2015/03/25

علم اللهجات

علم اللهجات (Dialectology) يدرس الظواهر والعوامل المختلفة المتعلقة بحدوث صور من الكلام في لغة من اللغات، وما يؤدي إليه ذلك من أنظمة لغوية فرعية، وموضوعه دراسة انقسام اللغة إلى لهجات، وأسباب ذلك والصلة مع اللغة الأم وخصائص اللهجات والعلاقات بينها، وعوامل ضعفها وقوتها واتشارها، وتحولها إلى لغة، ثم استنباط القوانين التي سارت عليها اللغة في كل ذلك. وتكمن أهميته في معرفة أوجه تطور اللغة ودراسة صورها الحية واستنباط خصائصها المشتركة ومعرفة آفاق الأدب الشعبي وما فيه من فنون مختلفة منظومة ومنثورة عامرة بالصور والأخيلة، ويضاف إلى ذلك في العربية خدمة النص القرآني وفهمه وكشف أسراره لما فيه من صلة وثيقة بينه اللهجات من خلال القراءات. 

وعلم اللهجات – على هذا النحو – يبدو نتاجًا غربياً حديثاً، أظهره " وكشف عن الحاجة إليه ذلك التقدم الواسع الذي أحرزه الغربيون في مجال الدراسة اللغوية، وعلى نهجهم حذا علماء العربية – أو حاولوا – بعد اتصالهم بهم حديثاً " ( ). 
يؤكد هذا السبق للغرب في دراسة علم اللهجات أن المستشرقين عُنوا – وما زالوا - في مطالع العصر الحديث خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بدراسة اللهجات، وأسسوا لها في بعض الجامعات الراقية فروعاً خاصة بدراستها، تعنى بشرحها وتحليل خصائصها وسماتها، وتسجيل نماذج منها تسجيلاً صوتياً يبقى على مر الزمن ( ). وقد كان من ثمار هذا الاهتمام عندهم الدراسة المشهورة للمستشرق الألماني يوهان فك: "العربية دراسات في اللغة واللهجات والأساليب". وأما العرب فكان من أوائل من عني بدرس اللهجات لديهم في صدارة العصر الحديث حفني ناصف بك في رسالته الصغيرة المهمة "مميزات لغات العرب" التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين فيينا سنة 1304 هجرية، فكانت – كما قال الدكتور إبراهيم أنيس – الصيحة الأولى للدعوة للعناية باللهجات لكنها لم تلق القبول والإجابة.
والعلامة البارزة لدراسة اللهجات العربية القديمة بعد دعوة حفني ناصف، دراسة الدكتور إبراهيم أنيس ( ) "في اللهجات العربية" وقد صرح أنه اعتمد على رسالته كثيراً، بعد الاستفادة من المناهج الحديثة والتأثر بها( ).
وقد توالت التوجهات والدراسات بعد ذلك صوب اللهجات، وكان من هذا تخصيص لجنة في مجمع اللغة العربية لدراستها، وكذلك أطروحة الدكتوراه للدكتور أحمد علم الدين الجندي "اللهجات العربية كما تصورها كتب النحو واللغة" بجامعة القاهرة سنة 1965، وقد طبعت في كتاب من مجلدين بعنوان: "اللهجات العربية في التراث". 
وقد كان للدكتور عبد العزيز مطر سهمة كبيرة في هذا المجال، خاصة ما يتعلق بلهجة الخليج، مثل: "خصائص اللهجة الكويتية"، "وظواهر نادرة في لهجات الخليج" و"الأصالة العربية في لهجات الخليج"، وغير ذلك، مثل : "لهجة البدو في إقليم ساحل مريوط"، و"البحوث المعاصرة في اللهجات العربية، رصد وتحليل وتقويم"، وهذا الكتاب في أصله بحث قدم للندوة العالمية في "اللسانيات واللغة العربية" في بوخارست سنة 1994م. 
وهذا العمل للدكتور عبد العزيز مطر مهم من ناحية الرصد المنظم لدراسة اللهجات العربية الحية في الفترة من 1934إلى وقت تأليفه، وقد بدأ بهذا العام لأنه " في 30 يناير 1934 بدأ مجمع اللغة العربية (الملكي) في القاهرة أولى جلساته، متبعاً نص المرسوم الملكي بإنشائه في على أن من أغراضه أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلدان العربية "، وهذه أول مرة تكلف فيها هيئة لغوية (رسمية) أن تنظم دراسة علمية للهجات، وهي هيئة منشأة أساساً لخدة اللغة الفصحى ( )، وبالفعل أنشئت لجنة "اللهجات" في فبراير التالي لتكون إحدى لجان المجمع الرسمية. وبعد ذلك في 27 فبراير 1934 في دورة الانعقاد الأول للمجمع ألقى المستشرق الإيطالي " كارلو نيللو" عضو المجمع بحثاً عن الدراسات العلمية للهجات أرخ فيه لعلم اللهجات في الغرب تحت اسم (Dialectology) في إطار علم اللسانيات، وحدد فيه منهج دراسة اللهجات ودعا فيه إلى دراسة اللهجات العربية الحديثة.
وفي العام نفسه صدر باللغة الفرنسية في بيروت أول كتاب عن لهجة تدمر للمستشرق الفرنسي الأشهر جان كانتينو، ثم في سنة 1946 أصدر كتابا عن لهجة حوران في سوريا والأردن، وقد ألحق به أطلساً من ستين خريطة. 
إذن هذه العلامات السابقة التي كلها في سنة 1934 وما بعدها مثلت الانطلاقة الحقيقية للدراسة الحديثة للهجات. 
وأهم معالم اتجاهات البحوث المنهجية للهجات المعاصرة عند الدكتور مطر هي:
- لهجات في رسائل جامعية.
- لهجات في بحوث مجمعية.
- لهجات في مؤتمرات علمية.
- لهجات في مراكز التراث الشعبي لدول الخليج.
- اتجاهات عامة في دراسة اللهجات المعاصرة:
- دراسات لتحقيق غايات عملية.
- معجمات ثنائية للهجات والفصحى ( ). 
ومن أبرز ما جاء في دراسات الرسائل الجامعية للهجات اختيار الدكتور مطر لعشر منها متنوعة الاتجاهات والمستويات، وأن الأربع الأولى منها كانت رسائل دكتوراه لأربعة كبار من جيل الرواد من المبتعثين إلى الغرب في جامعة لندن بإشراف بروفيسور واحد هو فيرث، وهؤلاء هم الدكتور إبراهيم أنيس (لهجة القاهرة 1941) والدكتور تمام حسان (لهجة عدن العربية في جنوب اليمن 1952، وهي في الأصوات) والدكتور كمال بشر (دراسة نحوية للهجة منطقة عالي في لبنان 1956)، والدكتور السعيد بدوي (دراسة تنغيمية للهجة الرياض 1965).
والرسائل الست الأخرى بعد ذلك كانت عن لهجات البدو في الكويت للدكتورة فاطمة إبراهيم الخليفة، ولهجات شرقي الجزيرة العربية للمستشرق جونستون (ترجمها إلى العربية الدكتور أحمد الضبيب سنة 1975)، ودراسة عن اللهجة القطرية ومتغيراتها اللغوية والاجتماعية، للدكتور درويش غلوم، ودراسة صوتية تجريبية لجوانب من عربية قطر، للدكتورة فوزية عبد العزيز بوكشيشة، ودراسة لغوية اجتماعية لكلام النساء في قطر، للدكتورة منيرة المهندي، والرسالة العاشرة كانت دراسة الماجستير للدكتور مطر عن لهجة البدو في إقليم مريوط بساحل مصر الشمالي سنة 1961 ( ). 
وعلم اللهجات جزء من اللسانيات الجغرافية التي هي فرع من أصل أكبر وهو لسانيات البيئة، وهذه الأخيرة تدرس اللسانيات التاريخية المقارنة بما فيها من حديث عن تطور ورواسب لغوية وتدرس أيضاً اللسانيات الجغرافية ولسانيات التواصل ( ). ونستطيع أن نقول إن درس اللهجات وثيق الصلة باللسانيات الوصفية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية. فهو وثيق الصلة بعلم اللغة الجغرافي لأنه فرع منه، هذا هو الصحيح، وليس من الصحيح تسمية اللسانيات الجغرافية بعلم اللهجات، وعلم اللسانيات يدرس اللغة باعتبار وجودها الجغرافي، ولأنه لا يمكن فصل وجود اللغة جغرافياً عن وجودها اجتماعياً، قد يحدث تداخل بين الأمرين، والفصل يتمثل في أننا ندرس اللغة اجتماعياً باعتبارها ظاهرة تواصلية، والتواصل من أهم مقومات المجتمع، أما اللسانيات الجغرافية فهي تتناول اللغة باعتبارها جزءًا من الوجود الجغرافي للمجتمع ( )، ومن جهات التداخل هنا بين الفرعين (الاجتماعي والجغرافي أو اللهجي) النظر إلى موضوع التنوع اللغوي في ضوء الازدواجية، والصواب أن يصرف مصطلح "الازدواجية" إلى تفاوت مستويات الاستعمال في اللغة الواحدة. 
والعلاقة بين درس اللهجات واللسانيات الوصفية والتاريخية واضحة جداً، لأن أي دراسة وصفية يفترض أن تنصب على لغة أو لهجة محددة في فترة زمنية محددة ومكان محدد، وعندما تؤخذ نتائج دراسات وصفية متعاقبة للهجة واحدة أو لغة واحدة تكون هذه دراسة تاريخية، ومن المعروف أن الدراسات الوصفية مقدمات للدراسة التاريخية. 
ويرتبط بدراسة اللهجات النظر إلى حقائق التنوع اللغوي، ومن ذلك مفهوم "الازدواجية"، وهو أمر مسلم به، ليس من الضروري أن يؤدي إلى مشكلات ثقافية واجتماعية وتربوية في مقابل "الثنائية" التي تعني معرفة الشخص بلغتين مختلفتين، وقد تؤثر في الفرد عقلياً وثقافيا واجتماعياً، كما حدث في ظاهرة الشعوبية. أيضاً من ظواهر التنوع اللغوي "اللغة الهجين" عند الاتصال بالغزو أو الفتح والتجارة، وهذا يؤدي إلى "اللغة المولدة". وهناك اللغة السائدة ( ).


ليست هناك تعليقات: