2016/02/28

بي عنش

يقول الأديب عبدالله بن خميس - رحمه الله - "إن الكثير من كلمات لهجة عسير فصيحة تماماً، أو لها جذور ثابتة في تربة الفصحى"، ولكون اللهجة ذات وظيفة معرفية وجمالية تتعلق بالسلوك الإنساني والاتصال القيمي وتفسير الطبائع النفسية للواقع الاجتماعي المعاش، كحافظة للنشاط العقلي والبنية الثقافية وعلائق النسيج العام في مساقاته ومصاغاته، فقد حظيت اللهجات العربية بدراسات معمقة ورصينة ومستفيضة وبالذات ما قام به الدكتور العالم والباحث "إبراهيم أنيس" عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ورائد الدراسات اللغوية العربية، والتي عرّفها أي "اللهجة" بأنها مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة، فالعلاقة بين اللغة واللهجة هي العلاقة بين العام والخاص "وقد كان القدماء من علماء العربية يعبرون عن اللهجة بكلمة "اللغة واللحن واللسان"، كما يشير أصحاب المعاجم إلى لغة تميم ولغة طي ولغة هذيل، ويعنون بها "اللهجة" وبالذات الاختلاف الصوتي كالمهموس والمجهور وإشمام الصاد والهمز وعدمه والإدغام والإمالة، وفحفحة "هذيل" وهي قلب الحاء عيناً كقولهم "نعم - نحم"، وقلب التاء المهموسة إلى المجهور وهو الدال كقول تميم "فزدُ بدلاً من فزتُ"، وغير ذلك من ضروب اللهجات لقبائل العرب كالطمطمانية والكشكشة، وبالذات كشكشة قبائل ربيعة وهي قلب "كاف" المؤنثة "شيناً" كما في عسير، كقولهم: "بي عنش - كيف حالش؟"، فقد عدها الدكتور أنيس ناتجة عن تأثر الأصوات المتجاورة بعضها ببعض وأورد مثلاً لشاعر عربي يخاطب ظبية بقوله: "فعيناش عيناها وجيدش جيدها.. ولكن عظم الساق منش رقيق"، وحكى بعضهم أنه سمع أعرابية تقول لجاريتها: "ارجعي وراءش فإن مولاش يناديش"، وفسر الدكتور ظاهرة الكشكشة تحت قانون "الأصوات الحنكية"، التي تأتي من أقصى الحنك كصوت رخوي يشبه "الشين" وهو حرف شجري، وهذا الصوت هو ما سمعه القدماء وسموه "الكشكشة" كظاهرة لغوية موجودة في كثير من لهجات العالم، وهي قلب الكاف التي يليها صوت لين أمامي كقول الشاعر القديم: "بيضاء ترضيني ولا ترضيش" وهذه لهجة قبائل ربيعة التي توغلت في البداوة كبكر بن وائل.
أما إبدال لام المعرفة "ميماً" في عسير كقولهم "امبيت وامجبل" بدلاً من البيت والجبل فقد وردت على لسان "سيف بن ذي يزن" حين قاتل الحبشة، "قد علمتْ ذات امنطع أني إذا أمموت كنع - أضربهم بذا امقلع لا أتوقى با مجزع" وهي ما تسمى "طمطمانية حمير". ولذا فما يظنه البعض منحرَفاً لغوياً أو ثنائية لغوية أو عامية سقيمة أو لحناً شائعاً لبعض اللهجات، إنما هو جهل بمنزلة اللغة العربية وجذرها وبنيتها وصوتياتها وأساليبها الإفهامية، مما يجعلها مثار سخرية وتهكم عند بعض أبنائها.
أحمد عسيري     

http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=21286 

ليست هناك تعليقات: