2015/02/15

بالفصيح هوان الأمة.. هوان اللغة

عبدالله الناصر

 احتفلت اليونسكو باليوم العالمي للغة العربية، كونها من أقدم اللغات، و أعرقها، وأثراها، ويتحدث بها اليوم قرابة نصف مليار إنسان من العرب، وغيرهم، ويتعبّد بها قرابة المليار ونصف مسلم… وجميل أن تحتفي وتحتفل اليونسكو بها في يوم عالمي.. بيد أن المحزن، أنه لا يحتفل بها أحد من أبناء جلدتها، بل نراهم يجلدونها صباح مساء بكل المساوئ، ويمارسون عليها أسوأ أنواع العقوق، والجحود، والإهانة.. وعندما تهون الأمة أية أمة وتضعف فإن الضعف لا يسيطر على بعض أجزائها فحسب بل يشمل كل شيء، فتظل تعاني من الهشاشة الاقتصادية، والهشاشة السياسية، والهشاشة الفكرية، والهشاشة العلمية، والهشاشة الثقافية، بل حتى في الفن والغناء.

وليس أكثر انحطاطاً، وهواناً من أن يسيطر الجهلة، والأميون، على منافذ ومنابر الثقافة في الوطن العربي، وأن يصبح لهم صوت مسموع، بل أن يعلو صوتهم على أصوات المبدعين وذوي المواهب الأصيلة..!
ودائماً، دائماً يعلو الزيف، وتعلو الرقاعة، أو الفوضى في ظل الضعف العام، لأن حالة القوة هي حالة استعلاء وعنفوان.. هي حالة طرد الأمراض والطفيليات، والأوبئة، عن الجسد الثقافي، ليظل نقياً سليماً متعافياً صلباً،.. ولكن في حالة المرض تسيطر تلك الطفيليات، والأوبئة، ويصبح لها الأمر، والنهي في سلامة الجسد الثقافي، فيظل جسداً منخوراً عاجزاً عن المقاومة والدفاع ويظهر السطو المسلح بكل أشكال وأدوات الجهل والأمية على المواقع والميادين الثقافية!
أقرأ بألم ونفور تلك الأحاديث والأقوال المزرية "لزرازير" الأمية عن اللغة العربية الفصيحة، حيث يَسِمونها بالقصور وعدم الارتقاء في التعبير عن هموم الفرد والأمة. كما يصفونها بالجمود، وعدم مواكبة روح العصر المتسمة بالتسارع، والتغيير والتسامح اللفظي، وأن اللغة الأمية أو العامية أو المحكية كما يحلو لهم أن يسموها هي الكفيلة بالقيام بهذه المهمة، وأن ما نسميه نحن بلغة "الضاد" هي من مخلفات الماضي، بل هي لغة التحجر والتقعر والتعقيد والمعقدين..!
وينجر وينجرف بعض المثقفين إلى الدخول في المهزلة مع هؤلاء في مناظرات لا تدل على عمق المأساة فحسب، بل تدل أيضاً على انتفاخ الحالة الثقافية بأوبئة الجهل، وعلو شأن أولئك السطحيين والسذج، والصغار الذين خلا لهم الجو، فباضوا وفرخوا، ودرجوا زرازير توهمت أنها صارت صقوراً، وعقبانا و:
إنّ الزّرازيرَ لما طَارَ طائُرها
توهّمت أنها صارت شواهينا
لم أسمع ولم أر أمة تحترم عقلها الثقافي تعطي مجالاً للرعاع، والأميين لكي يتدخلوا في شأن لغتها وحضارتها وأدبها. ولم أر أمة تفسح المجال بهذا الشكل المنفلت للعاجزين، وقصار الموهبة في أن يقتربوا من حرمة اللغة السليمة، كما هي الحال إلا عندما تدخل الأمة في عصر الانحطاط الثقافي بكل أشكاله وأبعاده..!
أليس من نكد دنيا الثقافة أن تموت عبقرية اللغة، وأن يموت تفوقها، لتحل محلها لغة الهجنة والعياء المنفلتة من كل قيد أو ضابط، أو قانون فنقرأ على صفحات جرائدنا، ونسمع في قنواتنا أميات متداخلة غوغائية سقيمة لاتنبئ إلا عن كارثة ثقافية تتماشى مع كوارث التمزيق، والتفكيك السياسي، الذي نعيشه! انظروا ماذا يفعل مرتزقة البرامج وهم يقدمون برامجهم بلغة سوقية سقيمة، تدل على فجاجتهم الثقافية، وهرائهم السمج، وانحطاطهم اللغوي والثقافي وعجزهم وقصورهم المعرفي..! فتراهم في أحاديثهم وحواراتهم كبائعات الفجل والكراث في أسواقنا الشعبية..! ومع هذا يتبجحون بجهلم، وجاهليتهم..!
صحيح أن اللغة لابد أن تتطور، وأن تتغير وفق معطيات الحياة ونمطها الحضاري، وصحيح أن اللغة يجب أن تنعتق من دائرة الجمود إلى دوائر أكثر رحابة وأوسع فضاء، ولكن ليس بالانفلات وتهشيم قانونها.. ليس بالعبثية والفوضوية.. فالبنيان اللغوي والنظام اللغوي لا يمكن أن يقوض باللغة السوقية التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وتتقاطع فيها كل المجاري الباطنة فيطفح وجه الثقافة أذى وجهلاً، وتفاهة..! كلا فإن للثقافة هيبة وحمى لا يدخله إلا المؤهلون. وللغة حمى وحرمة لا يخوض فيها إلا المثقفون والمبدعون والقادرون، أما الأدعياء والأميون فهؤلاء لهم ثقافة خاصة بهم تعبِّر عن مقدرتهم وإمكاناتهم، يجب أن تكون ضيقة، ومحدودة، ثقافة تعكس ضعف إمكاناتهم وقدراتهم وعدم رقيهم الثقافي واللغوي، وقصورهم عن استيعاب حركة اللغة الشاملة التي تعبر عن ضمير الوطن والأمة ولا تعبر عن لهجة أمية إقليمية ضيقة، فتلك اللهجة يجب ألا يعلو صوتها على صوت الثقافة الأصيلة، ولا لغة الأمة الرحبة.. وإلا فإننا سنصحو يوماً على ثقافة مريضة مثقلة بكل العاهات، والأوجاع، ثقافة شبيهة بحاوية يفوح من داخلها مايزكم الأنوف وتشمئز منه النفوس.

ليست هناك تعليقات: