2014/11/28

لهجة فيفاء

قلم الكاتب والباحث / محمد بن مسعود الفيفي

من عيوب اللغة أن تعجز عن تأدية رسالتها عبر البيئة التي تنتمي إليها، وهذا ما لم يحدث طالما كانت كيان حي، مرن، قابل للنمو والتطور، وإذا كانت تعد تأتأة النطق عند الأطفال، صورة نموذجية لطفولة اللغة، فإني أعد لثغته محاولة بدائية
( للتسهيل ) وتحاشي الثقل، ومنه (القلب) و( الإبدال ) الذي يقوم بتغيير البنية الصوتية للكلمة، فيلزم الطفل لنطق حرف الراء مرونة في اللسان، لإحداث الذبذبة المطلوبة التي يتشكل معها صوت الحرف ، لكنه قد يعجز عن أدائه التام، فيبدل الراء لاما، ويرجع هذا الإبدال للتجاور أو شبه الاشتراك في مخرج الحرفين ( اللام والراء)..ولهذا السبب لم يتقدم اللام على الراء في أي جذر لغوي ينتمي للعربية على الإطلاق، وللسبب نفسه وضمن الحالة ذاتها، لم يتقدم الباء على الميم في لسان العرب.
قلتُ: لا يمكننا اعتبار لهجة فيفاء منظومة لسانية مبكرة، قادمة من أتون التاريخ، دون أن تكون قد مرت بالأطوار والمراحل التي أسهمت في ثرائها، ومرونتها، واستعدادها.. وكما كان للبيئة تأثيرها في رسم خطوطها العريضة على نحو خاص، فإن العزلة شكلت سببا وجيها لبقائها في مأمن عن تأثيرات التواصل والامتزاج.
نعم لقد احتفظت لهجة فيفاء بالكثير من الخصائص القديمة ، مع جملة لا بأس بها من قاموسها اللفظي الذي ينتمي إلى عصور مختلفة، أورد بعضا منه ابن دريد ، مما حمل السيوطي ـ في المزهر ـ على القول: ( ولولا إحسان الظن بأهل العلم لرُد كثيرا مما قاله ابن دريد ).
لقد سلكت هذه اللهجة طريق التطوركغيرها من اللهجات، لتؤدي دورها بفعالية واقتدار، تاركة لنا العديد من الشواهد الحية، والظواهر اللهجية الدقيقة، التي أعتبرها ـ من جانبي ـ منجما ثريا، ويمكن من خلالها دراسة التطور اللغوي لبيئات اجتماعية مماثلة ، ومن تلك الظواهر ما يعرف بـ (التسهيل) لتحاشي الثقل، ويشمل رقعة لسانية واسعة، كالقلب، والإبدال، والنحت، والترخيم، والأداء الصوتي، إلخ…
ولنشير أولا؛ إلى (النبر) :
فمما ساقه ابن منظور في اللسان؛ مادة نبر قوله :
(وفي الحديث قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا نَبيءَ الله فقال لا تَنْبِر باسمي أَي لا تَهْمِزْ وفي رواية فقال إِنَّا معْشَرَ قريش لا نَنْبِرُ والنبْرُ هَمْزُ الحرْفِ ولم تكن قريش تَهْمِزُ في كلامها )
قلتُ: وعند أهل اللغة أن العرب لا تنبر، وهو قول مشهور جدا.. وعلى هذ النحو فإن لهجة فيفاء تخلو من النبر إلا في استعمالات نادرة.. ولذلك يقلبون الهمزة واوا، ويختص القلب بحروف العلة ، وما عداها فهو الإبدال فيقولون:
“وَسَرَ” : أسَرَ : قلبت الهمزة واوا، في ( وَسَرَ الدابة بتنشابة) .. وقولهم : ” وَمِيرٍ” : أمير ، مثل : ( فلان أومر وميرٍ لفلان يقول لو كذا … ) ومنها؛ ونايٍ : إناء، وطاير، وبير، إلخ …
وفي الأيد قال تعالى : (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون)47 الذاريات .
وبالمناسبة: الأيد عند كافة المفسرين هي (القوة) ، بينما في لهجة فيفاء هي (القدرة، والاستطاعة، والعزيمة ، والمضاء) وهو المعنى الأول الذي يجب تقديمه على ( القوة ) مهما كان مرادفا صحيحا، ودقيقا، لكنه يأتي متأخرا بعد ( القدرة ) .
إذن .. يَدِيَ؛ يَدَيانٍ: آد، يئيد ، وهنا لفتة عجيبة وهي : أن الأطفال في فيفاء بلثغتهم المحببة يقولون: ( ما أديت أطلع) وما (أديت أفعل كذا وكذا ) فيعيدونها لأصلها السابق أو صيغتها المبكرة.. مما يؤكد أن (يَدِيَ) مرحلة متطورة من (آد) . أما الياء الثالثة في (يدي) فهي أساسية في تكوينه، عوضا عن النبر المضعف في بداية الجذر ( آد) فأصبح (يدي) للتسهيل، مع ما يعرف بالقلب المكاني.ثانيا : الإبدال:
في قولهم “جَرَسَ” : جَرَحَ ، فأبدلوا (الحاء) بحرف (السين) كما جاء في قول الشاعر :
قَحْسَيْت في قلبي “جُرُوسٍ” واللهايبِ….. مَعْلام تاجيني ونا في أرض غايبِ
كم هِا رجالٍ رَايِحَةْ فيما تِقَرّبَ
ويعود السبب إلى أن صوت السين بما فيه من الحدة، جاء ليتلاءم مع إحداث الجرح في الجلد. ولذلك فإنهم عندما يقطّعون اللحم فإنهم: ( يُسَوُّوُه) وعندما يَحْتَزُّون الجلد فإنهم : ( يُسَيّروه) ويوشك حرف السين أن يلازم القطع والنقب للجلد والبدن.
وفي قولهم “بَدَعَ” : بدأ ؛ وهذا الإبدال ليس سببه تحاشي النبر، فقد رأينا كيف تواجهه هذه اللهجة بالقلب، وإنما؛ البدء والانطلاق، والشروع ، ولإنشاء، يحتاج إلى إرادة، وقوة، واقتدار، وهو مالم يتحقق في أصوات حروف العلة، فجاء حرف العين ملائما للتعبير عن البدع كونه يتصدر كل الأصوات الأبجدية عمقا، ولهذا السبب جعله الخليل بن أحمد الفراهيدي الحرف الأول في معجم “العين”، الذي اشتهر به.. فإذن لقد جاء في القرآن (قل ما كنتُ بدعا من الرسل) ولا أدري هل قُرِئت بفتح الباء، إنما أهل التفسير على إن: بدعا من الرسل (أي أول مرسل، قد سبق قبلي كثيرون منهم ).
ثالثا: (الإيجاز)
وهو هنا الاستغناء عن أدوات الربط من حروف أو أفعال نحو قولهم : “مُوطٍ هُو” : سأُنْزِلُهُ، (يُشبع حرف الطاء بالتنوين، تلحقه هاء مشبعة بالرفع ) …و “خابطٍ هو” : سأضربه، و “مُطْلعٍ هو” : سأرفعه للأعلى ، و “شالٍّ ها” : سأحملها و “مِكرِمٍ هم” : سأكرمهم، وهكذا نلاحظ في الأمثلة السابقة أنها جاءت بصيغة (اسم الفاعل) وكأنه أي اسم الفاعل قد اختص في هذه البيئة اللغوية؛ بجواز تأخير الضمائر المنفصلة، دون أن تسبق بأداة الاستثناء (إلا).

(للحديث صلة).

ليست هناك تعليقات: