2015/12/04

من أعظم الحيف القبول برسم "القَيْف"



من أعظم الحيف القبول برسم "القَيْف"  
حرف القاف العربي والتشطير
حينما أسس الأستاذ الدكتور عبد الرزاق الصاعدي مجمع اللغة العربية الافتراضي على موقع التواصل الاجتماعي (المغترَد) كانت الهمم مستحثة

ومتوالية للوصول بلغتنا إلى معاقل العامة قبل الخاصة لتتسع دائرة الوعي العام بثقافة لغوية ميسرة تنهض بحال الناس وتقربهم إلى لغة كتاب الله، وكان في ظني أن هذا أسمى هدف يسعى إليه المجمع، فلم أتوانَ، وأنا أرى تفانيَ المشرف عليه وإخلاصه سعياً وراء القواعد اللغوية والمعجمية استقراءً واستنطاقاً، عن المبادرة في التسجيل فيه والتعاون بما أستطيعه ولو كان جهد المقل.
شرعنا في المداولات والمشاورات في كثير من القضايا اللغوية؛ لا سيما ما يتعلق منها باللغة المحكية الحديثة بلسان عامة الناس، في محاولات جادة لتقريبها وتأصيل ما هو مرتبط بالجذور الفصيحة وما اعتراه مرحلياً من تطور دلالي أو تركيبي، فمضينا في ذلك سجالاً بين أخذ وعطاء وشد وجذب، وكثير من الآراء لم أكن على ارتياح تام لما يتخذ حيالها، فكنت أتوقف وأبدي اعتراضي مقروءاً للجميع على صفحات موقع المجمع، فيقابل رأيي في أحايين كثيرة بالصمت والتنحية؛ ما يدفعني إلى القبول والاكتفاء بعرض رأيي المخالف، وهذا يكفيني لئلا ينسب إليَّ الموافقة على شيء لا أراه إيجابياً في خدمة اللغة من وجهة نظري الخاصة، وغالباً ما أستند في إبدائها إلى أصول متينة من قواعدنا اللغوية الراسخة وأدلل عليها بما آتيه.
لن أعرض لبعض القضايا التي خالفْتُ فيها المجمع؛ لأنها ليست ذات أهمية مقابل ما أثارني من نقاش حاد - على ما أزعم - حول حرف القاف؛ الذي ابتدع فيه المشرف على المجمع؛ الأستاذ الدكتور عبد الرزاق الصاعدي، منهجاً تدوينياً جديداً ليضيفه إلى قائمة الحروف المعروفة بحجة القبول الصوتي المتواتر له في كثير من قبائل الجزيرة العربية وفي غالبية البلدان التي يقطنها العرب في مناطق مختلفة من الأرض.
تناول المجمع في دراسة مطولة واسعة، بمشاركة أطراف - جلهم من غير المختصين - ربما يكون بينهم من غير المؤهلين، حرف القاف الذي ينطقه العامة في لهجتنا اليوم، وتبنى المشرف على المجمع المبادرة وبذل جهداً مضنياً توصل خلاله إلى أن للعلماء الأوائل إلماحاتٍ مستفيضةً حول ذلك الحرف، وساق شيئاً منها في قراءة عرضها في مدونة المجمع ليجعل منها معززاً قوياً لمساعيه في تأسيس حرف مستقل يضاف إلى قائمة الحروف الهجائية المتعارف عليها في منهجنا الكتابي الموروث.
وبحكم انتمائي إلى المجمع وقبوله عضويتي مشكوراً فقد رغب المشرف عليه الاستئناس برأيي حول ما بُذِلَ من جهود في هذا المجال ولعلمه برأيي المناوئ مسبقاً فقد أصر – حفظه الله – على أن يراه مكتوباً.
وعليه أقول بعد اتكالي على الله:
إن ما بذله الأساتذة الأفاضل من عمل دؤوب في البحث في حرف القاف العامية يشكرون عليه ويحفظ لهم، وهو أصيل في جوانبه الصوتية، وأنا أقرهم عليه، ولكن بعدما رأيتهم يسعون إلى إيجاد رسم مستقل ينفرد به هذا الحرف عن حروفنا المألوفة وهو الأصيل فيها، رغبت في عرض ملحوظاتي على هذا النحو:
1- الحرف موضع البحث ليس خارجاً عن منظومة الحروف العربية الأصيلة؛ والأمثلة التي سيقت تدليلاً على ضرورة النطق به بما يغاير وضعه الأصلي؛ ومنها: (قاسم، ومقبل، ومقرن) بحرف القاف المعروفة، وهي ذات جذور معجمية لا تخرج عن أصالة لغتنا، وحرفها هو القاف المفخمة الشديدة الخارجة من أقصى اللسان وأعلى الحنك، وهي التي عليها قراءة القرآن الكريم وقراءة النصوص الفصيحة من موروثنا الأدبي بكل فنونه.
2- لقراءة أي نص فصيح يدخل فيه حرف القاف لا بد من نطقه بفصاحته ما يعني أنه ليس لنا أن ننزل إلى لهجة العامة لنستدعي ذلك القاف المبتدع فنترك أصله.
3- استحداث اسم جديد يضاف إلى مسميات الحروف المألوفة يقتضي منا بالضرورة ازدواجية كثير من الكلمات العربية ومنها المستدل بها هنا؛ فحينما نقول: قاسم بحرفه الأصيل فلا يسعنا أن نقبل قاسم بحرفه الرديف المستحدث بما سماه المجمع (القيف) فأي ضرورة تدعونا إلى أن نجعل لدينا قاسمين أحدهما للعوام؟!
4- ما يراد في النص المكتوب لن يعزب عن المتلقي حينما ينطقه أحدهم في الوسط في نجد بقاف مخففة، وينطقه عربي جنوبي في اليمن بقاف مفخمة فصيحة، أو ينطقه في الشرق بقاف هي أقرب إلى الغين، فالتناوب الصوتي لا يُشكِلُ لدى المتلقي، لأنه يعرف المراد وسيكتبه بحرفه الأصيل ولا تثريب على ناطقه بأية طريقة كانت، فكلمة:"حق" ينطقها النجدي بقاف متخففة من مخارجها إلى الرقة والليونة، وينطقها اليمني بقاف موغلة في مخرجها متمكنة منه لتشعرنا أنه على سجيته الأصيلة، وتتجلى حينما تضاف إلى ياء المتكلم.
5- الكتابة المتعارف عليها يلتقي حولها كل العرب دون استثناء ولا يختلف على حرف القاف من ينطقها بصيغة مباينة لغيره من بني جنسه؛ إذ الكتابة شيء والنطق بين العامة في اللغة المحكية شيء آخر.
6- دعوة المجمع صريحة وجريئة؛ بإضافة حرف ليس له أصل في حروف الكتابة العربية التي أَلِفَها الناس منذ آلاف السنين، ونزل بها القرآن الكريم ليكون حافظاً لها، ودونت بها المؤلفات العربية، واعتمدت في المجامع والمنظمات الدولية في عصرنا الحديث، وهذا يتطلب مخاطبة الجهات المعنية لاعتماد ذلك الحرف وفيه ما فيه، وعليه ما عليه حينما تقوم الحجة على أصحاب تلك الدعوة.
7- إن من أهم ما يجب أن نعيه وندركه أن اللهجة الدارجة للناس، في كل زمان ومكان، ليست مظنة للتدوين والرصد، وهذا تعارف عليه العلماء وألفوه منذ شرعوا في جمع اللغة وتراثها، فخاطبوا الخاصة وتلقفوا خطابهم يقيناً منهم أنه هو الخطاب الراقي الذي يعمد أصحابه إلى انتقاء ألفاظه وتراكيبه ليحققوا عنصر التأثير في مخاطَبيهم، فألفت في ذلك الكتب والرسائل التي يحفل بها تراثنا الخالد. فانتحت بذلك اللهجات السوقية واللغة المحكية في الشارع، إذ يلتقي فيها الجاهل والأعجمي والمعيب والعيي والسفيه والفهيه.
8- إننا إن نحن سعينا إلى ابتداع حرف ناشز على لغة العرب؛ فهذا بالضرورة يعني انشقاق كلمات أصيلة من وضعها، لأن الناطقين بها أحالوها إلى بناء جديد غير مؤصل في لغتنا، فاقتضى بذلك سلخها لتوهم أننا في أمة أخرى لها لغة غير ما هو مدون ومحفوظ، وهذا حتماً سينجر على كتاب الله الذي ستطاله الدعوة الآثمة، فتبقى النظائر المنطوقة فيه بعيدة عما هو متداول بالصيغة الجديدة التي يتبناها المجمع ودعاته، ما ينذر بخطر عظيم على كتاب الله ولغته. وما اختير للتدليل من الكلمات هنا خير شاهد فكلها كلمات قرآنية بجذورها واشتقاقاتها فـ"قاسم" من "قَسَمَ" و"مُقْرِنُ" من "قَرَنَ" و"مُقْبِلُ" من "قَبَلَ" وهي أو مشتقاتها واردة في كتاب الله، ما يعني ازدواجية الاستخدام الآيل بنا إلى تجاهل أحدهما ما يعرضنا ولغتنا للانتقاد مستقبلاً.
9- البيت الذي استشهد به المجمع؛ (ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوْمِ قَدْ نضجت) أشار دارسو تلك اللهجة ونظامها الصوتي إلى أنه نُطْقٌ شَذَّ عن الفصاحة فحاولوا تكريسه والوصول به إلى المنافسة والمزاحمة بين قواعد اللغة وأحكامها، ولكنهم أخفقوا في إيجاد الطريقة المناسبة فلم يكتب لمساعيهم الديمومة والسيرورة لأنهم أيقنوا أن تلك اللهجة خارجة على الأصل وربما تجر جناية كبرى على اللغة باستحداث ما يمسها وينال منها، وهذا أمر كفله الله وحفظه فلا سبيل لساعٍ إلى المساس به.
10- في البيت السابق منحيان لغويان قد يبنى عليهما حكم جَليٌّ، أحدهما: شيوع ضروب من الشعر أَنِفَ منها الأدباء والنقاد، ولم يعرها العلماء أي اهتمام؛ لتصنيفهم إياها في الزجل والمواليا والدوبيت والكان وغيرها، فانتبذوها وأحكموا عزلتها لئلا تهجِّن لغتنا. والمنحى الآخر: أن الشاعر – قائل البيت - ربما قاله بسليقته وتلقاه منه الناس كما نطقه فهنا يدخل في الرواية الشفهية؛ ولا يجوز لنا إدخاله في الرواية التدوينية، لأن المدوِّن سيستشرف الفصاحة وسيكتبه بما تقتضيه الأصول الكتابية لا الشفهية. فالحكم الذي أخلص إليه حول البيت هو أنه إما أن يكون زجلاً فلا يعوَّل عليه، أو أن يكون منقولاً مشافهة لا كتابة فالمعتمد الكتابة لا المشافهة.
11- وفي الأخير قد يتقرر لدينا أن ما قيل من أبيات يتمثل بها بعض اللغويين أو الأدباء، الذين قد لا يمحصون ولا يفحصون، فيستدعون ما يخدم عملهم العلمي، ما هي إلا استشهادات عابرة يجلبونها ليبينوا عن أصالة الأصيل ورداءة الرديء، مثلما فعل الأدباء في أبيات بشار بن برد: (ربابة ربة البيت).
12- حين ناقش الكاف الفارسية وما آلت إليه، فاته أن مصير هذه الدعوة سيؤول إلى ما آلت إليه تلك الكاف، وستجني – أعني الدعوة - ما جنته على لغتنا بإبطالها فصاحة القاف وتأثيرها المباشر عليها، لنرى لاحقاً قارئاً لسورة القارعة والحاقة بذلك الحرف المبتدع، فلا تثريب على ناطقٍ بأيٍّ منهما طالما أقره مجمع يضم ثلة من المحسوبين على مؤسسات رسمية في كيان قائم معترف به دولياً.
إن تلك الدراسة أظهرت حقيقة إخفاق مثل تلك المحاولات لإضافة ما لا يجوز
إضافته في قائمة الحروف العربية المتفق عليها فصاحة وعمق دلالة.
13- الدراسة في الصوتيات وإثباتها وتطبيق نتائجها لا ضير فيها ولا أذى منها إذا لم تخل بالبنية اللغوية للكلمات التي تواضع عليها العرب. ولكن أن نأتي إلى استدعاء طريقة في الجهاز الصوتي نستهديها ونتأسى بها وهي خارجة على مواضع الحروف بحجة أن البيئات والأقاليم تختلف في نطقها فهذا افتئات على اللغة التي تجمع أمة واحدة عليها، وإلا لكان علينا أن نوجد للأَبدال التي استحدثها الناس اليوم في لهجاتهم ما يؤدي معناها مثل: "لتْسْ=لكِ"، و"تْزْليل=قليل" و"تْزْ،بسحب الهواء إلى الداخل لا دفعه خارجاً" وهذه لغة تعبيرية بديلة لكلمة "لا" عند بعض العوام في نجد.
14- غير العرب من الأعاجم والروم والزنوج لا ينطقون كثيراً من الحروف العسيرة في العربية مثل الحاء والخاء والظاء والقاف والضاد وغيرها فهل يعني ذلك أن نسعى لما يخدمهم بإيجاد بدائل لتلك الحروف مجاراة لهم؟!
15- انطلق المجمع في دعوته تلك بدءاً من اللهجة الدارجة ونطق حرف القاف فيها بطريقة متباينة حسب بيئاتها وأقاليمها كما ذكرت، ثم عَرَّج على الألفاظ غير العربية التي تنقل إلينا من لغات أخرى وليس فيها حرف القاف الفصيحة، ولكنهم ينطقونه بالمخففة (مختلة المخرج) ليمثل لها بكلمات أعجمية راوحت كتابتها بين أحرف غير ثابتة كالجيم والقاف والغين ونطقها واحد غالباً، ولكنه فات عليه أن ذلك منحى عرفه المترجمون فأنالوه حقه بمنهج علمي رصين تعارفوا عليه ودونوه بما يقارب الحرف المراد فيه، فمثلاً كتابة اسم مدينة (هونج كونج) سواء كتبت بالجيم أو بالغين فهي معروفة بنطقها بالقاف المخففة ولسنا بحاجة لاستدعاء حرف خاص يميزها وإلا لاستدعى الأمر أن نبتدع في عربيتنا حروفاً إضافية لتناسب بعض حروف اللغات الأخرى مثل (p) و (v).
16- المجمع حينما بادر بالحديث عن هذا المبتدع، وهذه الدعوة، صار يتكلم عن حرف معتمد مسلَّمٍ به، ويصفه كما توصف الحروف المعتمدة في لغة العرب، وكأنما حُسم أمره وانتهى، وهذا ليس من المنهج العلمي في شيء، إذ لم يقبل به أية جهة ذات شخصية اعتبارية في القرارات المصيرية للغة أمة قائمة منذ أحقاب.
17- يشير المجمع إلى (لجان) و(مناقشة) و(دراسة) ولكنها تبقى مبهمة فلا أحد يعرف تلك اللجان وليس لها اجتماعات حقيقية ولا افتراضية، ولم تعرض مداولاتها ولا بُسِطت قراراتها أمام الأعضاء أو المتابعين، وهذا يجعلنا نتوقف كثيراً في قبول حوار لم يؤسس كما يجب.
18- دأب علماؤنا على متابعة المنقول من تراثنا فنقحوه وهذبوه ليخرج سليماً نقياً براقاً تقبله الذائقة السليمة، فانتقدوا اللحَّانين وعابوا على غير الفصحاء، واطرحوا كل ما يروى حتى عن الأعيياء الذين لا تستقيم ألسنتهم لعيب خَلْقي فيهم، فتهافتوا على تأليف الكتب التي تتناول اللحن من مثل: ما تلحن فيه العوام، وإصلاح المنطق، ولحن العوام وغيرها كثير.
19- بعض الزملاء من علماء الأصوات واللسانيات الأكاديميين من منسوبي بعض جامعاتنا ناقشوا الموضوع مع المجمع بأسلوب علمي وبينوا جوانب الخلل فيه وكشفوا عدم صواب هذه الدعوة من منطلقات ورؤى رصينة وقفت على بعضها؛ ولكن المجمع ضرب صفحاً ونأى بجانبه عنها فلم يعرها الاهتمام اللازم ولم يقدر لأولئك المختصين علمهم وإلمامهم بدقائق ذلك العلم.
20- للدكتور حسن ظاظا كلام أصيل حول الدخيل والمولد وأثرهما على أصالة اللغة وبالمناسبة فأحيل إليه للاستفادة منه فهو مفيد جداً في بابه وهو في كتاب: (كلام العرب، من قضايا اللغة العربية).
21- وأخيراً ففي حوار خاص بيني وبين الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بو درع حول هذه الخطوة من مجمع اللغة العربية الافتراضي قال:
"يمكن أن تقترحوا تسميةً أخرى بدلا من القيف، مثل القاف ذات الصفة كذا وكذا، وهذا لن يُخرجها من دائرة القاف ولن يكون في الأمر ابتداع حرف".
وفي الختام فهذه رؤيتي حول دعوة المجمع، أسأل الله أن أكون على جادة الصواب فيها، وأن يتقبلها مني الزملاء وأساتذتنا الأفاضل بحسن نية، فربما أكون قسوت أو فُهِمَ مني شيء بما لا أقصده وفقنا الله لما يحبه ويرضاه من القول والعمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

صالح بن إبراهيم العوض.

ليست هناك تعليقات: