2015/03/16

لغة هذيل


لغَة هَذيْل ـــ عبد الفتاح المصري

خطة الدِّرَاسَة

أ-العربية ولغات القبائل:

مقدمة – معنى اللغة واللهجة – وجوه اختلاف لغات القبائل وتصنيفها.

-فائدة معرفة لغات القبائل – مصادر هذه اللغات وصعوبات البحث.

ب-لغة هذيل:

-مقاييس اللغويين في تدوين العربية ولغات القبائل.

-هذيل من القبائل المعتمدة في التدوين لفصاحة لغتها.

-أدلة على هذه الفصاحة.

جـ-خصائص في لغة هذيل:

-خصائص صوتية.

-خصائص صرفية.

-خصائص نحوية.

-خصائص دلالية.

د-الخلاصة والخاتمة.

العربية ولغات القبائل

إن وجود العربية الفصحى المثالية التي كان العرب، وما يزالون، يجنحون إليها حين يريدون الأداء اللغوي الرفيع، لم يكن ليمنع وجود لغات، أو لهجات أخر خاصة لأهل هذا القطر أو ذاك، وهذه القبيلة أو تلك، يستعملونها فيتفاهمون بها أكثر من غيرهم، وهذا أمر بات معروفاً لمن يطلع على تاريخ اللغة العربية منذ العصر الجاهليّ إلى اليوم، وقد بدا على نحو واضح حين شرع اللغويون الأقدمون يدونون اللغة، ويقعِّدون لها القواعد، وهو ملاحظ في لغتنا المعاصرة، إذ أن العربي منا يتكلم بلهجته الدارجة في قطره أو مدينته، بل في حيه، ليصرف شؤون حياته المعتادة، فإذا ما أراد أن يكتب أو أن يؤلف أو أن يتكلم إلى عربيّ آخر لا يفهم لهجته، أو أن يصلي، عمد إلى ذلك النمط المثالي في الأداء، وهو الذي اعتدنا أن نسميه العربية الفصيحة أو الفصحى(1)، هذا كله مع فارق واحد بين الماضي والحاضر، هو أن العربي اليوم يأخذ اللغة بالتعلم والدربة، بينما كانت للعربي القديم سليقة وفطرة طبيعية(2).

وقد سمى العلماء الأقدمون هذا الكلام الخاص لقطر أو قبيلة معينة لغة – فكان من تعريفات اللغة عندهم (الكلام المصطلح عليه بين كل قبيلة)(3) ونسميه اليوم لهجة، وهي في الاصطلاح العلمي الحديث (مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك فيها جميع أفراد هذه البيئة)(4). فاللغة تشمل عادة عدة لهجات، والعلاقة بين اللغة واللهجة علاقة العام بالخاص، ولكل من اللهجات ما يميزها، وإن اشتركت واللغة الفصحى المثالية بمجموعة من الصفات اللغوية والعادات الكلامية.

وقد تنبه علماؤنا الأقدمون على اختلاف لغات القبائل، أو لهجاتها، وحفظوا لنا فيما ألفوه وجوهاً لهذا الاختلاف متعددة(5)؛ منها الاختلاف في الإمالة والتفخيم نحو قضى ورمى، فبعضهم يميل، وبعضهم يفخم، أو في الحركات نحو نَستعين ونِستعين، أو في الحركة والسكون نحو مَعكم ومعُكم، والاختلاف في الإبدال نحو أولئكَ وأولالك، أو في صورة الجمع نحو أسرى وأسارى، والاختلاف في الإعراب نحو ما زيد قائماً وما زيد قائم، والاختلاف في التضاد نحو ثب وهي اقعد في لغة حمير، واقفز في لغة غيرهم.

وإذا نظرنا إلى وجوه الاختلاف هذه بمنظار علم اللغة الحديث أي اللسانيات استطعنا أن نردها إلى أربعة جوانب تعالج منها اللغة اليوم عادة هي:

1-الجانب الصوتي (أصوات الكلمة) Phonology phonetics.

2-الجانب الصرفي (بنية الكلمة) Morphology.

3-الجانب النحوي (بناء الجملة) Syntax.

4-الجانب الدلالي (معنى الكلمة) Semantics.

أما إذا قسنا لهجة ما إلى اللغة العربية الفصيحة، أمكننا أن نرى فيها ضابطاً عاماً هو أن (اللهجة الواحدة يجب أن تخضع لقاعدة مطردة في الكثرة الغالبة من صيغها)(6).

على أن معرفة لغات القبائل معين كبير على فهم العربية ولغة القرآن الكريم خاصة، فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ يقصد كلمة التخوّف في قوله تعالى: )أو يأخذهم على تخوف((7) –فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخوّف التنقُّص، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟، فقال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير:

تخوَّف الرحلُ منها تامكاً قرِدا

كما تخوَّف عود النَّبَعة السَّفَنُ


فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم(7). وبهذا وضع عمر أساساً لدرس العربية هو الاتجاه إلى ألسنة القبائل في الشعر الجاهلي وكلام العرب، وروي قريب من هذا عن ابن عباس الذي كان ذا مذهب معروف في تفسير القرآن الكريم بالشعر، وهو القائل: (إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب)(8)، ومن الأمثلة على مذهبه أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: )لا ترجون لله وقاراً((9)، فقال: لا تخشون لله عظمة، واستشهد بقول أبي ذؤيب الهذلي:

إذا لسعته النحل، لم يرج لسعها

وحالفها في بيت نوب عوامل(10)


وقد أخذ العلماء من بعد، يلتمسون في الشعر الجاهلي تفسيراً لبعض الظواهر التالية: غريب القرآن ومجازه وإعجازه وتراكيبه وتفسير معانيه(11).

ومعرفة لغات القبائل تكون عادة بالعودة إلى مصادرها، ومعظم ما في أيدينا منها فيه إشارات إلى اللغات السبع المشهورة بالفصاحة وهي لغات قريش وهذيل وهوازن واليمن وطيئ وثقيف وتميم(12). وقد جمعها علماء اللغة في القرنين الأول والثاني الهجريين، وإذا ما أراد أحدنا البحث في إحدى هذه اللغات كان عليه أن يعود إلى المعجمات وكتب النحو واللغة والقراءات القرآنية، إذ بُثت فيها ظواهر لهجية مختلفة.

والذي يبدو لي أن هناك صعوبات يمكن أن تعترض في سبيل من يريد أن تكون له معرفة دقيقة بظواهر اللهجات العربية القديمة بالاستقصاء والدقة اللذين يتطلبهما عادة البحث العلمي الرصين، وهي صعوبات ناتجة عن الأمور التالية:

1-إن المصادر التي تحدثت عن لغات القبائل خاصة لم تصل إلينا كاملة، مع أنها أساسية في موضوع البحث، وإذا كنا عرفنا مثلاً كتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني – وهو كتاب هام عني بأشعار القبائل ولغاتها عناية كبيرة – فإننا نفتقد أول كتاب ألف في لغات القبائل، وهو ليونس بن حبيب، ونفتقد كتاباً لعزيز بن الفضل الهذلي في لغة هذيل وكتباً للفراء وأبي عبيدة والأصمعي وغيرهم(13).

2-إذا ما عدنا إلى القرآن الكريم الذي نعرف أنه نزل بلغات القبائل العربية، فلن يسعفنا بإشارات وافية عن الظواهر اللهجية، أو يمدنا بالأمثلة الكافية عليها، ذلك أنه تجنب السمات اللغوية المفرّقة في المحلية كعنعنة تميم وكشكشة قيس، والتي كانت عند العرب أيام نزوله، فالمثل اللغوي المنشود في لغته بعيد عن المحلية (لذا، فليس من الممكن تصوّر أن لغة القرآن الكريم تعكس لهجة الحجاز أو أية لهجة أخرى، بل الأقرب إلى واقع الأمر أن يكون بتلك اللغة الفصيحة المحترمة من الجميع)(14).

3-من الصعب على غير الخبير بلغات القبائل العربية القديمة أن يعرف أن هذه اللغة لهذيل وتلك لتميم والثالثة لطيئ، ما لم ينص على هذا صراحة في المصدر الذي يعود إليه، فإذا كنت أبحث مثلاً في خصائص لغة هذيل، ومررت ببيت في لسان العرب لأبي ذؤيب فلن أعرف، وأنا غير الخبير، ما نطق به أبو ذؤيب في هذا البيت على لغة قبيلته، وما نطق به على لغة العرب أجمعين، ما لم ينص صاحب اللسان على هذا، إذ من الطبيعي أن هناك قدراً لا يحصى من المفردات والتراكيب مشتركاً بين القبائل العربية كلها، وقد لا يكون في هذا البيت شيء من لغة هذيل، وإن كان صاحبه هذلياً.

4-إن البحث في لغة قبيلة ما لن يتسم بالاستقصاء الكامل، ذلك أن ما بين أيدينا من مصادر اللغات، لم يسجّل لنا الظواهر اللهجية القديمة كلها، فاللغويون العرب لم يجمعوا هذه الظواهر في عصر التدوين بهدف بحثها بحثاً شاملاً ينسب إلى كل قبيلة ما لها منها، وإنما قصروا اهتمامهم على تسجيل بعض الظواهر التي استوقفتهم عند بعض القبائل، إذ كان همهم الأول تقرير فصاحة القبيلة أو عدمها، بل إن هذا الهم شغلهم عن كثير من القضايا اللغوية التي يمكن أن تدرس دراسة ميدانية(15)، فالنقص في التسجيل إذن، واضح في أمرين عدد القبائل وعدد الظواهر اللهجية في كل قبيلة.

ثم إن الشواهد التي بين أيدينا على ظاهرة لهجية ما قليلة محدودة، وتكرر في أكثر المصادر، وخاصة شواهد الظواهر المغرقة في المحلية كالعنعنة والفحفحة والاستنطاء(16). وهي لا تعطينا فكرة كاملة عن الصور المتعددة للظاهرة، إذ يمكن أن تكون هناك صور أخر غير التي ذكرت في هذه المصادر، فالنقص يبدو أيضاً في استقصاء حالات الظاهرة اللهجية الواحدة.

وعلى الرغم من الصعوبات التي ذكرت، فإن ما بين أيدينا من مصادر لغات القبائل معين على البحث والدراسة، وسأسعى فيما يلي إلى أن أُلقي نظرة عامة على لغة هذيل لأعرف ببعض من خصائصها. ومن حسن الطالع أن القرون الخالية حفظت لنا مصدراً هاماً في ذلك هو ديوان الهذليين، الديوان الوحيد الذي وصل إلينا من دواوين القبائل، على ما رأى الدكتور ناصر الدين الأسد(17).

لغة هذيل

حين دوّن اللغويون اللغة ولهجاتها في القرن الثاني للهجرة، كان لهم في ذلك ثلاثة مقاييس هي الزمان والقبائل وأحوال الرواة(18). أما الزمان فقد احتجوا بأقوال عرب الجاهلية وفصحاء الإسلام حتى منتصف القرن الثاني للهجرة، واستمروا يدونون لغات أهل البادية حتى فسدت سلائقهم في القرن الرابع الهجري. وأما القبائل فقد اعتمدوا على ما كان منها في قلب جزيرة العرب لقرب لغته من العربية الفصحى، وردوا سواها فأخذوا عن قريش وتميم وأسد ثم هذيل وبعض الطائيين. وأما أحوال الرواة فأهم ما فيها الثقة، إذ لم يأخذ اللغويون عن أعرابي إلا إذا وثقوا بسلامة لغته وفصاحتها وعدم تطرق الفساد إليها، وكثيراً ما كانوا يمتحنون الرواة من الأعراب امتحاناً صعباً قبل الأخذ عنهم ليتحققوا سلامة لغتهم وخاصة إذا شكوا فيها(19).

وأكثر ما يعنينا في هذا المقام أن قبيلة هذيل كانت من القبائل المعتمدة عند جامعي اللغة لانطباق مقاييسهم الثلاثة عليها، ذلك أنها كانت عامة من القبائل التي عاشت في البادية في قلب الجزيرة العربية، فمنها قسم سكن ضرعاء وهي قرية بها قصور وحصون، وقسم سكن رهاط والحديبية، وقسم ثالث سكن في مر الظهران وهي قرية في واد ذي عيون كثيرة(20)، ومساكنها هذه ساعدتها على فصاحة لغتها وصفائها، فلم تكن من القبائل التي فسدت لغتها لمجاورة الأعاجم والاختلاط بهم، وأخذ اللغويين عنها والاحتجاج بها دليل فصاحة أهلها وإجادتهم القول يمكن أن نضيف إليه الأدلة التالية:

1-في قبيلة هذيل نشأ عدد من الفصحاء العرب أصحاب السليقة السليمة واللغة الفصيحة المتمكنة، وفي طليعتهم الرسول الكريم محمد، عليه الصلاة والسلام، الذي كان أبلغ البشر وأفصحهم، وهو من أوتي جوامع الكلم، فقد ربي في هوازن ونشأ في هذيل(21)، ولا شك في أن لغته قد تأثرت بفصاحة أهلها، من ذلك أن أحاديث رويت عنه – عليه الصلاة والسلام – فيها بعض من خصائص لغة هذيل. ومن الأعلام المشهورين الذين نشؤوا في هذه القبيلة الحسن البصري والشافعي.

2-لم ينزل القرآن الكريم بلغة قريش وحدها، كما نعلم. ذلك أنها لم تكن هي الفصيحة دون غيرها(22)، بل كان إلى جانبها فيه لغات فصاح أخر منها لغة هذيل، وبها نزلت طائفة من ألفاظه في عدد من السور، سأشير إلى بعضها في مكانه من هذه الدراسة، وفي التفسير الذي يرى أن الأحرف السبعة في الحديث المشهور [نزل القرآن على سبعة أحرف] هي لغات القبائل، يذكر العلماء أن لغة هذيل إحداها، من ذلك قول أبي حاتم السجستاني (معنى سبعة أحرف سبع لغات من لغات العرب، وذلك أن القرآن نزل بلغة قريش وهذيل وتميم وأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر)(23).

3-نصّ الأقدمون صراحة على فصاحة لغة هذيل، فأبو عمرو بن العلاء الراوية المشهور انتقى أهل السروات على أنهم أفصح العرب، ومنهم قبيلة هذيل، فقال: (أفصح الشعراء لساناً وأعذبهم أهل السروات، وهنَّ ثلاث الجبال المطلة على تهامة فيما يلي اليمن، فأولها هذيل، وهي التي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة، والسراة الوسطى..)(24)، وهذا حكم لم يصدر عن أبي عمرو إلا عن خبرة وطول ممارسة، ومن النصوص التي تذكر فصاحة هذيل أيضاً قول عبد الملك بن مروان، وهو ذو معرفة دقيقة بالشعر الجاهلي: (إذا أردتم الشعر الجيّد، فعليكم بالزرق من بني قيس بن ثعلبة، وبأصحاب النخل من يثرب، وأصحاب الشعف من هذيل)(25).

ننتهي من العرض السابق إلى القول أن لغة قبيلة هذيل من أفصح لغات القبائل العربية، ولهذا لقيت عناية من اللغويين العرب في عصر تدوين اللغة، كما لقيت بعد عناية من المؤلفين، فسجلوا لنا طائفة من خصائصها اللهجية، سأعرض أبرزها فيما يلي:

خصائص في لغة هذيل

ينطبق على الخصائص اللهجية في لغة هذيل ما ينطبق على غيرها من تصنيف إلى خصائص صوتية وصرفية ونحوية ودلالية، وهي الجوانب الأربعة التي تدرس منها اللغة اليوم، كما يرى علماء اللسانيات الحديثة، وكما أشرت من قبل، وسأذكر هنا، وفق هذا التصنيف – بعضاً من خصائص لغة هذيل استخلصتها من المصادر التي رجعت إليها، وهي ليست مصادر هذه اللغة كلها، وسأحاول – ما استطعت – الاستشهاد للخصيصة من القرآن الكريم أو الشعر القديم أو من كليهما معاً، بادئاً بأهم الجوانب اللغوية، وهو الجانب الصوتي.

*خصائص صوتية:

1-تسهيل الهمزة: من القبائل العربية من يحقق الهمزة أو ينبرها، ومنهم من يسهلها بتبديلها بحرف من جنس حركة ما قبلها نحو يواخي ويواكل ويواسي، وقد رأى اللغويون الأقدمون ضابطاً في هذا، هو أن القبائل البدوية وسط الجزيرة العربية وشرقيها عرفت بالهمز، في حين أن أهل الحضر والقبائل في شمالي الجزيرة وغربيها لا يهمزون(26). فإذا أخذنا بهذا الضابط قلنا إن هذيلاً تسهل الهمزة، ذلك أنها من القبائل البدوية.

ومما يؤكد هذا التسهيل أقوال نصّت عليه صراحة، منها:

1-قول أبي زيد الذي رواه صاحب اللسان (أهل الحجاز وهذيل وأهل مكة والمدينة لا ينبرون) وعلى هذا فالتسهيل ليس وقفاً على هذيل وحدها، بل تشترك معها فيه قبائل أُخر.

2-ما روي من أن قريشاً كلها ومن جاورها من قبائل العرب كهذيل وسعد بن بكر وكنانة يقولون سورة بغير همز، على حين كانت تنطقها قبيلة تميم سؤرة بالهمزة(27).

3-ما روي من أن الحسن البصريّ قال يوماً لبعض جلسائه توضيت، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد؟ فقال: إنها لغة هذيل، وفيهم نشأت(28).

4-قول ابن جني (ترك الهمز لغة هذيل)(29).

2-إبدال الهمزة من الواو جوازاً في موضعين: الأول إذا كانت الواو مضمومة ضماً لازماً، ولم تكن مشدودة مثل وجوه وأجوه وولد وألد ونحو ذلك، والثاني إذا كانت الواو مكسورة في أول الكلمة مثل وِشاح وأشاح ووسادة واسادة ونحو ذلك.

وقد ذكر سيبويه هذه الظاهرة دون أن يعزوها لقبيل معين من العرب(30)، كما فعلت مصادر كثيرة، ولكنها عزيت إلى هذيل في جمهرة ابن دريد والبحر المحيط وحاشية الصبان على الأشموني، وتبدو في بعض قراءات القرآن الكريم، وما كتب منه قديماً، فقد وردت في قراءة الجماعة (وإذا الرسل أقتت)(31) في موضع وقتت، وقال ابن زنجلة في الاحتجاج لهذه القراءة (من همز فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن تبدل منها همزة فتقول في وجوه أجوه)(32)، وذكر نحواً من ذلك مكي القيسي(33)، ووردت الظاهرة أيضاً في مصحفي أبي بن كعب وسعيد بن جبير بقراءة (ثم استخرجها من إعاء أخيه)(34) بدلاً من وعاء، وإبدال الواو المكسورة الواقعة أولاً همزة مطرد في لغة هذيل كما ذكر أبو حيان(35)، كما وردت في مصحف أبي بقراءة (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله أجوههم مسودة)(36) عوضاً عن وجوههم، ووردت أيضاً في الحديث النبوي الشريف: [اثبتوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إبراهيم](37) والأصل ورث.

أما عن الشواهد الشعرية، فمن الموضع الأول (إذا كانت الواو مضمومة) قول أبي صخر الهذلي:

فكان لها أُدّي ورَيقة ميَعتي

وليداً إلى أنْ رأسيَ اليومَ أشهبُ(38)


يريد وُدّي، وقول البريق الخناعي:

أبا معقل إن كنت أشِّحت حلة

أبا معقل، فانظر بنبلك من ترمي(39)


يريد وشحت، ومن الموضع الثاني (إذا كانت الواو مكسورة) قول حبيب الأعلم:

هواءٌ مثل بعلِكِ مستميت

على ما في إعائك كالخيال(40)


على أن ظاهرة قلب الواو همزة وردت في شعر بعض القبائل الأخرى، فقد قال الشنفرى الأزدي:

فأيَّمت نسواناً وأيتمتُ إلدة

وعُدت كما أبدأتُ، والليل أليلُ(41)


وذلك أن بعض بطون هذيل جاور اليمن، فظهر بعض ما له من ظواهر لهجية في شعر قبيلة الأزد اليمنية، على نحو ما ظهرت في أشعار بعض الحجازيين، لأن قبيلة هذيل تقع جغرافياً في منطقة الحجاز، فمما قاله النابغة الذبياني:

عَلَينَ بكِديَونٍ، وأُبطِنّ كَرَّةً

فهن إضاءٌ صافيات القلائل(43)


أراد وضاء أي حسان، فأبدل الهمزة من الواو المكسورة.

ويتصل هذا الإبدال عند هذيل بظاهرة صوتية أخرى في لغتها هي تسهيل الهمزة، ففي الإبدال تحقيق للهمز، كما ترى، ولم يكن من عادتها هذا التحقيق، بل إنها لجأت إليه في الحالتين المذكورتين، يؤكد هذا ما جاء في تصريف المازني(43).

أما تعليل هذا الإبدال فهو كراهية الاستثقال في النطق الذي علل به علماء العربية كثيراً من الظواهر الصوتية في لغة العرب(44)، قال سيبويه في هذا (إذا التقت الواوان أولاً أُبدلت الأولى همزة، ولا يكون فيها إلا ذلك، لأنهم لما استثقلوا التي فيها الضمة فأبدلوا، وكان ذلك مطرداً، إن شئت أبدلت، وإن شئت لم تبدل، لم يجعلوا في الواوين إلا البدل، لأنهما أثقل من الواو والضمة)(45)، والواوان المعنيتان في هذا القول واو الكلمة وواو الضمة، لأن الضمة عند الأقدمين واو صغيرة، كما أن الفتحة ألف صغيرة والكسرة ياء صغيرة، واستثقال النطق بها جميعاً في نحو وُد جعل الواو الأولى وهي واو الكلمة تقلب ألفاً، فيقال أد، هذا إذا كانت مضمومة، إلاَّ أن أُناساً كثيرين، كما يقول سيبويه (يجرون الواو إذا كانت مكسورة مجرى المضمومة، فيهمزون الواو المكسورة إذا كانت أولا كرهوا الكسرة فيها، كما استثقل في ييجل وسيد وأشباه ذلك)(46). على أن همز الواو المكسورة، على كثرته، أضعف قياسا من همز الواو المضمومة، كما ذكر ابن يعيش في شرح المفصل.

وقد رأى النحاة الأقدمون وعلماء العربية، وعلى رأسهم سيبويه، ومعهم نفر من المحدّثين، أن الظاهرة التي نتحدث عنها تدخل في باب الإعلال والإبدال(47)، ولكنها ليست كذلك، كما يرى الدكتور أحمد الجندي(48)، وإنما (حدث حذف للواو مع بقاء الحركة، ولما كانت العربية لا ترسم الحركات وحدها مستقلة عن الحرف، فقد اعتمدت الحركة على حرف هو همزة، واللجوء إلى الهمزة لتعتمد عليها الحركة سنة إنسانية عامة تعرفها جميع اللغات، فظنّ القدماء أن الواو قلبت، وأُبدلت همزة، وليس كذلك، إلا إذا اعتبرنا قول القدماء نوعاً من التعليم أو التبسيط، والأمر لا يعدو أن هذيلاً تؤثر تتابع الحركات).

ففي إبدال الحرفين أحدهما من الآخر يرى اللغويون المحدثون أنه لا بدّ من علاقة تسوغ هذا الإبدال وهي إما علاقة في مخرجي الحرفين أو في صفتيهما، وبين الواو والياء فروق منها أن الهمزة صوت من أقصى الحلق، وهو انفجاري مهموس شديد، في حين أن الواو من أقصى اللسان وهي نصف حركة وصوت مجهور، وهذه الفروق لا تسوغ الإبدال، وإن كان كثيراً من علماء العربية، إلا القرّاء وعلماء القراءات، كانوا يرون وقوع الإبدال بين الحرفين مع اختلافهما مخرجاً وصفة.

وقد رأى الدكتور الجندي نتيجة لذلك أن العلاقة بين الواو والهمزة(49) في الخصيصة التي نتكلم عليها علاقة ترادف إن اتفقت الكلمتان اللتان وردتا فيهما في المعنى، وإلاَّ فالمرجح أن كل صيغة منهما أصل مستقل على نحو ما قالت العرب الوارث في الميراث والإرث في الحسب.

3-الميل إلى الضم: تشترك هذيل والقبائل البدوية عامة بخصيصة الميل إلى الضم(50) في الأفعال والأسماء على حد سواء، قد يكون الضم واضحاً في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها وقد تميل إلى ضم أكثر من حرف واحد في الكلمة الواحدة، إذا وازنا لغتها بلغة غيرها من القبائل ويبدو هذا الميل في لغة هذيل في المظاهر والشواهد التالية:

1-قولها يُعِنّ في يَعِنّ بمعنى يعرض، قال الأعلم:

كأن ملاءتي على هِزَفٍّ

يَعِنّ مع العشية للرئالِ(51)


2-قولها نُجدُ وهي لغة في نجد، وعليها قول أبي ذؤيب في وصف مرعى حُمرُ:

في عانةٍ بجنوب السِّيّ مشرَبها

غَورٌ، ومصدرُها عن مائها نُجدُ(52)


وقول غاسل بن غزية الجُرَبيّ:

سرت من الفَرْطِ أو من نخلتين فلم

ينشب بها جانبا نعمان فالنُجدُ(53)


3-قولها ميسُرة في ميسَرة، وقد وردت هذه اللغة في قراءة الآية الكريمة )وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسُرة((54)، وبها قرأ مجاهد وابن محيص وشيبة وعطاء وحميد والحسن(55).

4-قولها حضرمُوت بضم الميم في حضرمَوْت، وعليه قول أبي صخر:

حدت مُزنَه من حضرمُوت مُرِبَّة

ضجوعٌ له منها مُدِرٌ وحالب(56)


5-المشهور في الاسم الموصول (الذي) أنه يلتزم حالة واحدة هي الياء، ولكن هذيلاً تعربه إعراب المذكر السالم فتقول الذون، قال ابن عقيل في شرح ألفية ابن مالك (بعض العرب يقول الذون في الرفع والذين في النصب وهم بنو هذيل)(57)، والشاهد البيت:

نحن الَّذون وصبَّحوا الصباحا

يوم النخيل غارةً ملحاحا


إن صحت نسبته إلى شاعر هذلي(58)، كما تقول هذيل اللاؤون في اللائي الاسم الموصول الذي كثر استعماله للمؤنث، وعليه قول الهذلي، ولعله مالك بن خالد الخناعي، يمدح زهير بن الأغرّ:

هم اللاؤون فكوا الغُلّ عني

بمَرْوِ الشاهجان، وهم جناحي(59)


6-في فعل أتى لغتان يأتي وهي المشهورة، وأتا يأتو، وهني لغة هذيل، وعلى الثانية قول خالد بن زهير:

يا قوم ما بال أبي ذؤيب؟

كنت إذا أتوته من غيب

يشمّ عطفي، ويمسّ ثوبي

كأنني أرَبتُه برَيبِ(60)


3-قلب ألف المقصور المضاف إلى ياء المتكلم ياء، ثم إدغام الياء في الياء، فالمشهور في لغة العرب أن الاسم المقصور كالمثنى المرفوع عند إضافته إلى ياء المتكلم، فكما نقول كتاباي وصديقاي، نقول عصاي وفتاي، ولكن هذيلاً تقلب ألف المقصور ياء ثم تدغمها في ياء المتكلم فتقول عَصَيَّ وفتيَّ ورحَيّ وتُقَيّ، وهذه ظاهرة شائعة في لغتها، وبها قرئ في القرآن الكريم، إذا قرأ الرسول – عليه الصلاة والسلام – وأبو الطفيل وعبد الله ابن أبي إسحاق وعاصم الحجدري وعيسى بن عمر الثقفي [فمن اتبع هُدَيَّ فلا خوف عليهم](61) بدلاً من هداي، وعليها قول بعض الصحابة [وضعوا اللُّجَّ في قفَيّ](62).

وقد علل أبو علي الفارسي لهذه الظاهرة فقال (وجه قلب هذه الألف لوقوع ياء ضمير المتكلم بعدها أنه موضع ينكسر فيه الصحيح نحو هذا غلامي ورأيت صاحبي، فلما لم يتمكنوا من كسر الألف قلبوها ياء، فقالوا هذه عَصيَّ، وهذا فَتيَّ أي عصاي وفتايَ، وشبهوا ذلك بقولك مررت بالزيدين، لما لم يتمكنوا من كسر الألف للجر قلبوها ياء، ولا يجوز على هذا أن تقلب ألف التثنية لهذه الياء، فتقول هذان غلامَيّ، لما فيه من زوال على الرفع، ولو كانت ألف عصاً ونحوها عَلماً للرفع لم يجز فيها عصيّ)(63)، ورأى الدكتور إبراهيم أنيس أن هذيلاً في هذه الظاهرة قد التزمت الدور الأول الصوت اللّين المركّب، ولم يتطور فيها(64).

أما شاهد قلب المقصور ياء في الشعر، فقد ذكروا بيت أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه الخمسة الذين هلكوا بالطاعون:

سبقوا هَوَيّ، وأعنقوا لهواهم

فَتُخرِّموا، ولكل جنبٍ مصرعُ(65)


كما ورد القلب في بيت المنخل اليشكري:

فإن لم تثأرا لي من عِكبٍّ

فلا أرويتما أبداً صَدَيَّا(66)

تقول هذيل في مضارع فاح يفيح وفي مصدره فيحاً، في موضع يفوح فوحاً، وهي لغة وردت في الحديث الشريف، إذ قال، عليه الصلاة والسلام، [إن الحمَّى من فيح جهنم](67)، وقال أبو خراش الهذلي:

وعارضها يوم كأنّ أواره

ذكا النار من فيح الفروغ طويل(68)







http://uqu.edu.sa/page/ar/114286

ليست هناك تعليقات: