2015/02/15

العربية بين اللهجات والنخب

إبراهيم بن سليمان المطرودي
    مما شاع في تفسير نشأة النحو العربي أن العرب حين اختلطت بغيرها فسدت ألسنتها؛ فكان الحل هو في نشأة هذا العلم؛ حتى يعين العربي لأن يبقى على صفائه اللغوي، وبلاغته الكلامية؛ لكن للأسف نشأ علم النحو، ونشأت علوم العربية الأخرى معه، وقضى العرب بعد نشأتها مئات السنين، ولم يعودوا بعدُ إلى صفائهم اللغوي، وخصلتهم الأساسية،  وهم إلى قضاء بقية أعمارهم على هذا أقرب منهم إلى أن تعود إليهم فصاحتهم، وترجع إليهم بلاغتهم! وعندي على هذا شهادتان؛ شهادة التأريخ، وكفى به عندي شهادة، وشهادة الواقع الذي تعيشه هذه الأيام الدول العربية مع تعليم العربية!

لن تحيا العربية بتراث لم يعد يريده أحد؛ اللغات تحيا، وتنشط، وتقوى، حين يكون لأهلها حوار يستمع له الآخرون، ويُنصتون له. أما حين يكون الحوار حول ما قاله الأسلاف، وما أتوا به في تصنيف الناس، وتفريقهم إلى طوائف وجماعات؛ فذا تراث يعيبنا عليه العالم؛ فكيف يكون سبباً من أسباب نشاط اللغة، وقوة حضورها؟. لقد كانت فكرة مدافعة الاختلاط بالآخرين، والصدود عن الانفتاح عليهم، وعزو كثير من التحديات التي تمر بنا إلى الاتصال بهم، والتعرف عليهم، وتحميلهم ما طرأ على العرب في لسانهم وأفهامهم من انحراف، فكرة قديمة، ورثناها - نحن المتأخرين -  وبنينا عليها تعليمنا، وقبل ذلك ثقافتنا، فصار الانفتاح على الآخرين في نظرنا تحديا يجب علينا أن نعد له العدة، ونتخذ الاحترازات حين العزم عليه، واندفعنا إلى الاشتغال على أضراره أكثر من اشتغالنا على السبب الذي دعانا إليه، والاستفادة منه، وصرنا نعرف الآثار السلبية للانفتاح على وعينا ولغتنا أكثر من معرفتنا بآثاره الإيجابية، وبدا هذا واضحا في تصورنا لتأريخنا الأول حين دخل في الإسلام أقوام من الأمم الأخرى؛ إذ لم يشتهر في وعينا إلا أن دخولهم كان ذا أثر سلبي على اللغة العربية؛ إذ ربطنا بين نشأة علم النحو في العربية، وبين دخول هؤلاء في الإسلام، فارتبط غير العرب (العجم) في تأريخنا بأنهم أحد الأسباب في نشأة هذا العلم، وبدت نشأته كوسيلة من وسائل مقاومة ما يجره الانفتاح على الآخرين من لوثة لسانية، وفساد لغوي.
وإذا كان من أسباب نشأة هذا العلم مقاومة آثار غير العرب على العرب إبان المرحلة الأولى من مراحل تأريخنا؛ فقد وجد اللغويون المعاصرون، عدا الانفتاح على الأمم الأخرى، عدوا آخر للعربية، واتخذوا علومها في مكافحته، والتضييق عليه، وهو اللهجات العربية المعاصرة، فأخذت حيزا غير قليل من خطابهم، وقادتنا هذه الفكرة إلى كره اللهجات، وعدها خطرا محدقا باللغة، وتبع ذلك أن جُرمت اللهجات، وعُدت بلاء يوشك أن يعصف بالعربية، ويُدمّر الهوية، وبهذا ربطنا بين النمط الفصيح من العربية وهويتنا الثقافية، وذاك أقصى هجاء للهجات، ومحاربة لها؛ إذ بدت ليست ضد الشكل اللغوي فحسب، بل ظهرت أمامنا كعنصر من عناصر التخريب للهوية الثقافية، ونسينا أننا من أكثر الأمم إيمانا بالنخبة وغير النخبة! نسينا هذا التصنيف الثنائي، وصرنا نُحمّل عامة العرب وجمهورهم أوزار ما نحن فيه، وتبعات ما تعانيه العربية، نسيت النخب العربية والإسلامية العبء الذي عليها أن تقوم به، وتشاغلت باللهجات، التي يعتمد عليها الجمهور في إيصال رسائل الحياة اليومية، وكأن هذا الجمهور العريض هو الذي يبني آفاق الثقافة، ويُراهن عليها في معركة الثقافات والحضارات.
لست أخاف على العربية من اتصال شعوبها بغيرها، ولست أخاف عليها اللهجات المحلية؛ مهما كثرت وتنوعت؛ لكني أخاف عليها شيئا واحدا، هو صمت النخبة، وإحجامها أن تكون على قدر المسؤولية الحضارية والثقافية. هذا هو الذي أخشاه على العربية، وهو الذي يجدر الحديث عن عوائقه، والتناول لمسبباته.
تُمثل اللغات الإنسانية صورة من صور التحول والصيرورة، وتُعد اللغات ولهجاتها من أظهر مظاهر الاختلاف والتنوع، فاللغات واللهجات الإنسانية لا تدل على شيء أكثر من دلالتها على سنة التغير والتبدل؛ إذ لم تستطع الأمم الأولى، من لدن آدم _ عليه الصلاة والسلام _ ومن بعده، أن تُوحّد اللغة، وتقف دون تغيرها! ولو كانت اللغات يُنظر إليها من خلال مصلحة الإنسان في تواصله بغيره، واستفادته منه؛ لكان توحيد لغة البشر، واستمرار النمط اللغوي الأول الذي صاحَب النشأة الأولى للإنسان أيسر له في تحقيق ذلك، وأهون عليه أعباء في كسب مصالحه؛ لكن تأريخ اللغة قاده تأريخ الإنسان، والإنسان في العصور الأولى كان يرى نفسه مستغنيا عن غيره، وقادرا على العيش دونه، وشجّعه على ذلك وفرة حاجته في الطبيعة، وقلة البشر من حوله؛ لكن تقدم الإنسان، وازدياد البشر زيادة لم تكن في التأريخ كله، ونضوب خيرات الطبيعة؛ جعلت الإنسان مضطرا في طلب قوته، والحصول على سد رمقه، أن يعيش مع الجماعة البشرية، وأن يتعلم لغات الأمم التي تضمن له الحياة الكريمة، والسعادة الدنيوية؛ ما جعل تنوع اللغة، وتشققها، وولادة بعضها من بعض، يقلّ ويضعف، وربما بدأ بالانحسار في مقبل الأيام حين تضيق فرص العيش، ويضطر الإنسان للهجرة إلى الدول المتقدمة التي يجد في رحابها ما يفتقده في بيئته الأصلية!
إن بروز الأمم، وارتفاع شأنها الدنيوي، يعودان على لغتها بالقوة والنفوذ، ولا ينفع اللغة في صراعها مع اللغات الأخرى أن تكون لغة كتاب مقدس، أو دين خاتم الأنبياء؛ لأن الصراع على الدنيا وبنائها، والإنسان _ كما نعلم _ يؤثر الدنيا على الدين! هذا هو التحدي الذي تُواجهه العربية اليوم، ويُنتظر من النخبة اللغوية وغير اللغوية أن تهتم به، وتحرص عليه، وتدرس أسباب غيابه.
أمام اللغة العربية، وأمثالها من اللغات، تحديان؛ تحد قديم، وآخر حديث؛ فأما القديم فهو في نشوء تعدد لهجي، يأخذ بالإنسان بعيدا عن لغته الرسمية. والتحدي الحديث، وهو الأشد قوة، والأعلى تأثيرا، يظهر في الأمم التي تصنع الحضارة اليوم، وتقدم للإنسان الرفاهية، والفارق بين التحديين عندي كبير جدا؛ فالأول في الغالب تحد مقصور على عامة العرب وجمهورهم؛ فهم الذين يأنسون باللهجات، ويميلون إليها حين الحديث، وهذه الطائفة من العرب، وإن كانت هي العامة؛ إلا أنهم لا يُنتظر منهم خدمة العربية، ولا تقديم ما يُعزز وجودها بين اللغات، وتلك هي نظرة العموم إليهم؛ إذ هذا الجمهور العريض لم يكن يوما من الأيام مشاركا في بناء السياق الثقافي، ومعينا على قيامه.
والتحدي الثاني، وهو تحدي الأمم المعاصرة وحضاراتها، يغيب فيه الجمهور وعامة الأمة العربية، وتحضر فيه النخبة؛ فهي المسؤولة عن إخصاب الثقافة العربية، وتدفق الدماء الجديدة في هياكلها، ولن تستطيع لغة مجاراة غيرها من اللغات؛ ما لم يكن لها من نخبتها ناصر، ومن قادتها معين.
الجانب الدنيوي في معادلة الحياة هو الجانب المنتصر في توجيه الإنسان؛ بشهادة القرآن أولا "بل تؤثرون الحياة الدنيا"، وبشهادة واقع الحياة ثانيا، وهذا معناه أن العربية إذا لم تشارك بأبنائها في صناعة الدنيا فتوشك أن تترك، وتصبح كغيرها من لغات الكتب الدينية! الرهان اليوم في حياة العربية على أن يقوم أبناؤها ببناء الدنيا، والتأثير في تشكيل رفاه الإنسان، ودفع عجلة التقدم إلى الأمام! ولهذا شرط، لا بد منه، وهو إطلاق العنان للعقل، وتكسير قيوده، فليس ثمة طريقة أخرى للمشاركة في الحياة إلا بهذه الآلة، والعلاقة بين العقل واللغة علاقة حميمة؛ فاللغة هي المركب الذي يتخذه العقل للنجاة بصاحبه؛ كما أن العقل بإبداعاته هو الذي يحمي اللغة من الاندثار، ويحفظها من الزوال أو الانزواء، والأمم اليوم تحضر بعقولها، وليس بلغاتها؛ إذ تقوم الترجمة مقام اللغة؛ لكن لا شيء يقوم مقام العقل.
وهذا يجعلني أؤكد في سياق الحديث عن حماية العربية وإعزازها على حرية التفكير؛ إذ هي بوابة حياة اللغة؛ فاللغة كالمجتمع الإنساني؛ كلاهما قائمة حياته ونشاطه على التدافع، وليس ثمة تدافع على بساط اللغة دون العقل وجهوده؛ لكن ما دامت القوة الحاضرة لممثلي تيار محاربة التفكير وحريته؛ فمستقبل لغة الأمة في خطر، ولن تنقذها عودتهم للتراث القديم، وتفيهقهم فيه؛ لأن التراث الذي لا يُشارك في بناء الحياة المعاصرة للمسلمين؛ سيكون عبئاً عليهم؛ لأنه هموم أسلاف مضوا، شاركوا بذلكم التراث في بناء حضارة إنسانية مرحلية، وليست خالدة.
لن تحيا العربية بتراث لم يعد يريده أحد؛ اللغات تحيا، وتنشط، وتقوى، حين يكون لأهلها حوار يستمع له الآخرون، ويُنصتون له. أما حين يكون الحوار حول ما قاله الأسلاف، وما أتوا به في تصنيف الناس، وتفريقهم إلى طوائف وجماعات؛ فذا تراث يعيبنا عليه العالم؛ فكيف يكون سبباً من أسباب نشاط اللغة، وقوة حضورها؟.
وإذا كانت حياة العربية موصولة بالعقل العربي وحريته؛ فمن أول عوائق حياتها، وموانع عودتها فتية، هو التقليد وأهله؛ فالتقليد لا يجني على عقول الأمة، ويدفع بعضها إلى التعصب فالصراع مع غيرهم، بل يُميت اللغة، ويُهرمها، ويُحرض أبناءها على تركها، وترك ما يُؤلف فيها، وهكذا يكون التقليد والمقلدون من أسباب هجرة العقول أيضا إلى لغات أخرى، وثقافات أُخر، ومؤلفاتٍ بغير اللغة العربية مكتوبة.
وأخيراً لعلنا نتفق على أن من شروط النهضة العربية المعاصرة وجود نخبة شجاعة، وغياباً لآفة التقليد، وضعفاً لأهله المتحمسين له، فالتقليد يُفقر اللغة ويصيرها بساطا للمكرور، وميدانا للاجترار المؤذي، وتضحي اللغة العربية حينها كأنها بيت للأولين فحسب، وما لنا ولا لأفكارنا في ربوعها من نصيب، ولعلنا نتفق أيضا على أن اللهجات لن تضرنا أبدا حين يتهيأ هذان الأمران لنا، وتجود الحياة علينا بهما!

ليست هناك تعليقات: