2015/02/13

التسلسل التاريخي لتكوُّن اللهجات الحضرية


المنامة - حسين محمد حسين 
ما يميز اللهجات الحضرية أنها تأثرت باللغات السامية السابقة والتي سادت في المناطق التي نشأت فيها حضارات في الجزيرة العربية، ومن أهم تلك اللغات السامية اللغة الأكدية (وتكتب أحياناً الأكادية) واللغة الآرامية. ولكي يمكننا دراسة التسلسل التاريخي لتلك اللهجات الحضرية، ومنها اللهجة البحرانية، يتوجب علينا أن نعطي فكرة مختصرة لتلك اللغات السامية ومتى وأين سادت، بالتحديد سنوضح سيادة هذه اللغات في حضارة وادي الرافدين، وبما أن هذه الحضارة سيطرت سياسياً وتجارياً على الحضارات التي تكونت في شرق الجزيرة العربية فقد فرضت لغتها على هذه المناطق أو بأقل تقدير اضطرت تلك الحضارات تعلم هذه اللغة لكي تستطيع التعامل مع حضارة وادي الرافدين، وفي كلا الحالتين فإن اللغات التي سادت في حضارة وادي الرافدين أثرت في لغات شعوب حضارة شرق الجزية العربية بأقل تقدير.

اللغة الأكدية
من أوائل الأقوام الذين فرضوا سيطرتهم على بلاد وادي الرافدين هم السومريون، والذي يرجّح أنهم أقوام غير سامية، وذلك في قرابة الألف الرابع قبل الميلاد، وقد وفق السومريون إلى فكرة الكتابة على ألواح الطين وقد بدأوا بالكتابة التصويرية ثم اخترعوا الكتابة المسمارية والتي تتكون من 350 كلمة أو مقطعاً (بشور 1989، ص 20). ومنذ العام 3500 ق. م جاور السومريون شعباً سامياً هم الأكديون والذين أخذوا يتعلمون الحضارة السومرية دون لغتهم، وقد تأثرت اللغة السومرية بلغة الأكديين واقتبست منها مفردات وألفاظاً كثيرة، كما أن اللغة الأكدية تأثرت هي الأخرى باللغة السومرية، ليس في ألفاظها فحسب بل في تعبيراتها ونحوها وصرفها أيضاً، وقد كان سبب التلاقح هذا هو ذلك التعايش السلمي بين الجماعتين والذي استمر مدة تقدّر بألف عام (بشور 1989، ص 24 وخشيم 2005، ص 8 - 9). شيئاً فشيئاً تمكّن الأكاديون من التغلب على السومريين عن طريق التغلغل داخل حضارتهم والتسرب المرحلي إلى مدنهم وقراهم وكان أن ورثوا هم حضارة سومر وتكونت بذلك الدولة الأكدية أواسط الألف الثالث قبل الميلاد؛ إذ تولى الأكديون شئون الحكم والسيطرة التامة على كامل تراب الرافديين (خشيم 2005، ص 8 - 9). وتبعاً لذلك حلَّت اللغة الأكدية، التي استخدمت نظام الكتابة السومري وكذلك اعتمدت في تطورها على اللغة السومرية، محل اللغة السومرية في أواسط وادي الرافدين منذ العام 2400 ق.م.
وقد استطاعت اللغة الأكدية أن تستمر في الوجود مئات السنين باعتبارها اللغة الرسمية في سائر بقاع الرافدين؛ بل إن تأثيرها بلغ حد استعمال الشعوب التي غزت العراق بعد القضاء على أكد كالكاشيين والأموريين والميتانيين (خشيم 2005، ص 9).
اللهجات الأكدية
خضعت اللغة الأكدية كغيرها من اللغات إلى قوانين تطور اللغة فتطورت وانقسمت إلى لهجات بحسب الزمان والمكان، فمنذ قرابة العام 2000 ق.م أمكن تحديد لهجتين أكديتين أساسيتين هما الأكدية البابلية في جنوب بلاد الرافدين والأكدية الآشورية في الشمال (Holes 2006b، P.1932)، وكل لهجة من تلك اللهجات تنقسم للهجات ثانوية، ويمكن تحديد سبع لهجات ثانوية أساسية هي كالآتي: (خشيم 2005، ص 9) و(Holes 2006b، P.1932):
1- البابلية القديمة (2000 ق. م - 1600 ق. م)
2- البابلية الوسطية (1600 ق. م - 1100 ق. م)
3- البابلية الحديثة (1100 ق. م - 600 ق. م)
4- البابلية المتأخرة (600 ق. م - القرن الأول الميلادي)
5- الآشورية القديمة (2000 ق. م - 1500 ق. م)
6- الآشورية الوسطية (1500 ق. م - 1000 ق. م)
7- الآشورية الحديثة (1000 ق. م - 600 ق. م)
وهناك لهجات فرعية أخرى بحسب المناطق المكتشفة فيها الألواح مثل: لهجة «نصوص نوزي» (قرب كركوك) ولهجة «رسائل تل العمارنة» في مصر ولهجة «نصوص ماري» ولهجة «بلاد عيلام» ولهجة نصوص «بو غاز كوي» في بلاد الأناضول، وهناك أيضاً لهجة، أو لغة خاصة، عرفت بلهجة «الأساطير والملاحم» وهي اللغة الأدبية الأرقى من اللغة الدارجة، لكنها جميعاً تدخل ضمن اللغة الأكدية الواحدة تماماً كما هو حال أية لغة ومن ضمنها اللغة العربية (خشيم 2005، ص 11).
ظهور اللغة الآرامية
يمثل الآراميون، وهم من أرومة الأكديين نفسها، الموجة الثالثة من موجات الهجرات السامية، وكانوا يجوبون أنحاء وادي الجزيرة من ناحية الشمال ويتحركون الى الشرق ناحية العراق والى الغرب ناحية سورية حتى بدأوا يستقرون في العراق الأوسط من منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وهناك بدأوا يظهرون كمجموعة متناسقة أخذت لونها الخاص من الثقافة والقومية، وقد بدأ الآراميون في تكوين دويلات خاصة بهم في الشرق الأدنى ثم ما لبثوا أن فرضوا سيطرتهم على بلاد الرافدين فحلت لغتهم، ذات الصلة بالأكدية، محل الأخيرة (إبراهيم 2009 وخشيم 2005، ص 10). ومن الأسباب التي يسّرتْ انتشار اللغة الآرامية كون الآراميين اتخذوا اثنين وعشرين رمزاً صوتياً وحروفاً انسيابية هجائية كانت أسهل من الكتابة بالرموز المسمارية الأكدية التي تبلغ نحو ستمئة رمز مقطعي وصوتي، كما أنهم استعملوا ورق البردي ورقائق الجلد وسيلة للتسجيل مع أن هذه الوسائل القابلة للتلف أدت إلى اندثارها سريعاً بعكس الكتابة على الألواح الطينية التي قاومت الزمن فظلت آثار الأكديين بعشرات آلاف الألواح بينما لم يعثر من الآثار الآرامية إلا على القليل النادر (خشيم 2005، ص 11).
تاريخ اللغة الآرامية
مرت اللغة الآرامية بعدة مراحل، وقد بدأت بآرامية الدويلات؛ إذ لم تكن هناك دولة للآراميين بل عدة دويلات ظهرت نهاية الألف الأول قبل الميلاد، وقد ازدهرت الآرامية خلال العهد البابلي الأخير وأصبحت لغة بابل الحديثة الرسمية قرابة 600 ق.م، وفي العام 539 ق.م سقطت بابل على أيدي الفرس الأخمينيين وأضحت اللغة الآرامية اللغة الرسمية للإمبراطورية الجديدة، وبسقوط الدولة الأخمينية العام 331 ق. م على يد الأسكندر المقدوني انحسرت اللغة الآرامية وفقدت الوحدة التي تتمتع بها وبدأت تنشأ اللهجات، واللهجة التي سادت بعد ذلك هي اللهجة السريانية (قوزي وروكان 2006، الصفحات 15، 21، 23، 26، 42 - 45).
ظهور اللغة السريانية
من الدويلات الآرامية التي تكونت هي دولة أسروينا وعاصمتها (الرها)، وكانت هذه الدولة تتحدث لهجة منحدرة من اللغة الآرامية عرفت بالسريانية (قوزي وروكان 2006، ص 48)، وعند مجيء الديانة المسيحية انتشرت السريانية في بعض المدارس المسيحية وخصوصاً مدرستي الرها ونصّيبين والمناطق المجاورة لها في بيث نهرين (راجع سلسلة مقالاتنا عن تاريخ الديانة المسيحية في البحرين)، وقد اكتسبت هذه اللغة نفوذاً سما بها إلى أن يُنقل إليها الكتاب المقدس، وأن يتخذها المسيحيون لغة لهم، وتصبح الوسيلة المعبرة عن الثقافة المسيحية (الجمل 2005). وقد انتشرت «السريانية» على حساب الفروع الآرامية الأخرى بعد إن تحولت إلى لغة الكنيسة المسيحية المشرقية وانتشرت معها ووصلت مع المبشرين السريان إلى الهند والصين وغيرها من الأماكن في آسيا الوسطى. وقد دوّن بالسريانية مجمل الأدب السرياني الطقوس الكنسية كافة التي مازالت حية إلى اليوم.
وعلى رغم ندرة آثار اللغة الآرامية القديمة إلا أنها استمرت في الوجود والانتشار حتى غطت على بقية اللغات وأصبحت هي اللغة الرسمية السائدة في منطقة الشرق الأدنى بأكمله، ثم ورثتها ابنتها (السريانية) بعد اعتناق الآراميين المسيحية (خشيم 2005، ص 10).
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3495 - الإثنين 02 أبريل 2012م الموافق 11 جمادى الأولى 1433هـ

ليست هناك تعليقات: