2015/04/25

اشتغالات المعنى بين الفصحى والعاميّة

٢٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٧بقلم محمد السموري


في اللغة: شغل والجمع أشغال وشغول قال ابن قتادة:
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغول
وقد شغله:يشغله، و أشغله،و اشتغل به، ورجل مشتغل، وشغل: شاغل على المبالغة مثل ليل لائل قال سيبويه: هو بمنزلة قولهم هم ناصب وعيشة راضية، و اشتغل فلان بأمره فهو مشتغل وجمع الشغلة: شغل وهو البيدر (1)أما اشتغال فتجمع على اشتغالات .
ومن اشتغالات مفردة ( معنى ) التأويل : الذي يعنى بباطن اللفظ ، والتفسير الذي يطلق على بيان وضع اللفظ حقيقة ومجازا وتعني مفردة فسّر: الكشف ، والتأويل أحد قسمي التفسير ذلك أنه رجوع عن ظاهر
اللفظ وآل مشتقة عن رجع إذا ً كل تأويل هو تفسير وليس كل تفسير تأويل، ولهذا نقول تفسير القرآن أما تأويل المعنى فله ثلاثة أقسام: القسم الأول: فهو الذي يفهم منه شيء واحد، وأكثر ما يعنى بالأشعار القسم الثاني: فيفهم منه الشيء وغيره وهو قليل الوقوع ومن أظرف التأويلات المعنوية كونه يفيد بدلالة المعنى وضده بنفس الوقت، ومثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لم تستح فافعل ما شئت.
القسم الثالث : فيعطي عادة معنيين أحدهما حقيقي والآخر مجازي كما يعرف مفهوم الترجيح الذي يقع بين معنيين يدل عليهما لفظ واحد إما أن يكون حقيقة أو مجازا أو كلاهما (2)وفي العربيّة ألفاظ تتضمن من المعنى ما لا تتضمنه أخرى مما يجوز أن يستعمل في مكانها ومنها المجاز والحقيقة ،ومثالها الفاظ القرآن الكريم ، الكلام الجامع حيث لا يمكن أن يحل محل المفردة القرآنية تعبير آخر يؤدي نفس الغرض ومنه كلام النبوة فالرسول الكريم قد بلغ مجامع الكلم .
من اشتغالات المعنى في جدل الفصحى والعامية(3)
مما لا شك فيه أن اللغة العربيّة الفصحى أمست اليوم حبيسة دفّات الكتب والمطبوعات وباتت لا ينطق بها إلا في وسائل الإعلام ومنابر الخطابة وقاعات الدرس بمعنى أنها أصبحت لغة الرسميّات فحوّلتها هذه الظاهرة إلى لغة تستخدم على حرج في الحياة العادية اليومية، فغالبا ما ندهش لمتحدث بالفصحى في سهرة أو مقهى، وأعظم من هذا أننا نلمزه بخبث أو نعيب عليه ذلك، وكثيرا ما نتغاضى عن أغلاط المتحدثين – حتى الرسمييّن –ونسوّغ لهم لأننا بذلك نسوّغ لأنفسنا هذه الأغلاط أو نخضع لها – على الأقل – بحكم العادة والعرف ا لسائد، ولا نكاد نتساءل لمرة ما سبب استهجاننا للغة الفصحى ؟ وغربتها فينا أو غربتنا عنها، وما العمل ؟ أعتقد أنه سؤال مشروع ويفرض نفسه بحكم أننا نعيش حالة ازدواجية لغوية تهدد عروبتنا قبل كل شيء ومن أرضيّة أننا لا يمكن أن نقيم علاقة بين الأصل العرقي لشعب ما وبين اللغة التي ينطق بها،برهاننا على ذلك اندثار اللغة الحورية في سوريا بعد زوال الدولة الميتانية، فنزعم أنّ التهديد لغويا قبل أن يكون انتمائيا، فنقرر أن اللغة العربيّة تنتسب إلى مجموعة لغوية تكونت في الألف الرابع قبل الميلاد، فأطلق عليها خطأ أسم اللغات الساميّة ، وأعتبر هذه التسمية تهديدا لعروبتنا في لغتها وهي تسمية سياسية نادى بها الباحث النمساوي ( شلوتسر ) عام/ 1781/ معتمدا على سفر التكوين في تكوين التسمية، الذي قسم الشعوب والأقوام لاعتبارات سياسية تبعا لموقفها من أهل التوراة وهي يسمية مرفوضة علميا كون نظرية وحدة السلالة خاطئة ومرفوضة في جميع الدراسات الإناسية المعاصرة مما حدى بالدكتور محمد محفل – من جامعة دمشق-دعوته لإطلاق تسمية العربيّة بدلا عنها احتكاما للعلم وحسما للاستعمال الأسطوري، سقنا هذا التوضيح للوصول إلى حقيقة تهديد لغتنا في اسمها أولا ونشأتها وعراقتها وانتسابها ثانيا، قبل أن ندخل في الجدل الداخلي للغة العربيّة الفصحى مع العاميّة إن جاز تسمية العاميّة ( لغة ) أو جدلها مع اشتقاقاتها المشوهة عنها، العاميّة، المحلية، الشعبية،المحكية، اللهجات، ... هذه التي أسماها اللغويون باللغة الهابطة إلى الدرجة الثالثة كونها غريبة التراكيب والمفردات وزعموا أنها لا تنتمي إلى لغتنا العربيّة ولعلهم يقصدون بالدرجة الثانية إذا ً لغة الجرائد التي ذكرها أمين واصف بك بقوله : لغة اليوم لغة وسط بين العربيّة الوحشية( الأولى ) وبين العاميّة( الثالثة ) أعني أن العرب نزلوا بالفصحى قليلا ورفعوا العاميّة كثيرا فكانت لغة الجرائد، فهي لغة اليوم ولغة المستقبل .
أما عن تسمية العاميّة لغة فقد ورد لدى المازني أن اللغة العاميّة تحتاج إلى ضبط و إصلاح وتوسيع وإغناء الألفاظ الأعجمية . ويرى عبد الواحد وافي : أنها لغة فقيرة في مفرداتها ولا يشمل متنها على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي، وهي مضطربة في قواعدها وأساليبها ومعاني ألفاظها وتحديد وظائف الكلمات في جملتها . وقد عاب الدكتور جميل علوش على العاميّة قبولها الدخيل المولّد واقتراف اللحن وضعف التأليف ومخالفة القياس والاختلال بنطق الكلمات اختلاساً أو حذفاً والتصرف بحركات بناء الكلمة وتسكين أواخر الألفاظ وإلغاء الأعراب إلغاء تاماً ولا يرى نصر الدين البحرة،وعبر كتاباته المتواصلة عن معارك الفصجى والعاميّة مستقبلاً للعاميّة حيث كانت باستمرار حالاً طارئة تعكس واقعاً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً معيّناً، وجد في عهود الانحطاط أما اليوم فوتائر التطور الاجتماعي آخذة في الارتفاع واطراد التقدم الثقافي لا بد أن يؤدي إلى تقليص الرقعة التي تحتلها العاميّة أما الدكتور هشام أبو قمرة فيذهب إلى اعتبار العاميّة قضية سياسية وفكرية أصبح منذ مطلع القرن التاسع عشر لها دعاة يضعون لها الأسس ويعملون من أجلها ويؤلفون فيها وأكثرهم من المستشرقين أما عناية الدول الأوربية بها فلغاية تكوين القناصل وان اقترنت الحركة الاستعمارية بالدعوة إلى اللغة العاميّة،لتفرقة البلدان العربيّة .
وما يؤكد هذا هو دعوة الانكليزي وليام ولكوكس 1926 إلى الاستغناء عن العربيّة الفصحى وقام بترجمة الإنجيل إلى العاميّة المصرية وكذلك اقتراح عبد العزيز فهمي باشا عام 1944 بكتابة اللغة العربيّة بحروف لاتينية تيمناً بما فعله الأتراك متناسياً أنهم قطعوا صلتهم بماضيهم المتواضع،فهل يمكن للعرب قطع صلاتهم بتراثهم العظيم وماضيهم المديد ؟ كما يكمن وراء دعوته هذه تأسيس لغة منفصلة في كل قطر عربي مثل ما حدث للغة اللاتينية التي تفرعت إلى لغات متعددة- كما نعلم – لكنها اندثرت كلغة أم أما المتفائلون : فيتصدرهم محمد كرد علي الذي يعتقد أنه لا يمضي قرن أو قرنان حتى تتوحد اللهجات العاميّة لأن الفصحى آخذة بالتغلب عليها، ووضع شرطا أساسيا لذلك هو أن تدرس جميع العلوم العالية باللغة العربيّة فتحسن دراستها. وافقه بذلك زهير حطب لاعتقاده إن أفضل أسلوب ما يساعد على تحقيق التقارب الاجتماعي والتماسك الوطني هو اعتماد اللغة الأم في التدريس. وهي نظرية ابن فارس المتوفى عام/395/ للهجرة/ التي تفيد أن اللغة تؤخذ اعتياديا وتؤخذ سماعا من الرواة والثِقات، وتؤخذ تلقنا ًمن ملقنة لعل المستشرق الألماني ( بيتر بنتشيد ) وضع يده على المشكلة الأساسية للازدواجية اللغوية فقال: هي الأمية . فإذا علمنا إن ستين ملونا ً أميين وتسعة ملايين طفلا دون تعليم ابتدائي أساسي إضافة إلى مئة وخمسين مليوناً دون تعليم ثانوي في الوطن العربيّ ندرك تماما ما سبب انتشار العاميّة وما المصادر الرئيسية لإمدادها . أما نظرية جبران فتقول: إن ّ اللهجات العاميّة تتحوّر وتتهذب ويدلك الخشن فيها فيلين ولكنها لا تغلب الفصحى لكنه لم يبين كيف يدلك هذا الخشن ؟ كما فعل عيسى المعلوف الذي دعا المحافظين على أساليب اللغة الفصحى إلى البقاء عليها لتستظهر على العاميّة .
والمنحى الثالث في جدل الفصحى والعاميّة ما نسميه بالتوفيقية التي ظهرت لدى خليل كلفت حيث يرى :إن العاميّة فصحى أيضاً لأن لها قواعدها ونظمها الصوتي والصرفي والنحوي وهي سليمة بمعاييرها الخاصة ولا توجد اختلافات كبيرة بين العاميات العربيّة وهي بالتالي لهجات متنوعة للغة عربيّة واحدة وهذه اللغة الواحدة عنصر توحيدي مهم في تكوين الثقافة العربيّة ويعترض خليل كلفت على استخدام كلمة "الفصحى" للتعبير عن لغة الكتابة ويقول : إن الفصاحة هي شأن كل لغة فالعاميّة فصيحة لأنها تحكمها قوانين لغوية ولأنها لغة حية ومفهومة وواضحة، من قبل المكلمين بها والفصحى لا تستخدم في الاتصال اليومي بالرغم من كونها لغة الثقافة والفكر والتراث والمناسبات الرسمية. وذهب علي صبري فرغلي إلى أبعد من ذلك حين وضع الخصائص اللغوية المتشابهة بين الفصحى والعاميّة وذكر من أهمها خاصية الاشتقاق من الجذر ، ووجود الأصوات المفخّمة، واستخدام التمايز الصوتي للتفرقة بين الكلمات،والاعتماد الأكبر على الصوائت للتعبير الدلالي والاشتراك في إمكانية حذف ضمير الفاعل،والعاميّة والفصحى تستخدمان الإضافة الضمائر وحروف الجر واشتراكهما في كثير من الجذور والكلمات وصيغة اسم الفاعل واسم المفعول ، واستخدام الضمير العائد في الجمل الموصولة وعند تقديم المركبات الاسميّة ومضى يعدد من الصفات المشتركة ظننت أن عامية الرجل فصحى وانه لا يكاد يميز بينهما وأذكّر بأهّم خاصّية للعاميّة تنسف ما ذهب إليه وهي استخدامها اللواصق بلا جذور كما أذكّر بما سلف من آراء للباحثين والمختصين آنفاً.
عوامل نشوء العاميّة
والعاميّة:هي اللحن في القول : حسب تعريف الراغب الأصفهاني ، وحرف الكلام عن سننه الجاري إما بإزالة الإعراب، أوالتصحيف (4) ، ففي مقدمة ابن خلدون وردت إشارات عن فن التوشيح لدى الأندلسيين الذي استحدثت عنه العامّة فن الزجل الذي نظم بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً .
العامل الأهم لنشوء العاميّة ، هو عامل تاريخي يتمثل بالأثر الذي تركته القبائل في اختلاف لغاتها في الفصحى نتيجة اختلاف الزمان والمكان، وانتشار القبائل في أطراف الجزيرة العربيّة، الأمر الذي أبقى في كل لهجة شيئاً من تراثها القديم فلغة حمير الممزوجة بالعدنانية غير لغة ربيعة من حيث التعريب والهيئة والإبدال وأوجه الإعراب والبناء، وهذا ما ترك أثاراً لا زالت تنسب إلى العاميّة ، إن إختلاف لهجات القبائل وأثره كان سبباً لنشوء العاميات العربيّة يتمثل هذا الإختلاف بظاهرة إبدال الهمزة عينا في لغة تميم وقيس ( مثل أنت وعنت )وإخفاء قضاعة لبعض الحروف في الكلام وقلبها الياء الأخيرة جيما، وإبدال الحاء عينا في لغة هذيل ، وقلب لام التعريف ميما عند حمير ، وكسر تاء المضارعة في بهراء، وقلب السين المتطرفة تاء عند أهل اليمن، وظاهرة ما يعرف بالاستنطاء أي قلب العين الساكنة قبل الطاء نونا. يقولون (إنطي) في أعطي وهي لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار، وهي اليوم لغة معروفة في الجزيرة السورية. ويرى البعض أنه مهما تطورت اللهجات العاميّة فإنها متفرعة حتما عن الفصحى ومتأثرة بها ، وإن كانت أحيانا تشويها وتحريفا، فالكلمة الفصيحة رجل تستخدم في العاميّة راجل ورجّال وريال ، وعبارة من أين تصبح : منين ، ومن وين وهكذا.وفريق آخر من الباحثين وجد في العاميات أكثر فصاحة مما نعده فصيحا، فكلمة خش بمعنى دخل، ونش بمعنى طرد، ودبق بمعنى لصق ، وحاش بمعنى قطف، وشاف بمعنى رأى، وعشم بمعنى طمع، ومره بمعنى زوجة والعجي فاقد أمه ، والقائمة تطول .وقد عمل الباحث هشام النحاس على إصدار معجم بهذا الخصوص أسماه ( معجم فصاح العاميّة )سنة 1997في بيروت،كما عرفت عدة معاجم تعنى بشأن فصيح العامة كمعجم الفاخر للمفضّل بن سلمة بن عاصم المتوفى سنة /291/للهجرة ومعجم ( بحر العّوّام فيما أصاب فيه العَوام ) لأبن الحنبلي رضي الدين محمد بن ابراهيم بن يوسف المتوفي سنة /971/للهجرة كما صدر في بيروت معجم فصيح العامة. وقاموس المصطلحات الشعبية. وصدر معجم الألفاظ العاميّة ذات الحقيقة والأصول العربيّة للدكتور عبد المنعم سيد عبد العال في القاهرة سنة 1971.
ولكن الأمر لم يعد يقتصر على اللهجات العاميّة التي لا تعدو أن تكون لهجات عربيّة تتفاوت وتختلف في بعدها وقربها من الجذر اللغوي السليم وتظل أبدا متصلة بالفصحى كونها ليست ظاهرة طارئة محدثة، بل هي ظاهرة طبيعية وموجودة في كل اللغات الحية، لكن بنت الشاطىء الدكتورة عائشة عبد الرحمن(5)ترى أن الاستعمار استغلّ هذه الظاهرة الطبيعية ليحارب الفصحى بلهجاتها المتعددة وقد وجد في اختلاف اللهجات الإقليمية ذريعة للقضاء على اللغة الواحدة المشتركة، وقد سارت هذه الحملات في اتجاهين: فمن ناحية تكشف عن جمود الفصحى وتعقدها وبداوتها وتخلفها عن حاجة العصر وتلقي عليها مسؤولية تخلفنا وانحطاطنا، ومن ناحية ثانية تدعو للعامية وتضيف إليها مزايا من الفصاحة والسهولة والمرونة وترى فيها الوسيلة لتثقيف جماهير الشعب وتعليم الأميين، وهذه الحملات بدأت إثر فترة الإحتلال التركي حيث انحدرت اللغة إلى غاية من السقم والضعف، وفيما بعد كانت الجزائر ومصر حقلا لتجربة الغزو اللغوي في قلب المغرب العربيّ ومشرقه ففي عام 1880وضع المستشرق ( ولهلم سبيتا ) كتابا في قواعد اللغة العربيّة العاميّة في مصر تنبأ فيه بموت الفصحى وفي عام 1926نشر وليم ولكوكس رسالة ادعى فيها أن سوريا ومصر وشمال أفريقيا تتكلم البونية لا العربيّة وجند لدعوته الأستاذ سلامة موسى ومجلتي الأزهر والرسالة ودعا إلى نبذ الفصحى التي ورثناها من البدو في عصر الناقة عبر كتابه( البلاغة العصرية واللغة العربيّة )
وبعد:: فإن الشقة بعدت بين الفصيحة والعاميّة نتيجة تلكؤ تعلم الفصحى وتعليمها فالعاميّة سائدة في المدارس والجامعات والمؤسسات الرسمية والخاصة وإن المدرّسين يعانون من شرخ في اعتزازهم باللغة العربيّة الفصيحة فهم يلجؤون إلى الفصيحة في القراءة والكتابة وإلى العاميّة في المحادثة الشفوية والحال - كما يقال – إن هناك شرخا في الشخصية الثقافية العربيّة ، يؤثر تأثيرا مباشرا وأساسيا في علاقة العربيّ بلغته وأمته ويبدو ذلك جليا في التعليم والنصوص المكتوبة والمنطوقة وقد برزت دعوات عديدة لتيسير النحو العربيّ لتيسير تعليم اللغة منذ اللجنة التي شكلتها وزارة المعارف المصرية عام 1928إلى جهود مجمع اللغة العربيّة في المؤتمر الثقافي العربيّ الأول عام 1947ومؤتمر اتحاد المجامع اللغوية العربيّة الأول في دمشق عام 1956وندوة الجزائر 1976.
لا زالت قضية تيسير العربيّة وما زالت غولا يتربص بالفصحى فهي قديمة العهد زاحمت الفصيحة حيث اختلط العرب بالأمم الأخرى إثر الفتوح وسميت آنذاك باللحن ولم تكن مظاهر اللحن عمّا نعرفه اليوم من إسقاط حركات الإعراب، وترك التصريف، وتحريف أصوات وحركات عن معانيها ومخارجها وإسقاط ألفاظ لها بدائل فصيحة ، وانحرافات نحوية وصرفية كصرف الممنوع وتسهيل المهموز وتعدية اللازم ونفل الجموع من صيغة إلى أخرى . فاستمع إلى المذيعين والمذيعات يقفون على أواخر الكلمة بالساكن ويتعثرون في ضبط عين المضارع وفي نطق الأحرف اللثوية .
ويرى آخرون بأن الازدواجية اللغوية تاريخية وليست شيئاً طارئاً وأننا لا نخاف العاميّة، ولجأ رواد القصة والرواية إلى لغة وسط سماها زكريا الحجازي (اللغة الديمقراطية ) وسماها توفيق الحكيم (اللغة الثالثة ) وسماها عيسى عبيد (اللغة المتوسطة ). ثم دعا الرواد أن الجملة الحوارية لا تستمد قيمتها الجمالية من ذاتها بقدر ما تستمدها من وظيفتها في الكشف عن الشخصية وصدى لحدث فيها وعلاقتها ببقية الشخصيات ومن ثم عادوا إلى استعمال الفصيحة في الحوار .لقد خرج الغرب علينا بمقولات مثل: اللغة العربيّة ليست لغة علم ولا تواكب العصر، والتراث العربيّ كتب صفراء لا تفيد الإنسان العصري ، وأخذت موضة إستعمال الحرف اللاتيني في الكتابة العربيّة تبرز ، وأستفحل استعمال العاميّة تحت تشجيع المستشرقين بهدف إحداث فراغ ثقافي في المنطقة العربيّة يتواكب مع تمزق سياسي مزر ٍإلى جانب عدم تحقيق تقدم يقدم فعلي في البنية الاجتماعية على صعيد الديمقراطية(6)
نحن نحتاج إلى تحليل نقدي علمي موضوعي لمفهوم العرب للتطور اللغوي ونعي اللغة على إنها ظاهرة اجتماعية تنمو وتتطور و إن خصوم اللغة العربيّة هم الذين أحاطوا تلك اللهجات البائدة بالكثير من القيمة والأهمية والخطورة ، وثمة وعي لهذه النوايا كفيل بإسقاط كل الرهانات على مستقبل العاميّة ذلك أن بدء انحرافها عن الفصحى لا يكاد يتجاوز العصر الراشدي بكثير أعني منذ وضع أبو الأسود الدؤلي أصول النحو بأمر علي بن أبي طالب إثر ملاحظته بادرة التغيير في الكلام عند الناس ، وهذا مؤشر مهم برأينا يقودنا إلى الاعتقاد بلا تاريخية العاميّة وبذلك تغدو بلا تاريخ ولا مستقبل.

من اشتغالات المعنى في نوادر الأعراب اللغوية
للأعراب – سكان البادية - فضل في إبداع العديد من المعاني وقد اعتمدت في المعاجم اللغوية على أنها فصيحة وقد استشهد بها علماء اللغة نذكرمنها ما هو متداول والذي عرف وانتقل أو بقي تداوله بالتواتر،وقد شاع صيتها على أنها من كلام العامّة، ومن هذه الألفاظ على سبيل المثال لا الحصر.الشُّكْبانُ(7) ثوبٌ يُعْقَدُ طَرَفاهُ من وراءِ الـحِقْوَيْنِ، والطَّرَفانِ فـي الرأْس، يَحُشُّ فـيه الـحَشَّاشُ علـى الظَّهْرِ، ولا يزال عرب الجزيرة السورية يعرفون الشُّكْبانُ فإلى وقت ليس بالبعيد كانت النساء يَحُشُّ فـيه أو يحملن فيه أطفالهن على ظهورهن ، ويقال له أيضا( الكرزل) ومن ضروبه( البشمالة ) وهي قطعة قماشية تربط إلى النطاق ( المحزم) من الأمام تضعها النساء أثناء قطاف القطن ليجمعنه فيها زَرِد(8) أَي لـين سريع الانـحدار الازدرادُ الابتلاع الـمَزْرَدُ بالفتـح الـحلق الـمَزْرَدُ البُلْعُوم وهي كلمة نهر للحمار خاصة فإذا ما أنتهرالأعرابي حماره فيصيح (الله يجعلك بالزرد) ولعله مرض للحمير خاصة ربما يصاب بسوء في الابتلاع ، وقولهم :ما أَدري أَين طَسَّ(9)، ولا أَين دَسَّ، ولا أَين طَسَمَ، ولا أَين طَمَس ولا أَين سَكَعَ، كله بمعنى أَين ذهب وطَسَّ هذه لا زالت مستخدمة لدى الجزريين يريدون بها ذهب بلا وجهة محددة أما طمس فللدلالة على الغطس في الماء. سَبَّعَ(10) اللَّه لفلان تَسْبِـيعاً وتَبَّع له تَتْبـيعاً أَي تابع له الشيء بعد الشيء وهو دعوة تكون فـي الـخير والشر والعرب تضع التسبـيع موضع التضعيف وإِن جاوز السبع والأَصل قول اللَّه عزّ وجلّ كمثل حبة أَنبتت سبع سنابل فـي كل سنبلة مائة حبة. والتسبيع شتم للرجل لدى الجزريين والمسبَّع هو النجس وسبَّع الماعون النجس غسله بالتراب سبع مرات ، وعند العد لا يلفظون العدد سبعة فيبدلونه بكلمة سمحه إتقاء الشتيمة أو تطيرا منه(11) ومن طرائفهم اللغوية قولهم : حِمارٌ مَضْبُوعٌ(12) ومَخْنُوقٌ ومَذْؤوبٌ أَي بها خناقة وذِئْبَةٌ، وهما داءَانِ، ومعنى الـمَضْبوعِ دعاءٌ علـيه أَن تأْكلَه الضَّبُع ، والرجل المضبوع هو الخائف .
ومن طرائف الأعراب التي تعد من العاميّة وما هي كذلك قولهم : لَطَعْتُه بالعَصا(13)،و الْطَعِ اسمَه أَثْبِتْه، و الْطَعْه أَي امْـحُه، وكذلك اطْلِسْه. ورجل لُطَعٌ: لَئِيمٌ كَلكَعٍ.ويقول الجزريين فلان ملطّع أي قليل الحياء ، و اللَّطْعُ: أَن تَضْرِبَ مؤخَّر الإِنسان برجلك، تقول: لطِعْتُه، بالكسر، أَلْطَعُه لَطْعاً كما يقول الأعراب بَشَقْته بالعصا وفشَخْتُه.(14) وفـي حديث الاسْتِسْقاء: بَشِقَ الـمسافرُ ومُنِع الطريقُ،والفشخ هو الجرح الذي تحدثه الضربة في الرأس دَلَغْت(15) الطعام وذَلَغْته أَي أَكلته، ومثله اللَّغْف ، الذي هو الأخذ الخاطف السريع الذي يتبعه هرب قَفا(16)أَثره أَي تَبِعَه(قال الله تعإلى : ولا تَقْفُ ما لـيس لك به عِلـم) وعرف الأعراب بفن التقفي ، وقد أسهبنا في شرحه بكتابنا ( فلسفة الصمت ) ولنا شأو في عرض دراسة عن الجدل الدائر بين الأوساط المرجعية اللغوية العربيّة في موضوع الفصحى والعاميّة ، لنبين دور الأعراب وفضلهم في إغناء اللغة العربيّة بالمفردات والمعاني

وفي النتيجة نقول :
إن اعتماد تعريب المقررات الجامعية وتكريس اللغة العربيّة في تدريس جميع الموادّ وإنهاء ظاهرة الازدواجية اللغوية مع اللغات الأجنبية وتطبيق نظام التعليم الإلزامي في المرحلة الابتدائية أو الأساسية . والمثابرة على تصويب لفظ الأطفال في المنزل . ومكافحة الأمية مكافحة جدية غير استعراضية واحتفالية ومنع استعمال العاميّة في وسائل الإعلام بأية وسيلة وتشجيع استعمال الفصحى في المدارس والجامعات ودور الثقافة لهي أسباب كفيلة برفع شأن لغة الضّاد اللغة المقدسة. ففي التاريخ الحديث مارس إعلام الإستشراق دورا ً تخريبا ً لقيم الثقافة العربيّة طالت حتى القرآن الكريم والحديث الشريف مرورا ً بالشعر واللغة العربيّة لإحداث قطيعة بين أجيال الأمة وفكرها وتراثها الثقافي وبالتالي إحداث تبعية للثقافة الغربية التي ستدخل ساحة الفعل التربوي والتثقيفي بعد إفراغ هذه الساحة من معطياتها وصولا ً إلى التشكيك بوجود أمة عربيّة واحدة وقومية عربيّة وهوية وشخصية حيث جعلت من تعريف الغرب لهذه المعطيات تعريفا ً ينطبق على قوميتنا، فالمخططات تهدف إلى تأكيد دونية العرب بتأكيد غيابهم معرفيا ، وان الغرب يعرفنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا، إن خصوصية الظرف الذي تعيشه امتنا العربيّة من غزو ثقافي محمول على فوهات المدافع والصواريخ العابرة والطائرات في عقر دارنا لفرض ثقافة غريبة عليا وإلباسنا لبوساً غريباً عن قيمنا وحضارتنا وارثنا وأخلاقنا وديننا وعروبتنا وتربيتنا وشخصيتنا الثقافي ولما كانت مقومات هذه الشخصية برأي الدكتور (علي عقلة عرسان ) هي اللغة والعقيدة والعادات والتقاليد فالغزو البربري والمغولية الجديدة الانكلو أمريكية تستهدف بالدرجة الأولى هذه الشخصية لاقتلاعنا من جذورنا القومية والثقافية حيث يجرؤ في المستقبل ( لاسمح الله ) على وضع هذه الشخصية موضع نقاش ومجادلة وبحث وبالتالي إعادة صياغة تخضع لمعيار وحيد هو معيار ينسجم مع طموحاته في المنطقة ويكفل تحقيقها ،ويبدأ كل هذا بالاستهتار والتجاهل للمنظومة القيمية لهذه الشخصية لقد قدّم لنا الغرب تجاربه السياسية والعلمية والاجتماعية ونظمه وصناعاته فبهرنا وأشعرنا بالدونية ووصل الأمر إلى التشكيك بالعقل العربيّ وبإمكاناته وبالجنس العربيّ محدود القدرة فخرج علينا بمقولات مثل: – الفكر العربيّ تجريدي – العرب أمة بيان لا أمة برهان أي أمة كلام إنشائي – الشخصية العربيّة شخصية عاطفية . لا يحكمها العقل – العقل العربيّ والشرقي عقل روحي صوفي لا يتعامل مع الماّدة وأرض العرب لا تصلح إلا للزراعة والعرب فيهم طبع من البدو الرّحل لا يحبون الأرض ولا يتمسكون بها. ويعتقد الدكتور (علي عقلة عرسان) العلاج لن يأت بأن تتكرّم الثقافات الغازية وتكف بلاءها عنّا وتتركنا وشأننا ، فعلى الثقافة العربيّة أن تتواصل وتتفاعل بحيوية من موقع الثقة بالنفس فتتمثل ما تأخذ ولا تمتثل له . أن يستعيد العربيّ تواصلا ً واعيا ً مع تراثه الثقافي ومع معطيات واقعه وعصره وليحوز خصوصيته ويكرسها في ثقافته.

المراجع والمصادر
1 ) لسان العرب ج 11/ ص 355
2 ) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير الجزري تقديم الدكتور سمر روحي الفيصل القسم الأول
وزارة الثقافة مختارات من التراث العربي( سلسلة 68) دمشق 1996
3) نشرنا هذا الفصل في جريدة تشرين ( مدارات ) 19/12/2002
4) قراءة المادة اللغوية على غير وجهها الصحيح الذي أراده كاتبه ( التبديل ) وسببه تشابه أحرف اللغة العربية. أنظر حمزة بن حسن الأصفهاني : التنبيه على حدوث التصحيف مكتبة النهضة بغداد 1967.
5) لغتنا الجميلة الدكتورة عائشة عبد الرحمن - بنت الشاطىء – دار المعارف , القاهرة 1971ط22001
6) ثقافتنا والتحدي خطابنا وخطاب العصر , الدكتور على عقلة عرسان – اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001
7) لسان العرب ج: 1 ص: 506
8) لسان العرب ج: 3 ص: 194
9) لسان العرب ج: 6 ص:
124
10) لسان العرب ج: 8 ص: 147
11 )راجع كتابنا فلسفة الصمت –دار المعارف- حمص 2003 ص133
12) لسان العرب ج: 8 ص: 218
13 ) لسان العرب ج: 8 ص: 319
14 ) لسان العرب ج: 10 ص: 21
15 ) لسان العرب ج: 9 ص: 317

16 ) لسان العرب ج: 15 ص: 194

ليست هناك تعليقات: