اطلعت على مقال (لماذا الحساسيّة من دراسة اللهجات؟!) للكاتب إبراهيم
العثيم المنشور في «الجزيرة» يوم الأربعاء الموافق 17-12- 1428هـ.
نقد الأخ إبراهيم (عضو جمعية اللهجات والتراث الشعبي) في مقاله إهمال
دراسة اللهجات، وعاب على أولئك الرافضين دراستها رفضَهم، ثم أورد نصين من كلام المهتمين
بدراستها الذين لم يغفلوا عنها في مؤلفاتهم، وبرهن على ذلك بنماذج من تلك اللهجات.
لقد هوّن الكاتب من خطر اللهجات، عفواً بل إنه لا يرى فيها خطراً على
اللسان العربي، وعدّ البحث فيها استكمالاً لمعرفة لهجات أجدادنا من العرب القدماء.
لم يأت الأخ إبراهيم بموضوع جديد على ساحة الرأي والحوار، فهذا الموضوع
قديم، ما فتئ أربابه يبدأون فيه ويعيدون بين فينة وأخرى، أملاً منهم في أن يصلوا إلى
مبتغاهم، وفرض رؤاهم، نسأل الله أن يحق الحق ويبطل الباطل.
إن ربط لهجاتنا (الموغلة في العامية) بلهجات بعض القبائل العربية في العصور
الأولى التي مثل لها الكاتب بعنعنة تميم وكشكشة ربيعة ونحوها ربط مبتور، لأن تلك اللهجات
كانت محصورة في بعض الحروف، وفي بعض الاستعمالات اللفظية، والقواعد النحوية مع محافظاتها
على الفصاحة وعلى قواعد اللغة الأخرى، ولذلك قال ابن جني في كتابه الخصائص -كما نقل
الكاتب-: (... إلا أن إنساناً لو استعملها -يقصد اللهجات- لم يكن مخطئاً لكلام العرب)،
فأقول للأخ إبراهيم: نعم، لقد صدق ابن جني فيما نقلت لنا، لأن تلك اللهجات ليست نائية
عن حمى اللغة الأم، ولم تتنكر لها كتنكر لهجاتنا المعاصرة. لكن سأسأل الأخ إبراهيم:
ماذا لو عاصرنا عالم اللغة الكبير ابن جني وسمع لهجاتنا الآن؟ أظن أنه سيتراجع عن كلامه
السابق!!
لقد أجازت لهجاتنا المعاصرة لأهلها ما لم يجز لأسلافهم العرب الأقحاح،
من تصحيف نطق الحروف، وتحريف الألفاظ وتعطيل المعاني، وتهميش قواعد النحو العربي في
كلامهم، واستبدلوا بها حروفاً وألفاظاً جرفتها لهم فيضانات الجهل التي فاضت على البلاد
العربية إبان فترة الضعف الغابرة، وبقي من آثار تلك الفترة التي نغضي خجلاً منها هذه
اللهجات التي استشرت في البلاد العربية، حتى بلغ الأمر بنا، أن بعض البلاد بل القرى
يجهلون بعض اللهجات المجاورة لهم فما بالك باللهجات النائية عنهم؟! لقد كثر هذا الزبد،
وابتلينا اليوم بلهجات تنكرت لقواعد اللغة العربية نقول حينها: رحم الله عنعنة تميم
وكشكشة ربيعة.
قد يؤيدني الكاتب فيما قلت، ويقول لي: هذا ما دعاني إلى الدعوة لدراسة
اللهجات المعاصرة، فأقول له: إنني أدعوك وزملاءك أعضاء جمعية اللهجات والتراث الشعبي
قبل أن تفكروا في دراسة هذه اللهجات، أن تتفقوا على رسم موحد لبعض الحروف المحدثة و(المُصَحّفة)
نطقاً في بعض اللهجات، التي لم يجد لها من يكتب بتلك اللهجات رسماً معروفاً، فأثقلوا
بها كاهل بعض الحروف العربية الأصيلة، التي اشتقت منها تلك الحروف المحدثة، فشقيت بها.
ويقول الكاتب في مقاله: (إن المتأمل في مناهجنا ومقرراتنا التي تدرّس
للطلاب المتخصصين في اللغة يلحظ غياباً تاماً للهجات ودراستها.. لماذا لا يقرر على
طلاب الدراسات العليا -المتخصصين في دراسة اللغة- أن يكتبوا بحوثاً عن لهجات مناطقهم..)
وإنني أظن بعد قراءة هذا الكلام أن الكاتب ليس من ذوي اختصاص اللغة العربية، لأنه لا
يعلم عن واقع الطلاب في اللغة العربية، سواء في ذلك طلاب مراحل التعليم العام أو التعليم
العالي، ولا أستثني طلاب اللغة العربية -إلا من رحم ربي- فهو بهذه الدعوة سيزيد (الطين
بلة). أما إن كان من أصحاب الاختصاص فالمصيبة أعظم، إذ إن الأجدر أن يبحث عما يصلح
حال اللغة عند الطلاب، لا أن يسعى إلى ما يزيد الحال سوءاً.
وفي ثنايا مقاله نجده يخالف فكرته التي دعا إليها إذ يقول: (إنا لا أدعو
إلى إحلال العامية محل الفصحى في المعاملات الرسمية ولغة الثقافة والتعليم) فأقول لأخي
الكاتب: إذن لماذا تدعو إلى دراسة اللهجات؟! إن دراسة اللهجات التي تدعو إلى تدريسها
في الجامعات للطلاب المتخصصين في اللغة وتقعيدها لهم، هي دعوة إلى مزاحمة العامية للفصحى
في التعليم، ونحن نشكو للأسف منها الآن في مدارسنا، فقد زاحمت العامية الفصحى.
إن الأخ الكاتب يتحدث عن جميع لهجات الأقطار العربية، وينادي بالاهتمام
بها، ولعله لا يخفى عليه -وهو صاحب اختصاص في هذا الشأن- أن لهجات بعض البلاد العربية،
قد غزتها العُجمة، وأثرت فيها تأثيراً واضحاً، بحيث لو جلست مع بعضهم وحدثك، فسيستعصي
عليك فهم كلامه، ولقد أصبحنا نسمع من بعض شبابنا كلمات أعجمية، يفرزون بها (عضلات ثقافتهم)
أثناء حديثهم، فأخشى أن تصبح هذه الكلمات شائعة على ألسنة العامة، فلا تستقيم أحاديثهم
إلا بهذا الاعوجاج اللفظي.
وقد أعجبني رد للدكتور عبدالله بن سليم الرشيد على أحد دعاة (العامية)
في إحدى مقالاته: (نعم، لا خطر على الفصحى من العامية، من حيث كون الفصحى لغة قائمة
ثابتة بأصولها، متجددة بفروعها، ولكن الخطر على ألسنتنا نحن، وعلى مستوى فهمنا واستيعابنا،
وسمو تفكيرنا ومنطقيته، ثم يقول: ليس أدلّ على هشاشة العامية من كون دعاتها يدعون إليها
باللغة الفصيحة، ولن يستطيعوا الدعوة إليها بها).
ويقول في موضع آخر: (كل لغات العالم الحية تشكو الازدواجية، فعندها لغة
فصحى منتخبة راقية، ولغة أخرى عامية مبتذلة، ولكن أهل تلك اللغات عرفوا حجم العامية،
فلم يسعوا لنفخها، ورفع منزلتها، كما يريد كثير من أبناء العربية، مع أن دواعي الحفاظ
على الفصحى عندنا أكثر منها عندهم..!!) أ هـ.
وختاماً أدعو جميع القراء إلى نصرة لغتهم الأم، والذود عنها. كما أدعو
الكاتب ومؤيديه إلى التأمل في هذا الموضوع، والنظر إلى ما يرفع لغتنا ويستعيد مكانتها،
وألا يكونوا معاول هدم لبنائها من حيث لا يشعرون.
فهد بن علي العبودي - الدلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق