2016/03/12

اللغة العربية في عصر العولمة

كتب الطيب زاك مهما يكن، فالعولمة وصلت الى اللغة او العكس.. العولمة لا تحتاج الى لغة، لكن العالم النامي في امنياته يحتاج ان تكون له لغة، وهكذا يزداد الامر انفصالا. او على الاقل يزداد مسافة بينه وبين تلك الاماني.. بينه وبين المساهمة بين ما يجري في العالم من تأثير وتغيير وتكتلات.

تلك هي المعضلة بيننا وبين العولمة على لسان اللغة وليس غير شيء آخر، واعني بالشيء الآخر دعامة من كل الجهات حتى الوصول الى الازدهار. وما اقوى لي ولك لو كان هناك واحد من بلداننا العربية بين اولئك الثمانية الاغنى الكبار في جنوى مثلا، عند ذاك يحق لنا ان نتحدث عن لغة صالحة للتواصل مع العولمة.

والحالة غير هذه. لنبق بين دفة الكتب والمحاضرات واللجان والدراسات التي تخاطب اشباح الافكار كأنها تقول: يا أيتها اللغة العربية انشدي، كما انت، مكانتك بين الامم.. انشدي مكانتك تحت الشمس بما يحق لك ان تفعليه بالمحافظة على كيانك كما انت: فصحى ولا فصحى مثلك.. صافية ولا صفاء غيرك. مشروعك الاساسي ان تصمدي وتقاومي الهيمنة الثقافية من الاجنبي والعالمي والدولي. لتظلي «متنبية، نواسية وجاحظية» ومنقوشة على صخور الزمن التي لا تفنى.. وهكذا.

الحقيقة ان كتاب «اللغة العربية في عصر العولمة» للدكتور احمد محمد الضبيب لا يسير في مثل تلك الدائرة المغلقة، انه دراسة قيمة عن اوضاع اللغة العربية في زمن يقاس التطور فيه بالدقائق وليس بالسنوات. ومحاولة في شد الانتباه الى «معاول الهدم التي تعمل على تقويض الاساس النفسي والوجداني لهذه اللغة لدى الانسان العربي».

لسنا امام «نظرية المؤامرة»، لكننا نشعر خلال الكتاب ان هناك غيرة على حال هذه اللغة وشعورا صادقا في البحث عن مخرج لها ورؤية خاصة في المحافظة على مكانتها.

كأن العولمة في هذا الكتاب الذي تزيد صفحاته عن مائتين عبارة عن منطاد يرتفع فوق هضاب اللغة العربية، يلقي نظرة متسعة على السهول والتضاريس والقضايا، وما اكثرها، لكن رحلة هذا المنطاد تتحكم فيها الرياح، اذ تقوده من مكان الى اخر، بل كثيرا ما تعيده الى المواقع التي تركها فيظل يحوم فوقها الى ان يفرغ الغاز، فاذا بالنتيجة معروفة ومتوقعة، ولا مفر.

وهكذا ينطلق الكتاب مجهزا في البداية بأكثر من فكرة وخريطة في هدف نبيل لينبهنا ان العولمة تهتم بالمصلحة الاولى للدول الكبرى، اما الصغرى فهي عبارة عن قاعدة انتاجية للايادي العاملة والموارد الاولية والهيمنة الثقافية هي احدى نتائج الظاهرة مما ادى الى توطيد الانجليزية كلغة عالمية.

ويبقى على العربية ان تواجه الشعور المبالغ فيه بأهمية هذه اللغة الاجنبية، ومن ثم مقاومة الظن بأن التقدم لا يأتي الا عن طريق اتقانها، وفي رأي الكاتب ان التحذلق بالكلمات الاجنبية مع وجود مرادف لها بالعربية هو جزء من الاحساس بالهزيمة، بالاضافة الى انه يحرم اللغة من الاستعمالات التي هي ملكها واهل لها، ويسرد ما قامت به بعض الدول العربية في ترجمة المصطلحات والاستعمال الرسمي للغة الفصحى. الا ان هذا لم يقف امام زحف اللغة الاجنبية في الوظائف والسياحة وحتى على واجهات المتاجر، ومن نتائج العولمة ان فرض على المواطن تعلم الانجليزية مثلا للحصول على وظيفة، فإن عدم اتقان لغة اجنبية يحرمه من لقمة العيش في الفنادق والمستشفيات ووكالات السفر والبنوك وغيرها، لدرجة ان تعليم بعض المواد للاطفال صار يقتصر على اللغة الاجنبية وحدها. ويستنتج الكاتب ان بعض هذه الممارسات تذكر بالايام الاولى للاستعمار.

ولكن هل صحيح ان تعلم لغة اجنبية يجعل الشخص يهمل انتماءاته ويتعلق بثقافة الاخر، حيث يؤدي هذا الى تكوين نوع من الطبقية في المجتمع الواحد؟

فكرة المؤامرة يحاول الكاتب هنا ان يقنعنا بطريقة انشائية عن «الانتماءات الثقافية المتعددة كتهديد للوحدة الوطنية» واشياء اخرى من قبيل «تعميق الهزيمة النفسية» ويدعي ان ضعف الطلاب في اللغة الأم ناتج عن تفضيل اللغة الاجنبية.

ولا يخرج اتجاه بحثه عن فكرة «المؤامرة» وان هناك تحديا اعلاميا ولغويا في الازدواجية: «اذ ان العولمة تجعل منا اجزاء لمشروعاتها ومستهلكين لبضائعها» في حين يدعو الى استخدام ما عندها من وسائل لخدمة العربية والافادة من الثورة المعلوماتية من دون ان يشرح لنا كيف يتم ذلك داخل نطاق القوقعة والانعزال، لكنه اذ يرفع الاعتزاز باللغة العربية ومجدها الى قمة الاهتمام يعود الى القول انه لا يدعوه للعزلة والاكتفاء بالعربية دون الاطلاع على ما عند الاخرين.

لكن كيف نقاوم العولمة ونتصدى لها ونستفيد منها في الوقت نفسه؟ لا احد يدري، لكن هل هناك من فائدة في المقاومة اصلا؟. لماذا لا نطرح الاستفادة اولا والمصلحة العامة ايضا، وان لا نجعل اللغة سجنا ابديا، وقد ظلت الازدواجية اللغوية حتى الان وسيلة قوية عند امم عدة لدعم مكانتها الثقافية والاقتصادية. والدكتور الضبيب يشير الى انه يجب تحديد العلاقة مع اللغة الاجنبية حتى لا تطغى على العربية كتعليم الانجليزية في المدارس الابتدائية ويقول ان الانسان العادي لا يحتاج الى لغة اجنبية ليتفاهم بها داخل بلاده، وفي هذا تقنين لحرية الفرد في التعلم. ان لم نقل ان الشاب في متناوله ان يتعمل اي لغة شاء بالوسائل المتاحة اليوم من دون حاجة الى الاعتماد على المناهج الرسمية. ان هذه الرغبة هي التي تدفع الانسان الى التوسع في المعرفة وتجاوز محدوديات اللغات والمناهج وغيرها.

ان الخيار لم يعد بيد لجان التعريب والمنظمات التي تصدر التوصيات والمؤتمرات التي تدرس هذا او ذاك. انها بيد ذلك الانسان الذي يجد حاجياته في هذه اللغة او تلك فيستخدمها وبالتالي تصير جزءا من ممارساته ومفردات من واقعه الحياتي الملموس.

اللغة واللهجة لقد ظلت اللغة العربية مهددة بالغزو منذ الحملة الفرنسية على مصر بل قبل ذلك بكثير. واذا كانت اعادة تدريس اللغة العربية في المدارس المصرية بقرار من الجمعية التشريعية في عام 1908 حل اشكالية وطنية وسياسية في ذلك الوقت فإن مشكلة استعمال اللغة لم تحل ابدا. ان اللغة العربية في حاجة الى حل ثوري بما في ذلك القواعد والكتابة والتوسع وتغيير الاتجاه التقليصي الى الاتجاه التعددي وتزويد العروق بدماء من اللهجات المحلية التي تربط اللغة بالانسان وليس العكس.. وعوض ان نتساءل باحساس الضحية هل العولمة ستقضي على لغتنا وثقافتنا، فإنه يمكن ان نسأل بشعور من الثقة كيف يمكن ان نساهم فيها ونحصل على مساحة تضعنا في خريطتها كما تفعل حاليا امم اخرى.

ان الكاتب يدعو الى الاستفادة من هذه العولمة وفي الوقت نفسه يحث على الدفاع عن وسائل اللغة التقليدية النابعة من حضارتنا العريقة، الا ان هذه الوسائل تعود في اغلب الحالات الى المؤتمرات والندوات والتوصيات وغيرها من الدراسات التي تجامل ولا تنفذ خوفا من اثارة الحساسيات. في حين يتخذ الانسان العادي موقفا آخر من هذا الواقع.. وتجري وراءه الآن وسائل الاعلام بما فيها صحف تجد نفسها مشطورة بينه وبين اكاديمية الاستعمال للغة وبين الشكوى من التردي اللغوي او من عدم وجود حل حاسم. ويستعرض الكاتب ان هذه الشكوى سادت منذ العصر العباسي وظهرت كتب منذ ذلك الحين تدعو لمحاولة تصحيح الوضع او استخدام اللغة الصحيحة او تشجب الافتتان بالالفاظ الاجنبية او تلوم الكتاب والشعراء والصحافيين على «انزلاقهم نحو العجمة» وهكذا صار نموذج انعاش اللغة بين التخطيء والتصحيح وتخطئ المصلحين.. الى ما لا نهاية، ولم ينفع هذه اللغة في شيء بل جعلها تتراجع وتنكمش لانه لا يمكن انعاشها بالورق والكلام والعناد. وهناك من يقول ان لغتنا تدل علينا او اننا مرآة لها. وهنا يكمن جانب من التعقيد. وعلينا البداية من جديد وقد نضطر الى تسليم الامر كله ولو مؤقتا الى اللهجات التي اثبتت جدارتها وازدهرت وتوسعت الى مواقع الفصحى فصارت لغة التدريس والصحافة والمسرح والسينما والشعر.

لا يمكن توقيف هذا الزحف الحياتي بل من الافضل استخدام طاقته والانتفاع به لخلق قيم لغوية جديدة لا تعتمد على الماضي وحده، ولا تحتكر الفصاحة على اللغة الكلاسيكية، ولا تعارض مقدرة اللهجات المحلية على التعبير الحيوي النابع من حاجات الناس واستعمالاتهم اليومية سواء كانوا داخل العولمة او خارجها.

ليست هناك تعليقات: