عبدالله ابراهيم العسكر
اللغة مرآة الأمة التي تسجل تاريخها وتجاربها، وتنبئ عن عقلها ومشاعرها، وتحتاج
اللغة إلى من يتعهدها بالدرس والتدوين لتنمو وتزدهر وترتقي، وتحتاج اللغة أيضاً إلى
من يتعهدها من أجل أن تتجنب صروف الدهر، ومن أجل معارف اللغة صناعة المعاجم أو القواميس،
ولأسلافنا علماء العربية بوع واسع، ويد صانع في هذا الميدان لا ينكران، ومع هذا فإن
تصنيف المعاجم من أشق الأعمال العلمية، ولا يقوم به إلا أولو العزم من المؤلفين.
احتاج محمد مرتضي الزبيدي ( 1145- 1205هـ)
أن يستوعب مائة مصدر متعددة الأجزاء في مختلف الفنون والعلوم ليؤلف معجمه (تاج العروس)
وسلخ من عمره قرابة أربعة عشر عاما أو تزيد في عمل مضن، وتاج العروس آخر معجم لغوي
شامل فيه ابداع واتساع، تذكرت الزبيدي وتاجه عندما اهدى إلي الصديق الدكتور ناصر الجهيمي
أمين دارة الملك عبدالعزيز المساعد آخر اصدارات الدارة، وهو كتاب : (كلمات قضت: معجم
بألفاظ اختفت من لغتنا الدارجة أو كادت) والمعجم من تأليف الشيخ محمد بن ناصر العبودي،
والمعجم طبع في الرياض عام 1423هـ، ويتناول ألفاظا من لغة أهل نجد السائدة في القرن
الثاني عشر وما بعده.
جاء هذا المعجم اللغوي الفريد في جزأين،
وعدد صفحاته 1509صفحات من القطع المتوسط، وجاءت الفهارس العامة في حوالي خمسين صفحة،
والحق أن شيخنا العبودي في عمله هذا يذكرني بالزبيدي مع فروقات لا تخفى، فعمله يتصف
بالابداع لا شك في ذلك، وهو لم يعتمد على مصادر مدونة، علي أنه سلخ من عمره سنوات عديدة،
ومهد له بكتب عدة تطرق فيها للألفاظ العامية مثل: (الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة
في تسعة مجلدات وآخر هو: معجم الألفاظ العامية، وثالث هو: معجم ما ليس في المعجم).
وأهم مصادر المؤلف السماع والمعايشة والشعر
النبطي أو العامي بنوعيه المدون والشفهي، وتبقى فكرة المعجم آية في الابداع والاتقان.
ذلك أنه جاء ليحفظ آلاف الكلمات الدارجة التي كانت قوام لهجة اهل نجد في القرون الثلاثة
قبل اكتشاف النفط، والتي كادت أن تموت وتدرس، بسبب انفتاح البلاد على العالم وقدوم
تأثيرات خارجية اثرت في مجمل الحياة العقلية والثقافية والمعيشية والاجتماعية لأهل
نجد.
يقول المؤلف: (فرأيت أن ترك هذه الألفاظ
والكلمات التي صحبتنا، واستعملها قومنا مئات السنين ان لم تكن آلاف السنين، ثم شهدنا
مصارعها في حياتنا دون تدوين، هو من الجحود والنكران لتراث الأجداد، بل اهمال لجزء
مهم من تاريخنا لأن الكلمات والألفاظ الشائعة ذات فائدة اجتماعية تاريخية للباحثين).
ويقول عن منهجه انه لم يتعرض لأصول الكلمات
(وانما اذكر مبناها ومعناها وشواهدها من الشعر العامي الذي هو الوسيلة المتوافرة لتوثيقها)
والمعجم يحتوي على آلاف الكلمات التي سادت وادت المعاني ثم اختفت، وهذا وحده كفيل ان
يجعل هذا المعجم ذا فائدة قصوى للدراسات اللغوية المقارنة، وللدراسات التاريخية وللبحوث
الاجتماعية لوسط الجزيرة العربية، الذي يراه المؤلف النطاق الطبيعي لمسرح هذه الألفاظ
والكلمات.
إن فكرة جمع الألفاظ العامية في نسق تاريخي
هو من صميم البحوث العقلية التي قصرنا فيها، واننا لنقف كثيرا امام كلمات وجمل في مصادر
تاريخنا المحلي لا نفقه كنهها، ولا نستطيع أن نستعين بقاموس يفسرها، لسبب بسيط وهو:
عدم وجود مثل هذا القاموس، ثم لو حاولنا الاستعانة بشروح بعض دواوين الشعر الشعبي نعود
بخفي حنين، لأننا لا نجد في الشروح المتوفرة تلك الكلمات اصلا، فقد توقف الناس من استعمالها
منذ مدة ليست باليسيرة، والأمر لا يقف عند عدم الاستعمال، بل يتعداه ان تلك الألفاظ
لم يتصد لها مبدع لتقييدها زمن انتشارها وذيوعها.
والمعجم ماتع ومفيد، وقد صدق الصديق الدكتور
ناصر الجهيمي الذي قال لي: انه يتخذه للترويح عن النفس، والمعروف أن أمهات الكتب المفيدة
هي التي تغذي العقل وتريح النفس وتسلي الخاطر، وتزجي الوقت، وتنسي النصب، وقد خبرت
ما شعر به الصديق ناصر، وذهبت لا ألوي على شيء سوى الاستمرار في قراءة مواد المعجم
التي رتبها المؤلف على حروف الهجاء.
من منا يعرف أن أجدادنا كانوا يكنون الريال
الفضي الفرانس (بأبي شوشة) او مشروب الشاهي المعروف (بأبي زهيرة) قال الشاعر: (أبوزهيرة
ضيع العقل الوثيق كم واحد يقطر صوابه ما شراه) وكنت وقفت على بيت من الشعر العامي مشافهة
هذا نصه:
(ورا عرسك ليلة الحد عميت عينك إن شفت احد)
وحينها لم اتبين المقصود وفي معجم العبودي في مادة: (أ ح د) ورد ما نصه: (الزواج في
ليلة الأحد كان في القديم مكروها يتشاءمون به، ويريدون بليلة الأحد التي يسفر صباحها
عن يوم الأحد، لأن ليلة الأحد غير مناسبة للدخول على المرأة فيها، وقد بطل التشاؤم
بها، وذهب منذ أن انتشرت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب) واذكر وأنا صغير السن ان قريبة
لي أصيبت بمرض سمعتهم يدعونه (بالاخت) وبصوت لا أكاد اتبينه، ولم أعرف كنه هذا المرض
او اسمه الطبي منذ اربعين سنة الا هذه الأيام، يقول العبودي، انها قرحة الأشمونية.
ومثله مرض (الخاز باز) الذي هو التهاب اللوزتين،
والمتصفح لهذا المعجم يجد آلاف الكلمات التي يظن المرء انه يعرف معناها، ثم يكتشف سوء
ظنه، ذلك اننا نعتمد على تتبع نحت الكلمة، وما هذا التتبع دائما بصيح في اللهجات الدارجة،
فهناك كلمات اخترعها أهلها من أصوات أو صاغوها من كلمات اجنبية او من اسماء الحيوانات
مثل: (نده) جاءت من اسم الكلب: ندهان: قال محمد بن هويدي من أهل المجمعة:
(اخرج لخرجك كنك الكلب ندهان واقعد على الساقي وقشم هبيد) او مثل (عفص) واحسبه الكافين ولازلت.. ويقول
العبودي: (العفص عقار على هيئة حبوب كان يأتي الينا من خارج بلادنا، وكنا نخلطه مع
الحبر الأسود من أجل ان يكون لون الحبر أسود فاحماً ذا مظهر أملس).
وقلت ان العبودي في معجمه هذا يذكرني بالزبيدي
في تاجه، لماذا؟ لأنني وجدت تاج العروس يحوي مادة تاريخية لا تقدر بثمن، وقد استخرجت
منه مواد تاريخية تخص تاريخ اليمامة في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان التاج عونا لي
في تفسير كثير من النصوص التاريخية القديمة، ومعجم العبودي يشبه التاج، فلن يستغني
عنه من يدرس التاريخ المحلي للبلاد السعودية، او من يتصدى لتاريخ نجد منذ القرن الثاني
عشر المحلي للبلاد السعودية، أو من يتصدى لتاريخ نجد منذ القرن الثاني عشر وما بعده،
ولعلي لا اكون مبالغا عندما اقول: ان معجم (كلمات قضت) يشكل مفتاحا لمغاليق كثيرة تتردد
في مصادرنا المحلية المدون منها والشفاهي.
وقد أحسنت دارة الملك عبدالعزيز في دعم
مثل هذا العمل الذي يقيد تراثا لغويا درس او كاد، وهو تراث لصيق بالحياة العامة لأهل
نجد لعقود او قرون طويلة، وهو تراث يجب العناية به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق