحان، أنّ الجذع واشتكى، الحصن مرتعش، تأوه الشعر يوماً، الشموع تؤاكل الشهب لعاباً.

وهو في هذه الصور يجرد الكلمات من دلالتها المباشرة والمألوفة، ليسبغ عليها دلالات جديدة، ويكسبها خصائص ليست لها، فالرحيق عنده هو رحيق الكلمات وليس رحيق الأزهار، والتهدج من خصائص الصوت وهو تقطعه في ارتعاش، فجعله للقلب دلالة على اضطرابه وخفقانه، وفي قوله اللغة تمشي الهوينا، استعار المشي للغة وهو من لوازم الإنسان.

كما أخرج كثيراً من الألفاظ من هويتها المعروفة ليضفي عليها هوية إنسانية، فجعل الأزهار تتناجى، والنهر ينشد، والكلمات تنتفض، والنمل يتحدث، والعيد يصافح، والكلام يتظلم، والكتاب يضحك، والوثير يتأوه، والحصن يرتعش.

وبالإضافة إلى الاستعارة والتشخيص، يولع الكاتب بالتشبيه القائم على أداة التشبيه (الكاف) وقد جمع فيه بين التشبيهين المعنوي والحسي؛ مما جعل وجه الشبه أكثر مثولاً، من ذلك قوله: يتلوى كالمجمور، فكانت قطرات الجوى كدمعة الأنثي ليلة زفت إلى الحبيب، فتلمحت في العين دمعة كشهدة العسل، أجهشت بالبوح كنجم يتوارى، وللقصيد أنينه كمهاجر، جاءت كلؤلؤة الياقوت.. وغير ذلك كثير من الصور والتشبيهات التي تنضح بالشعري، وتجعل المخيلة تلعب الدور الأساسي في إقامة التوازن داخلها، وما ذاك إلا لأنه استل الألفاظ من نسيجها القديم، ثم أعاد ترتيبها في نسج جديد، فحررها من أسار الاستعمال الشائع، ونأى بها عن الاستخدام المألوف.

ليست هناك تعليقات: