2015/09/19

التعريب بين الوعي المُفَوَّت والوعي المطابق

التعريب بين الوعي المُفَوَّت والوعي المطابق

كل نهوض حضاري حق، لأي أمة كانت، يستوجب توفر خمس أدوات كبرى للإنتاج الحضاري وهي: الرسالة والوطن والأمة والدولة واللسان.
أقصد بالرسالة المشروع الثقافي للنهضة، والوطن الإقليم الجغرافي للأمة، والأمة أو الشعب ساكنة الإقليم الجغرافي، وأقصد بالدولة السلطة المركزية المنظمة للعلاقات بين الأمة والوطن وبين الأطراف المكونة للأمة. أما اللسان فهو الأداة اللغوية للتواصل بين أطراف الأمة الواحدة.
لقد عقدت بالمغرب عدة ندوات وطنية و دولية حول المسألة اللغوية، وحول اللغة العربية وباقي مكونات الخريطة اللغوية بالمغرب. وجل تلك الندوات يشكك في إمكانية اللسان العربي أن يكون لسان حضارة وتنمية إلى جانب كونه لسان عبادة ببلادنا. فتنادت فئة من المثقفين المغاربة، قليلة العدد بالتأكيد، إلى ضرورة إبقاء الوظائف العليا للسان بالمغرب في حوزة اللسان الفرنسي أو استبدال اللسان العربي الفصيح باللهجات المحلية أو ما يسمى بالدارجة المغربية. والسؤال المركزي هو هل هذا الوعي اللغوي عند هذه الثلة من المغاربة هو وعي مطابق راشد أم هو وعي مفوَّت مختل؟ هل هو وعي تقدمي بالمعنى التاريخي الصحيح للكلمة، أم وعي شقي ورجعي بالمعنى التاريخي الصحيح  للكلمة؟ وهل ظاهرة تطور اللغات في التاريخ والتاريخ الحديث الأوروبي بصفة خاصة قانون عام لتطور لغات كل الحضارات والأمم أم هو ظاهرة خاصة بتطور اللغات الأوروبية فقط؟ وهل ميلاد الأمة والقومية هو الأصل في ميلاد اللسان المعياري الجامع في تاريخ المجتمعات قديماً وحديثاً؟
وهل يمكن لشعوبنا العربية أن تنهض بدون لسان قومها؟ وماذا عن طبيعة اللسان القائد للحضارة في عصر العولمة الذي هو عصر التكتلات الكبرى؟ أليست الدعوة لاستبدال اللسان العربي باللهجات المحلية دعوة للتجزئة و تفتيت المفتت؟ أليست دعوة خارج العصر وخارج الوعي التاريخي الرشيد؟ وماذا عن التصاق بعض الفرانكفونيين بجلد اللسان الفرنسي كلسان قائد للتنمية ببلادنا؟ وماذا قدم لنا هذا اللسان من تنمية وثورة علمية وتكنولوجية ملموسة وهو يهيمن على الوظائف العليا للسان ببلاد المغرب منذ قرن من الزمن؟
 ما قانون تطور اللغات؟
إن قانون تطور اللغات في تاريخ الحضارات بالأمس واليوم وغداً ليس على خط واحد بالتأكيد، ففيه الكثير من المشترك، وفيه الكثير من الاختلاف، باختلاف تجارب الأمم واختلاف الحضارات. لقد كانت اللغات الأوروبية، كالفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها، في بداية العصر الحديث لهجات محلية في بلدانها لغات دارجة. لكن في هذا العصر بالضبط ولدت أدوات الإنتاج الحضاري الغربي وهي الدولة أو السلطة المركزية والأمة أو الشعب والوطن أو الإقليم الجغرافي الموحد ورسالة النهضة و هي الثورة الإنسية والثورة الفكرية اللبيرالية، واللسان أو اللغة المعيارية باعتبارها أداة للنهضة والتنمية. إذن فميلاد اللغات الغربية الحديثة الحاضنة للعلم والتكنولوجية منذ زمان ليس عملية معزولة عن ميلاد وازدهار أدوات الإنتاج الحضاري الأخرى: الدولة والأمة والوطن والرسالة. فميلاد اللغات الغربية كألسن معيارية هو تعبير عن تجاوز شعوب أوروبا للعصر الإقطاعي الذي تفككت فيه الأوطان والشعوب إلى إقطاعيات متناثرة وتجزئة قاتلة تسببت في تكور حضاري في أوروبا منذ القرن الخامس الميلادي إلى عصر الثروة الفكرية والسياسية والصناعية في العصر الحديث. فوحدة الوطن والشعب والوحدة السياسية بدل التجزئة الإقطاعية فرضت وحدة اللسان واللغة، وبالتالي ضرورة تحول اللغة الدارجة الأقوى إلى لسان وطني مقعَّد للجميع لسان معياري لازم للنهضة والثورة الرأسمالية الكبرى عند شعوب الغرب في العصر الحديث.
إن وعي الأوروبيين في العصر الحديث بضرورة الخروج من عصر التكور الحضاري، الذي دام قرون مظلمة، إلى عصر التطور والأنوار فرض عليهم بناء أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة: الدولة والأمة والوطن والرسالة الحاملة للنهضة واللسان الموحد والحامل للنهضة والتنمية. ومن هنا كان ضروريا تحويل لهجة دارجة إلى لسان مقعّد ولغة معيارية لكل أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة والسلطة المركزية الواحدة ورسالة النهضة الواحدة. وهو ما شهدناه مع اللسان الفرنسي والألماني والإيطالي والانجليزي وغيره. وهو أمر معقول بمنظور الرؤية التاريخية الارتقائية أو التقدمية بمفهومها التاريخي و ليس بالمفهوم السياسي الدارج اليوم.
هذا القانون التاريخي في تطور الظاهرة اللغوية في الغرب الحديث هو نفسه القانون الذي حكم تطور الظاهرة اللغوية العربية في عصر النبوة و ما قبله و ما بعده في عصر الازدهار الإسلامي الكبير في العصر الوسيط. فاللسان العربي وما أنتجته كلماته ومفاهيمه من تراث عملاق في التاريخ يعطيه الحق في لقب ( اللسان العملاق). لكن السر في قوته كلسان قائد للحضارة في العصر الوسيط، إضافة إلى كونه لسان عبادة، هو السر نفسه في قوة الألسن الأوروبية اليوم في الإنتاج الحضاري وعلى رأسها اللسان الإنجليزي.
لقد ولدت قوة اللغة العربية مع ميلاد أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة في التاريخ الإسلامي كما هو شان ميلاد اللغات الأوروبية الحديثة كما أسلفنا الذكر. فاللغة العربية الكلاسيكية والعصرية هي في الأصل إحدى اللهجات العربية للجزيرة العربية في القرون الخمسة الأولى للميلاد؛ هي دارجة قريش بالضبط. لقد كان المجتمع العربي قبيل الإسلام يعيش تكوراً حضارياً كما عاشته أوروبا في العصر الوسيط، وكان العرب قبل الإسلام مجتمعاً يفتقد لكل أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة الخمس: فلم يكونوا أمة موحدة بل كانوا قبائل مفككة، ولم يكن لهم وطن موحد، إذ كانوا موزعين بين القبائل وبين  الخضوع للاحتلال الروماني أو الفارسي أو الحبشي. ولم تكن لهم سلطة مركزية جامعة لأطراف الجزيرة العربية موطن العرب والعربية الأصلي. ولم تكن لهم رسالة أو مشروع ثقافي لنهضتهم، ولم تكن اللغة العربية القرشية إلا في بداية تحولها إلى لسان مقعّد يقود باقي اللهجات والدارجات في الجزيرة العربية. لكن مع هجرة الرسول الكريم(صلى الله عليه وسلم) للمدينة المنورة ولدت كل أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة: فإلى جانب الإسلام كرسالة للنهضة المنزل وحيا على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولدت بعد الهجرة الأمة؛ المسلمون واليهود وغيرهم.. كما جاء في دستور الصحيفة المكتوبة في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والوطن أي الإقليم الجغرافي للمدينة وما يحيط بها، وميلاد السلطة المركزية لهذه الأمة وهذا الوطن، فلم يعد محمد (صلى الله عليه وسلم) نبياً ورسولاً فقط، بل وحاكماً سياسياً للأمة الجديدة.فتوفرت كل الشروط لارتقاء حضاري عظيم  للعرب والمسلمين في دار الإسلام الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى حدود فرنساً غرباً. قاد فيها المسلمون الحضارة لأكثر من ثمانية قرون. وقاد فيها اللسان العربي المبين الإنتاج والتواصل الحضاري المادي والمعنوي لقرون، إلى جانب كونه كان وما زال لسان عبادة أيضاً. والخلاصة أن الازدهار العظيم للسان واللغة العربية(إنجليزية للعصر الوسيط)، وازدهار اللغة الإنجليزية الغربية للعصر الحديث لم يكن لتطور ذاتي داخلي فقط، في بنية اللغة و قاموسها و مفاهيمها و أسلوبها وحرفها، بل سر الازدهار اللغوي  في اللسانين هو الوجود لأربعة إخوة أشقاء يرعون أختهم اللغة ويسعون لازدهارها هم: الدولة والأمة والوطن والرسالة. لذا فمن يبحث جاداً على لسان يساعد على التنمية الشاملة ببلاد المغرب فعليه أيضاً البحث عن الإخوة الأربعة لهذه اللغة أو اللسان القائد للتنمية والنهضة.
هل الفرنسية و الدارجة المغربية بديل وحل للتنمية بالمغرب ؟
في ندوة بشهر يونيه المنصرم بكلية الطب بالبيضاء أجمع جل المتدخلين على أن اللغة العربية لسان كلاسيكي ولغة ميتة؟ وغير قادرة على مسايرة العصر؟ و أن البديل هو استبدالها بالدارجة المغربية؟؟ وأية دارجة فاللهجات متعددة؟ لا ندري.وهل اللغة العربية مسؤولة عن تخلفنا العلمي والتكنولوجي؟ أم أن سيطرة اللسان الفرنسي ببلاد الغرب الإسلامي عامل هام في تخلفنا العلمي والتكنولوجي؟ أم أن الدعوة لاستبدال اللغة العربية باللهجات المغربية الدارجة غايته المركزية ضمان استمرار سيطرة اللغة الفرنسية على الوظائف العليا للسان بالبلاد؟ أتذكر في هذا المقام و المقال تجربتي كعضو في اللجنة الوطنية لإصلاح التعليم التي تأسست تحت قبة البرلمان سنة 1995 .و أتذكر كوني كنت عضواً في لجنة صياغة المبادئ العشر ومنها مبدأ التعريب.وأتذكر ما قاله بنعمور في دفاعه عن اللغة الفرنسية ضداً على التعريب.وأذكر سؤالي له هل سيطرة الفرنسية على الوظائف العليا للسان بالمغرب أنتجت علماً و تكنولوجية و تنمية حقيقية بالمغرب ؟ فبُهِت.
إن دعوتنا للتعريب لا تعني تعريب الحياة العامة كما نادى بذلك الدكتور محمد عابد الجابري سابقاً. إن التعريب بالنسبة لنا هو تحكم اللغة العربية في الوظائف الخمس العليا للسان، بأن تكون اللغة الرسمية للقطاع العمومي وشبه العمومي و الخصوصي في كل من للتعليم والإعلام و الإدارة والاقتصاد والبحث العلمي.ونؤمن بمشاركة اللغة العربية باقي اللغات في الوظيفة الخامسة أي البحث العلمي. لكن عند تعميم اكتشافات العلم والخبرة العلمية المنتجة في المختبرات والبحوث العلمية التقنية والإنسانية لابد من تعميمها بلسان القوم وهو اللغة العربية وليس بلسان قوم أخر، وإلا فشلنا في تبليغ تلك المعرفة والخبرة للمجتمع المغربي المنتج، وبالتالي فشلنا في التنمية الحقة. لقد ظل اللسان الفرنسي يسيطر على جل الوظائف العليا للسان في المغرب لمدة تقارب القرن من الزمن، منذ 1912. ومع ذلك لم نتقدم في مجال التنمية بما يكفي لنهضتنا. والسر هو كون تعميم نتاج البحث والخبرة على المجتمع المغربي المنتج شبه مستحيل لكون الفرنسية ليست لسان المغاربة. وبالمناسبة فعلى المدافعين عن استمرار سيطرة اللسان الفرنسي على الوظائف العليا للسان أن يعرفوا أن نسبة مساهمة اللغة الفرنسية بين باقي اللغات في البحث العلمي العالمي لا تتعدى 2,5% اليوم.
فمن العبث و من الوعي الشقي العمل على تنمية مجتمع ما وتعميم المعرفة العلمية عليه بلغة لا يفقهها إلا أقل من 10% من سكانه. أشيروا علي بأمة نهضت نهضة حق بدون لسان قومها ما عدا شبه القارة الهندية التي لم تجد عن الإنجليزية بديلاً لغوياً محلياً يجمع كل مكونات الأمة الهندية في لغة قومية واحدة؟؟؟ بل حتى اليهود اليوم أحيوا لغتهم الميتة لتكون لغة الوظائف العليا للسان بينهم. واستفادوا كثيراً من كيان اللغة العربية في تطوير كيانها اللغوي. لقد حكم التاريخ المعاصر في علاقة اللغة بالتنمية الحقة للشعوب بالفشل الذريع  للخطاب الفرانكفوني ببلادنا والداعم بقوة لاستمرار سيطرة اللغة الفرنسية على الوظائف الحيوية للسان في الدولة والمجتمع المغربيين.
هذا الفشل التاريخي الكبير دفع الذئب الفرانكفوني الضاري، المتعطش لافتراس لغة الضاد، لغة القرآن ولغة العبادة مهما كلف الأمر، إلى تغيير إستراتيجيته بدون تغيير الهدف. فاستبدل فروته بفروة (حَمَلٍ) وديع للغاية يزعم أنه لصيق في شعاره بأمه المغرب. فلبس شعار:(الدارجة المغربية المفككة القواعد أفضل، ألف مرة للتنمية، من لسان عربي ميت رغم قواعده المكينة). قد يحاورني هذا الفرنكفوني ويقول لي (كما قلتَ فالتنمية لا تتم إلا بلسان القوم، نحن معك، لذا ندعو إلى اعتماد لسان المغاربة وهو الأمازيغية واللهجات العربية الدارجة كبديل لغوي للتنمية الشاملة ببلاد المغرب). قول ظاهره رحمة بشعبنا وباطنه عذاب، صائب بالمنطق الرياضي وخطأ قاتل بمنطق التاريخ و المستقبل، تقدمي بالمنطق السياسي الدارج، ورجعي حتى النخاع بمنطق السياسة الراشدة.
فمن حيث المنطق الرياضي المجرد فكل اللغات القائدة في المجتمعات والشعوب هي في الأصل لهجة محلية اكتسبت صفة اللغة المعيارية وأصبحت بالتالي لغة وطنية متحكمة في الوظائف العليا للسان، هذا ما حدث للهجة قريش العربية مع الإسلام، وما حدث للهجة الفرنسية وغيرها مع عصر الحداثة الغربية. وسيقول غير (العربوفوني) الشرس في المغرب و غيره من الأقطار العربية أن اختيار إحدى اللهجات القطرية والارتفاع بها إلى درجة اللسان المقعد القائد للتنمية في كل قطر عربي على حده هو الموقف اللغوي الصائب للتنمية الشاملة، وغيره لغو وهراء وغوغاء في التاريخ.
هؤلاء في العمق لا يصدرون في مواقفهم هذه إلا انطلاقاً من النموذج الأوروبي لتطور اللغات في العصر الحديث. فيريدون استنساخه في البيئة العربية الإسلامية بدون الانتباه إلى أن تعدد التجارب الحضارية يفضي إلى تعدد طرق تطور الظاهرة اللغوية في تاريخ البشرية الحديث بالخصوص. فتحالف الكنيسة والإقطاع أي الرهبان والفرسان في بداية العصر الوسيط ساهم في تفكك كل أدوات الإنتاج الحضاري التي وفرتها الإمبراطورية الرومانية في التاريخ القديم الأوروبي. لقد تفككت السلطة الرومانية المركزية في القرن الخامس، وتفكك الوطن الواحد في أوروبا إلى مجموعة أقاليم إقطاعية ينعزل بعضها عن بعض، وتفكك الشعب الواحد إلى مجموعات سكانية تحولوا إلى أقنان أو عبيد مملوكين للأسياد الإقطاعيين من الفرسان والرهبان معاً. كما افتقد هذا التحالف بين الكنيسة والإقطاع إلى أية رسالة للنهضة في العصر الوسيط الأوروبي، وسقط أيضاً لسان الحضارة والعمران؛ اللسان اللاتيني. وكانت نتيجة ذلك سقوط أوروبا في عصر سحيق من الانحطاط والظلمات. والحداثة هي تجربة ناجحة في القطع مع الماضي الأوروبي الوسيط المظلم. و الغرض من هذه القطيعة هو تمهيد السبل لإعادة بناء أدوات الإنتاج الحضاري الخمس الكبرى: الرسالة (بصياغة المشروع الثقافي الليبرالي) ووحدة الشعب و الوطن (السوق) والسلطة المركزية التي كانت موزعة بين الأسياد الذين كانوا حكاماً و قضاة ومشرعين لأفنانهم وليس لشعوبهم. إذ كانت الشعوب والأوطان مفككة و مجزأة قبل العصر الحديث، ووحدة اللسان أو اللغة باعتبارها ركنا من أركان الوحدة القومية وعاملا من عوامل التنمية الشاملة لأوروبا لعصر ما بعد الإقطاع، لكن عصر العولمة اليوم يؤكد يوماً بعد يوم أننا نتجه نحو عصر ما بعد الحداثة.
أي لسان للتنمية الشاملة في عصر العولمة ؟
يمثل ميلاد القوميات الأوروبية الحديثة والنجاح في بناء وحدة الشعب الواحد والوطن الواحد والسلطة السياسية الواحدة وبناء اللسان القومي الموحد، إنجازا كبيرا لفلسفة الحداثة كرسالة للنهضة. ولكن ميلاد القوميات في أوروبا بمنظورنا التاريخي اليوم وباستبصارنا للمستقبل غداً هو الشكل الجنيني لعصر التكتلات. لقد بنت الحداثة القومية باعتبارها في رأيي التكتل القزمي في التاريخ المعاصر..والحداثة اليوم كفلسفة و رسالة للنهوض الحضاري تتحول إلى شمعة تحترق من أجل عصر ما بعد الحداثة .
ومن الأمارات الكبرى لعصر ما بعد الحداثة اليوم أربع هجرات كبرى تحدث اليوم على صعيد كوكب الأرض كاملاً: بداية هجرة البشرية جمعاء نحو الله أو الصحوة الدينية العالمية، وبداية هجرة الشعوب نحو الحرية السياسية أوالصحوة الديمقراطية العالمية، وبداية هجرة الحضارة المادية من الغرب نحو الشرق. وبداية هجرة الدولة لمجالها القطري والقومي نحو الدولة العابرة للأقطار والقوميات. أي بداية ميلاد دولة التكتل الجهوي. وأحسن مثال على ذلك دولة الاتحاد الأوروبي، فهو البداية الجنينية للدولة العابرة للقوميات والأمة العابرة لأكثر من 25 شعبا، والوطن العابر لأكثر من 25 إقليما أو وطنا في القارة الأوروبية. والصين كتلة سياسية وبشرية وجغرافية والهند كذلك، و شمال القارة الأمريكية وجنوبها يسير نحو التكتل وهكذا. فاحتمال تصدر الصين للاقتصاد العالمي سنة 2030 واحتلال الهند المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة سره أن الفيل و التنين دول كتل بشرية و جغرافية وسياسية عملاقة.
إن اتجاه التطور في القرن 21 ينذرنا بأن لا حياة و لا مستقبل لأقزام الأقطار والدول والأمم منذ منتصف هذا القرن. فنحن في عصر العولمة وعصر ما بعد الحداثة أمام ميلاد جديد لأدوات الإنتاج الحضاري الكبرى: ميلاد الدولة العابرة للكيانات السياسية القطرية، ميلاد الأمة العابرة للشعوب، ميلاد الإقليم الجغرافي العابر للأوطان، ولربما ميلاد اللسان اللغوي العابر للألسن. وميلاد رسالة ثقافية وحضارية جديدة تستجيب لهجرة الأمم و الأفراد نحو الله، أي تستجيب للرغبة في التدين كسنة تاريخية عميقة اليوم.
كل هذا الحديث سقته لأطرح السؤال على التيار (الدارجي) أي التيار الداعي إلى استبدال اللسان العربي المقعّد باللغات الدارجة أو اللهجات المحلية بالمغرب الحبيب؟؟؟؟؟
فخبراء التنمية الشاملة وعلماء الاقتصاد يؤكدون اليوم أن لا نهضة شاملة لكيان تقل كتلته السكانية عن 100 مليون نسمة. ومن هنا نفهم قوة الصين والهند القادمة اليوم وغداً. أليست الدعوة لاستبدال اللغة العربية في الأقطار العربية باللغات المحلية هي دعوة تسير في اتجاه معاكس للتاريخ؟؟؟ اتجاه سينتهي ليس ببناء الدولة القطرية أو الدولة الوطنية ذات السيادة بل سينتهي لا محالة إلى بناء كيانات سياسية ما تحت وطنية فاقدة لأية سيادة لها على صناعة القرار السياسي الوطني المستقل، كيانات تجزئة لا كيانات تكتلات. باختصار إن تيار (الدارجيين) و التيار الفرنكفوني تيارا تجزئة بوعي أو بدون  وعي. فهما تياران متخلفان ورجعيان بالمعنى السياسي الصحيح لمعنى رجعي.إنه الوعي الشقي بامتياز.والوعي اللا تاريخي بامتياز، والمراهقة التاريخية والسياسية بامتياز.
وكما أن عصر العولمة هوعصر بناء الدولة والأمة و الوطن العابر للقوميات، فإنه أيضا سيحتاج إلى لسان عابر للهجات واللغات المحلية والقطرية، لأن اللسان أحد أدوات الإنتاج الحضاري الضرورية للتنمية الشاملة لأية أمة من الأمم كما أسلفنا. نحن المغاربة كمسلمين وعرب وأمازيغ في حاجة ماسة لبناء تكتل جهوي ضروري للنهضة و التنمية الشاملة للبلاد. في حاجة لبناء دولة عابرة لأقطار الغرب الإسلامي، وأمة عابرة لشعوب المغرب العربي الإسلامي، ولسان عابر للهجاته المحلية والقطرية، باعتبار ذلك من شروط النهضة الحقة في القرن 21؛ لسان أصيل في قواعده قادر على إعادة التنسيق المحكم بين كل اللغات الاصطلاحية واللهجات المحلية لهذا المجال في الغرب الإسلامي. والتنسيق معناه إعادة صياغة ما تنتجه اللغات الاصطلاحية ( لغة الفلسفة والصيدلة والحرف وغيرها كثير...) من مفاهيم علمية وعامية وفق قواعد اللسان المعياري. فما هي هذه اللغة القادرة على بناء تكتلات جهوية من الخليج إلى المحيط العربيين؟؟ إنها لغة كتلة بشرية تتجاوز400 مليون نسبة؟ كتلة تتجاوز الـ100 مليون بأربع مرات، وهي العتبة الضرورية للتنمية الشاملة كما أسلفنا الذكر؟  إنها اللغة العربية. فهي لغة التكتلات العملاقة للقرن الواحد والعشرين وما يليه. إنها لغة التقدم والمستقبل. أما الدعوة للدارجة فهي رجوع لحطام الماضي؛ فهي التخلف بلا ريب، فالتعريب في بلاد العرب، وهي الدائرة الأولى في العالم الإسلامي ضرورة تنموية وضرورة مستقبلية وليس حنينا للماضي كما يتوهم أصحاب الوعي المفَوَّت( décalée).فالتعريب أحد المداخل الكبرى لبناء التكتلات الجهوية وبناء كيان الدولة العابرة للأقطار كبديل راشد للدولة القطرية التي تتآكل سيادتها يوما بعد يوم في عصر العولمة.
أي تعريب نريد لبلاد المغرب؟؟
انطلاقاً من التحليل السابق العلمي الأكاديمي الهادئ، ندعو حكامنا و الصفوة المثقفة في بلادنا إلى ضرورة الوعي بالمسؤولية التاريخية في اتخاذ  الموقف اللغوي المطلوب للإسهام في التنمية الشاملة لشعبنا. والموقف الحازم الاستراتيجي في هذه المسالة اللغوية هو الدعوة إلى التعريب الراشد المتدرج والكامل. والموقف الاستراتيجي الراشد يتطلب المواقف الحازمة التالية:
أولاً:إن التعريب لا يعني إطلاقاً تعريب الحياة العامة كما زعم البعض. لأن ذلك مستحيل ويتعارض مع السنن التاريخية التي تحكم تطور الظواهر اللغوية. فالدارجة أو اللهجات المحلية أمر قائم ومستمر، ولا يمكن تجاوزه بموقف إرادي محض، مهما كان عزم أولي أمرنا. لكن التعريب المطلوب هو ممارسة اللغة العربية للوظائف العليا للسان في القطاع العام وشبه العام والقطاع الخاص. تكون اللغة العربية في هذه القطاعات الثلاثة هي لغة التواصل الكتابي و الشفوي في الإدارة والاقتصاد و التعليم العمومي و الإعلام العمومي. و أن تكون العربية الوسيلة الرسمية لإشاعة و تعميم و تبليغ الخبرة والعلم ومنتجات البحث العلمي إلى المجتمع المغربي المنتج. بعبارة صريحة، علينا الإعلان على أن سيطرة اللسان الفرنسي على الوظائف العليا للسان بالمغرب وبالغرب الإسلامي لم تحدث في وسطنا لا ثورة علمية ولا تكنولوجية. و لم تحقق التنمية المنشودة، بعبارة أبلغ إن سيطرة اللغة الفرنسية على الوظائف العليا لمدة 100 سنة كانت كارثة على التنمية الحقة. والأمر مفهوم حتى عند الأقل ذكاء، فتعميم العلم و الخبرة ومخرجات البحث العلمي على شعب لا يتقن اللغة الفرنسية يعني عدم وصول تلك الخبرة والعلم إلى ذلك الشعب المنتج.وبالتالي عدم استفادة المنتجين من مخرجات البحث العلمي والخبرة، فلا تنمية بدون لسان القوم، ولسان قومنا المالك لكل شروط اللسان هو اللغة العربية بلا منازع.
هذا طبعاً لا يعني تغييب باقي الألسن المحلية كاللسان الأمازيغي، فأنا أفضل لساننا القومي الثاني رغم ما ينقصه من خبرة و تجربة على لسان فرنسا رغم اكتمال بنائه، لأن الأول لسان قومي يمكن تطويره ليقوم بمهمة التبليغ و التعميم أم اللسان الفرنسي فهو عاجز عن التبليغ لأنه ليس بلسان قومي.
ثانياً:التعريب لا يعني الانغلاق على اللغات الحية العالمية ومنها الإنجليزية و الفرنسية والألمانية واليابانية والصينية وغيرها، فالحكمة ضالة المسلم؛ أتذكر هنا زيارة لي للعراق الجريح سنة 1995برفقة المرحوم الحبيب الفرقاني الأمازيغي الأصل، المتيم في اللغة العربية إلى حد أبعد حد، وفي حفل غذاء علمت من وزير الثقافة العراقي أن الثورة العلمية و التكنولوجية بالعراق قطعت أشواطاً هامة. إذ أكد لنا الوزير أن حجم المجتمع العلمي العراقي يقارب 500 ألف عضو، بين عالم ومهندس و تقني. فسألته عن موقع اللغة العربية من هذا التقدم العلمي و التكنولوجي؟ فأجاب أن اللغة العربية هي لغة الوظائف العليا للسان، وتشاركها باقي اللغات في البحث العلمي، لكن تعميم نتاج البحث العلمي على المجتمع العراقي لا يتم إلا باللغة العربية. أتمنى من تيار الفرنكفونية و التيار الدارجي أن يطلعا على مثل هذه التجارب علها تساعدهما في استرجاع بعض من الوعي التاريخي بالمستقبل، المفقود عندهما الآن مع الأسف الشديد.
ثالثاً:لكن التعريب يعني أيضاً إكمال التعريب العمودي للتعليم بتعريب الجامعة المغربية في العلوم المادية والتقنية، والتعريب الجاد الأفقي بتعريب الإدارة والإنتاج في القطاع العام وشبه العام والخاص، إن أردنا مردودية فعلية في باب التنمية ببلادنا.
لقد أكدت تجربة تعريب المواد العلمية في التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي ارتفاع الحصيلة المدرسية للتلاميذ في هذه المواد. لقد ارتفعت نسبة الفهم لمضامين المواد العلمية و حصيلة المعارف لها. وعدم تعريب الجامعة والاقتصاد يدفع الطلبة وأولياءهم دفعاً نحو المعاهد التي تعنى باللسان الفرنسي، لأنها اللغة المتداولة في عالم الشغل بالمغرب. لكن لو كانت اللغة العربية هي لغة عالم الشغل لأقبل عليها المجتمع بلا  تردد.
إن عدم تعريب الجامعة ومحيطها الإنتاجي عقبة كبرى أمام التنمية الشاملة ببلادنا.
المفكر الإسلامي امحمد طلابي 
العدد 65 من مجلة الفرقان المغربية حول " المسألة اللغوية في المغرب " (من الأرشيف)

ليست هناك تعليقات: