2014/12/05

العامية بين دعوة (مارسل).. وجمعية اللهجات والتراث الشعبي

محمد بن عبدالعزيز الفيصل

يمكن أن تكون اللغة السهلة (اليسيرة) التي تنشأ مع الإنسان منذ صغره، ولكن لا يمكن لها أن تكون اللغة (المشاعة) المتداولة بين الأوساط الإعلامية باختلاف أنواعها، فاللهجة العامية التي نتحدث بها الآن ليست كالعامية التي كان يتحدث بها آباؤنا وأجدادنا في السابق، وأجدادنا لا يتحدثون اللهجة التي كان يتحدث بها آباؤهم وأجدادهم وذلك بفعل المتغيرات
و(المستجدات) التي تطرأ على كل جيل، الذي يختص عن غيره بثقافة وفكر تميزه عن سابقه؛ فاللهجة العامية (مفتوحة) لاتحكمها قوانين فهي مبنية في أساسها على الخطأ و(المغالطة) وهي معرضة وبشكلٍ كبير للتحريف وخصوصاً في مثل هذا العصر الذي زادت فيه المحدثات باختلاف أنواعها وعلى رأسها الفضائيات، فصار الشخص (المتلقي) يستقبل سيلاً عارماً من المفردات والأفكار (الدخيلة)، من هنا وهناك التي تؤثر مع مرور الزمن وبشكل (قسري) في المجتمع الذي تتجول في أرجائه عبر الانتقال (اللاشعوري) من شخصٍ لآخر باعتبار أنها مفردة تعبّر عن معنى معجمي (ذهني) ويمكن أن تكون أسهل الطرق للتعبير عن ذلك الشيء، ولكنها سرعان ماتزول وتنتهي بفعل المتغيرات و(المستجدات) التي تطرأ على مستخدمي هذه اللفظة مما يحيلها وبشكلٍ فوري إلى (التقاعد)، لتحل مكانها الكلمة أو المفردة الجديدة لتمر بنفس المراحل والأطوار التي صادفتها سابقتها، في حين تظل المفردة (الفصيحة) مستعملة ولو بشكل جزئي عند كثيرٍ من المثقفين والأشخاص البعيدين عن وحول (العامية).

وعلى الضفة الأخرى نجد الكلمات (المتداولة) الشائعة الاستعمال التي يعتقد من يستخدمها بأنها عامية (الأصل والمنشأ) بينما الحقيقة تثبت عكس ذلك، فهذه المفردات تمثل جزءاً من المنظومة اللغوية (الفصيحة) المتكاملة وتداولها على هذا النحو هو أمر طبيعي و(صحي)، وينبغي أن يكون أساس استعمالنا لبقية الكلمات على هذا النحو الذي يضمن لنا تداول ألفاظ عربية أصيلة بعيدة عن الطلاسم التي يخترعها العامة، فالعديد من الألفاظ التي يعتقد الكثير بأنها عامية (سوقية)هي عربية فصيحة وكونها دارجة في القاموس (العامي) لا يعني بالضرورة عدم وجودها في قائمة الكلمات الفصيحة فعلى سبيل المثال كلمة (مزَّ): يقال مز الماء مزَّا أي مصه فالمز المص، وقد ورد في اللسان: ((ومزَّهُ يَمُزُّهُ أي مَصَّهُ، والمَزَّةُ المصة الواحدة))، وهذا المعنى دارج في العامية ولا يتوقع أحد وجود أصل فصيح له.
كلمة (مسحاة): المسحاة المجرفة التي تستعمل لحرث الأرض وجمعها، وهي أداة للزراعة دارجة في الاستعمال العامي.
كلمة (نَتَلَ) : يقول الرجل لصاحبه وهما يتحدثان عن خصومهما : انْتِلْهُ وأخرجه أي اجذبه إلى الأمام، يقال :نَتَلَهُ يَنْتِلُهُ، وقد ورد في اللسان :(( والنتل الجذب إلى قدام))، وهذه الكلمات وغيرها هي جزء يسير من المجموعة الكبيرة التي نستعملها في لهجتنا العامية، - وعلى من يريد الاستزادة الرجوع إلى الكتاب من غريب الألفاظ المستعمل في قلب جزيرة العرب، تأليف أ.د. عبدالعزيز بن محمد الفيصل، ولعل استعمال هذه الألفاظ الفصيحة أكبر دليل على مواكبة الفصحى وموائمتها لجميع مانحتاجه وخصوصاً في مثل هذا العصر، ومن المفترض أن تكون الوعاء الذي يجب أن نستخدمه في التعبير عمَّا نقصده.
ومع كون العامية لغة الشارع أو بمعنى أدق اللغة (المبتذلة)، إلا أنها وجدت من يدعو إليها ويتبناها كلغة رسمية يمكن تداولها على نطاق أو مستوى معين وبالأخص إذا تعلق الأمر بأولئك الذين لا يملكون أدنى مستوى من الثقافة يؤهلهم لخوض غمار هذه اللغة لأنهم يفتقدون إلى الزاد الذي سيملأ لهم هذه الأوعية اللغوية!، ومع كساد هذه اللهجة التي تعتبر اللغة الرسمية لأنصاف المتعلمين إلا أنه وجد من يحرص عليها ويتبناها وذلك بسبب الإيعاز الخارجي (الخفي)، - مع يقيني بعدم وجود مثل هذه النوايا والخبايا بيننا-، ولكنها وجدت في بعض البلدان العربية وكانت البداية من مصر إبان الحملة الفرنسية عندما عزم المستشرقون على تبني حملة ضد اللغة العربية في محاولة (جادة) للقضاء على الدين والعروبة، فلا تستطيع الشعوب الإسلامية والعربية بعد ذلك التواصل مع ديانتها ولا مع بعضها البعض، فتنكسر الركيزة الأساسية لهم كعرب ومسلمين فيسهل بعد ذلك الإجهاز على الأمور الفرعية الأخرى، ولعل ذلك يبدو جلياً لمن يستعرض مقولة المستشرق الفرنسي ماسينيون: ((لم نبحث في الشرق إلا عن منفعتنا فدمرنا كل ماهو خاص بهم فدمرنا فلسفتهم ولغاتهم وأدبهم..)).
وكانت المحاولات متتابعة ومتلاحقة لتدمير اللغة وضربها لكونها الركيزة الأساسية التي تبرز الوجه الحقيقي للعرب، فلم يكتفِ المستعمر بنهب الأموال والثروات وحرق الأخضر واليابس، فالرغبة (الجامحة) في تدمير العقول وضرب الأركان الأساسية التي يستمد منها العرب قوتهم من أهم الأهداف (الاستراتيجية) التي ينوي (المستعمر) تحقيقها قبل مغادرة هذه البلدان (المغتصبة)، ففي بداية القرن التاسع عشر الميلادي ألف المستشرق (مارسل) كتاباً سماه (الأجرومية في اللغة العامية)، في حين قدم (كرلودي لندبرج) مؤلف فهرس المخطوطات العربية، في مكتبة بريل بليدن - تقريراً مفصلاً لمؤتمر اللغويين الذي انعقد في العاصمة البريطانية لندن، أوضح فيه إمكانية اتخاذ العامية لغة للكتابة في العالم العربي، وفي نهاية القرن التاسع عشر ألف الألماني (ولهلم سبيتا) كتاباً عنونه ب(قواعد اللغة العربية بمصر) ووجه فيه الاهتمام إلى (العامية) ودعا لها بحجة أن اللغة الفصحى لايمكن أن ينمو فيها الأدب ويتطور.. فأولئك وغيرهم من المستشرقين هم من غير العرب وما فعلوه ليس بغريبٍ عليهم، بل هو متوقع منهم، على الرغم من كل مايقال عن أهدافهم النبيلة (السامية)، فالواقع والزمن يثبت لنا عكس ذلك، ومع وضوح هذه الأهداف وانكشاف النوايا، إلا أنه وجد هناك أعداد من (المغفلين) العرب قد ركبوا هذه الموجة، وتوجهوا إليها وبشكلٍ (مخيف)، حتى وصل الأمر إلى (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة الذي ألح بعض الأعضاء فيه بالدعوة إلى العامية مثل عيسى اسكندر معلوف الذي اقترح على الصحافة المصرية استخدام اللهجة العامية، ولم يقف الأمر عند ذلك الحد فقد وصل أحدهم إلى منصب رئيس مجمع اللغة العربية فأخذ يدعو إلى تمصير اللغة، وهذا ماقام به أحمد لطفي السيد عندما عيّن رئيساً له، كما طالب أحمد حسن الزيات بالتركيز على اللهجات العامية في الأقطار العربية وإقرارها بشكلٍ مطلق وتطورت بعد ذلك هذه الدعوات فظهر على ضوئها عدد من المجلات المتنوعة كان مصيرها الفشل، ومن الذين دعوا إلى ذلك الاتجاه من خارج مصر أنيس فريحة الذي ألف كتاباً سماه (نحو عربية ميسرة)، وتبعه شكري الخوري الذي أصدر (التحفة العامية في قصة غنيا نوس)، وهذا جبران خليل جبران الذي يفصح عن ميوله إلى هذا الاتجاه في مقاله (لكم لغتكم ولي لغتي)، في حين كتب روفائيل نخلة قواعد اللهجة العامية السورية اللبنانية وقد دون النصوص فيها بالحرف اللاتيني، وموقف سعيد عقل ليس ببعيد فقد كتب ديوانه (يارا) باللهجة العامية اللبنانية وبالخط اللاتيني أيضاً.
واستمر هؤلاء في الظهور من وقتٍ لآخر، وكان من أبرز وآخر من دعا إلى ذلك طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) مع العلم بأن ذلك الرجل تراجع عن كل ذلك في آخر حياته.
فأصحاب هذه الدعوات ماتوا، والبعض الآخر منهم تراجع عن موقفه قبل مفارقته الحياة، والبقية الباقية منهم بين الحياة والموت يعني أن هذه (الدعوة) ماتت واندثرت، وتجاوزها جيراننا بمراحل بعيدة، بعد يقينهم من عدم جدواها وفشلها.
أصابني الذهول عندما سمعت أن العمل قائم على إحياء جمعية اللهجات والتراث الشعبي, التي عقدت جمعيتها العمومية الأولى في الثاني من شهر ذي الحجة من العام المنصرم 1427هـ، في جامعة الملك سعود وكان من أبرز مشروعاتها جمع اللهجات ووضع أطلس لغوي لها في المملكة وكذلك وضع فهرس للتراث الشعبي وأرشفته إليكترونياً، بالإضافة إلى نشر سلسلة من الكتب العلمية عن اللهجات السعودية وأخرى للدراسات التي لها علاقة بهذا الحقل.
الكل يعرف أهمية توثيق الأشعار النبطية وتدوينها وذلك لما تحتوي عليه من أحداث تاريخية تهم المنطقة، ولا بأس في ذلك ولكن بشرط أن يكون هذا (التوثيق) تحت مظلة الدراسة التاريخية أو الاجتماعية، بحيث يشار إلى سبب ذلك الاهتمام الذي يتلخص في أهمية ما تحتوي عليه هذه المواد من أحداث سياسية تاريخية تساعد الباحثين على فهم تاريخ المنطقة، أما أن تدرس هذه الأشعار وما يوازيها من لهجات (غريبة) على أنها ظواهر لغوية جديرة بالدراسة، فهذا أمر غير دقيق وغير علمي والاتجاه له لا يعدو كونه خدمة جليلة لأهواء شخصية بعيدة عن (الأهداف العلمية)، منذ مدة قامت دارة الملك عبدالعزيز بجولة على مناطق المملكة والالتقاء بكثيرٍ من المعمرين والمهتمين بالتاريخ، بالإضافة إلى جمع جميع الوثائق التاريخية من رسائل وأشعار وغيرها وتوثيقها والتأكد من صحتها كل ذلك كان تحت مظلة الدراسة التاريخية والاجتماعية لمناطق المملكة، وبعد كل هذا الجهد (الجبار) من رجال الدارة لا أظن أننا بحاجة إلى تلك الجمعية (الضعيفة) في إمكاناتها، والبدائية في خبراتها! وفي أول ظهور إعلامي لها بدأت تتسول حين حددت مبلغ مائتي ريال للفرد الذي يرغب في الانضمام إلى عضويتها من داخل أو خارج الرياض، ولعلَّ أبرز الأهداف التي قامت على أساسها (الجمعية) هو الاهتمام بالعامية وتطويرها وتوثيقها، من خلال دراسة اللهجات المتنوعة (الغريبة) المنتشرة في أرجاء المملكة شرقاً وغرباً !، فأي لهجة ستدرس؟ وهي قامت في أساسها على (المغالطة)، ففترة الركود العلمي والجهل الذي أطبق على جزيرة العرب قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، حيث بدأ النشاط العلمي بعد تلك الدعوة ينشط من جديد، ولعل هذه اللهجات (العامية) المختلفة كانت نتيجة الجهل الذي سيطر على العقول لمدة طويلة، ولا أعرف ما هي المادة العلمية التي سيحصل عليها هؤلاء بعد (دراستهم..!) لهذه اللهجات وأي فائدة سَتُجْنَى بعد هذا الجهد الذي لن يعود علينا إلا بالضرر، فأي أطلس لغوي سيكون لتلك اللهجات التي لم يقتنع بها من ينطقها أم أنهم يريدون أن يضحكوا الأجيال القادمة علينا!، التي ستتمتع بالاطلاع على الأطلس اللغوي (الفريد) الذي سيسطر فيه مجموعة من اللهجات العامية (المكسرة)، التي يصعب على المرء النطق ببعضها شفاهية فكيف إذا دونت في كتب! ولعل من المثير للعجب أن يترأس د. فالح العجمي رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود، اللجنة التأسيسية للجمعية، وفي رحاب الجامعة أيضاً، أمور تجاوزها غيرنا قبل عقود طويلة ولا يزال بعض علمائنا، (يعجنون ويلتون فيها).. كان من المفترض على هؤلاء في جمعية (اللهجات والتراث الشعبي) أن يفكروا ملياً قبل الإقدام على تلك الخطوات (غير المدروسة) التي ستكلفنا كثيراً وستعيدنا وبمسافاتٍ شاسعة إلى الوراء، في حين وصل غيرنا إلى مراحل متقدمة جداً.؟!، أقترح على مجلس إدارة الجمعية في اجتماعه القادم التفكير في وضع هذه الجمعية قبل أن يصلوا إلى مرحلة (الندم)، والتي سيتيقنون فيها من عدم جدوى أغلب الأعمال التي قاموا بها سابقاً.

alfaisal411@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: