2015/01/28

ظواهر لهجية لا لهجات ـــ د.عبد الإله نبهان


لا تخطئ عين الناظر في المعجم العربي وكتب النحو وكتب شروح الشعر القديم أو الكتب المبسوطة في القراءات القرآنية مثلَ هذه العبارات:وهي لغة تميم.. وهذه لغة الأزد.. وتنسب إلى أزد شنوءة وهذه "ما" الحجازية... فإذا أحبّ أن يتقصى الأمر إلى حدوده البعيدة قدّمت له كتب "فقه اللغة العربية" المصنّفة حديثاً ثبتاً لما كتب من دراسات مستقلّة في كل لهجة من اللهجات القديمة، فهذان كتابان في لهجة تميم(1)، وتلك أطروحة جامعية في لهجة طيء(2)، وذاك كتاب كبير في "اللهجات العربية في التراث"(3)، وهذا فصل من كتاب في لهجة تميم(4).. ثم يبرز أمامه معجم حديث نخل المعجمات القديمة واستخرج مافيها من الألفاظ المنسوبة إلى قبائل بأعيانها، فتجد فيه جميع مانصّت عليه المعجمات القديمة بأنه من لغة جرهم أو تميم أو الأزد أو أهل اليمن أو كنانة أو الأشعريين أوهذيل أوثقيف أو قريش(5).. وهكذا.. فهل يوحي هذا -أي تلك الدراسات وهذا المعجم- بأن اللهجات العربية القديمة قد جمعت ودرست وبُيّنت خصائص كل لهجة على حدة؟




إنَّ الجواب حسب المعطيات الظاهرة يجب أن يكون بالإيجاب، وذلك لأنك عندما ترى بحثاً مطبوعاً بعنوان "لهجة تميم" مثلاً، تتصوّر وجود مادةٍ تامّة ودراسة مكتملة قام بها الباحث صاحب الكتاب ليقدم معلوماتٍ مؤكدة وصورةً واضحةً عن اللهجة التي هي موضوع البحث.. لكنك ما إن تفحص هذه الدراسات التي تناولت اللهجات القديمة، وتنظر إليها بعين النقد، وتجيل فكرك في معطياتها وتناقش طريقة معالجتها للمادة اللغوية، حتّى تُحسَّ أن لَبْساً ما في هذه الدراسات.. وانّ مايقدّم إليك إنما هو ظواهر لهجية وليس لهجة، ويمكن أن أبيّن صحة هذا الادّعاء فيمايلي من البحث.
أطلق قدماؤنا على اللهجة مصطلح "اللغة"(6) فإذا قالوا: لغة تميم أو عُمان أو الأزد فإنما يعنون بذلك لهجة تميم أو عُمان أو... غير أن استعمال المصطلح تحدّد في عصرنا فأصبحت العلاقة بين اللغة واللهجة هي علاقة العام بالخاص، فاللهجة خاصة واللغة عامة، وبناءً عليه فإن عدداً من اللهجات يمكن أن ينتمي إلى لغة واحدة، ويمكن أن تعرّف اللهجة بأنّها "مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة"(7) ولن نلتفت هنا إلى رأي بعض اللغويين الذين اتجهوا إلى إنكار اللهجات(8)، لأننا نرى في إنكار وجود اللهجات ضرباً من المغالطة والمكابرة، لأن الواقع اللغوي التاريخي والواقع اللغوي الحالي الذي هو امتداد على نحوٍ ما للتاريخي يؤكد وجود الظواهر اللهجية في العربية وفي غيرها من اللغات أيضاً(9)، وقد أيّد ذلك أنطوان ماييه بقوله:"من حقنا أن نتكلم عن وجود لهجات، كلّما رأينا عدداً من الخطوط التي تفصل بين الخصائص ينطبق بعضها على بعض ولو بشكل تقريبيّ، فهناك لهجة محددة في كل منطقة يلاحظ فيها وجود خصائص مشتركة، وحتى عندما لا يمكن رسم خطوط دقيقة للفصل بين منطقتين متجاورتين، فإنه يبقى أن كلاًّ منهما تتميز في مجموعها ببعض السمات العامة التي لا توجد في الأخرى"(10) .أما العلاقة بين اللهجة واللغة فهي علاقة الخاص بالعام كما أشرنا "لأن بيئة اللهجة هي جزء من بيئةٍ أوسع وأشمل تضّم عدة لهجات، لكلٍ منها خصائصها، ولكنها تشترك جميعاً في مجموعة الظواهر اللغوية التي تيسر اتصال أفراد هذه البيئات بعضهم ببعض وفهم ماقد يدور بينهم من حديث فهماً يتوقف على قدْر الرابطة التي تربط بين هذه اللغات "اللهجات" وتلك البيئة الشاملة التي تتألف من عدة لهجات هي التي اصطلح على تسميتها باللغة، فاللغة تشتمل عادةً على عدة لهجات لكل منها مايميزها، وجميع هذه اللهجات تشترك في مجموعة من الصفات اللغوية والعادات الكلامية التي تؤلف لغة مستقلة عن غيرها من اللغات"(11).



وتشير كتب "فقه اللغة" عندما تبحث في اللهجات القديمة إلى لهجة قبيلة ما أو منطقةٍ ما، وأعتقد أن الأمر أضيق من ذلك، بمعنى أن ما يسمونه "لغة أهل الحجاز"  أو "لغة يمانيةأو" لغة تميمية" ربما كان لهجة جانب من اليمن أو ناحية من نواحي الحجاز، أو بعض قبائل من "تميم"، فكما أنه لا يجوز علمياً أن نقول لهجة سورية أو مصرية فإني أتصور أنه لا يجوز أن نقول لهجة الحجاز ولا لهجة اليمن.. لأن في سورية عدداً كبيراً من اللهجات، فكل مدينة لها لهجتها، ثم هناك لهجات القرى ولهجات البدو.. ومن هنا يظهر اخفاق المحاولات التي جرت للتقعيد لما سمّي بالعامية السورية(12) مثلاً وذلك نظراً لعدم وجود مايسمّى بالعامية السورية.. وقياساً للغائب على الشاهد نقول إنه لا يمكن أن يكون للحجاز لغة " لهجة" واحدة نظراً لاتساعه، ولا يمكن أن يكون التميميون في العصر الذي جمعت فيه اللغة على لهجة واحدة نظراً لانتشار تميم في أصقاع متباعدة وسكناها في مدن مختلفة واختلاطها بشتى القبائل العربية وغيرها(13).. هذه بعض الموانع على المستوى النظري تجعلنا نرى فيما يطلق عليه "لغة الحجاز" أو "لغة الأزد" أو ماشابه ذلك تعميماً لايمكن إقراره علمياً.



نعود الآن إلى الطريقة التي جمعت فيها موادّ هذه اللهجات وسجلت ظواهرها فنقول: إن اللهجات القديمة لم تُجمع إذ لم يقصد أحد لجمعها، فنحن نعرف مثلاً أن أبا سعيد السكري(14) جمع ديوان هذيل وفسّره، لكنّ السكري لم يجمع لهجة هذيل في مدوّنة ولا كان يقصد إلى ذلك.. كلّ ما في الأمر أن الشعر الذي جمعه السكريّ  ورواه وردت فيه ظواهر لغوية نسبت إلى هذيل.. فهل يجوز أن نستند إلى هذه الظواهر المحددة لنطلق عليها لهجة هذيل مع العلم أن الشعر المجموع قد ورد بالعربية الفصحى..؟‍‍       ‍!



وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي(15) قد صنف كتاب العين، ونصّ فيه على المهمل والمستعمل في لغة العرب، وأورد فيه شواهد كثيرة من كلام العرب وأمثالهم وشعرهم وعلى مثاله سار المعجميون من بعده، سواء اتبعوا طريقته في الترتيب أو خالفوا ذلك.. المهم في الأمر أن محاولة الجمع والاستيعاب للغة مع مراعاة ترتيب مااشتملت على ذكرٍ للهجات التي كانت تسمّى "لغات" لكنّ هذه اللهجات كانت تُذكر عَرَضاً بمناسبة ورود شاهد أو ذكر مثل أو قراءة  قرآنية، ومع كثرة المعجمات العربية القديمة واتساعها فإننا لا نعرف معجماً خصص للهجةٍ من اللهجات، بل إن ماذكر في المعجمات المتقدمة من اللهجات أخذ يتكرر في المعجمات اللاحقة من غير ما إضافةٍ ذات فائدة وكذلك الأمر في كتب النحو ومطولاته وكتب تفسير القرآن الكريم، بمعنى أن الشاهد الذي ينتهي للهجةٍ معينة يتعاوره النحاة ويدور في كتبهم، فنحن مثلاً نجد البيت:
فقلت ادعُ أخرى و ارفع الصوت جهرةً
لعلّ أبي المغوار منك قريب(16)
في معظم كتب النحو واللغة شاهداً على الجر بـ"لعل" في لهجة عُقيل، كذلك نجدهم يوردون بيت الفرزدق:
كم عمةً لك ياجرير وخالةً
فدعاء قد حلبت عليّ عشاري(17)
وذلك بنصب تمييزكم الخبرية على مقتضى اللهجة التميمية، ويقولون إن طيئاً تقول:"حَوْثُ" (18) في حيث، وإن بعض العرب يورد الظرف المبنيّ "حيث" معرباً. وهنا يوردون قراءة مَنْ قرأ (من حَيْثِ لا يعلمون)(19) وهذه الشواهد تتكرر، وقد يوهم تكرُرها كثرتَها، لكنها في حقيقة الأمر محدودة محصورة بمواضع.

إن سبب محدودية ذكر اللهجات والاقتصاد في إيرادها يعود إلى أن اللغويين اتجهوا إلى جمع اللغة الفصحى، واتجه النحاة إلى التقعيد لها متمثلةً على نحوٍ خاص لديهم في عربية القرآن الكريم، وماكان لهم أن يلتفتوا عن ذلك إذ لاأسباب تدعو ولا موجبات توجب، فما الذي يدعوهم مثلاً لجمع مدوّنة لهجية لهذيل أوطيء؟! إنما تهمهم هذه الفصحى التي هي خلاصة نقيّة، وذروة لما انتهت إليه اللهجات المتعددة في تطورها الطويل(20)، لقد تجلّت في لغة واحدة هي أشد نصاعةً وصفاءً ودقّةً من اللهجات المتباينة، وبها تخاطبوا في محافلهم ودوّنوا علومهم.. لذلك نجد أنّ كل ماورد لدى اللغويين والنحاة مما له علاقة باللهجات إنما ورد عرضاً في سياقٍ يقتضيه، ولم يقصدوا إليها قصداً.. فإذا ما أراد احدهم تفسير كلمة(زقا) أورد قراءة ابن مسعود (إن كانت إلاّ زقيةً)(21) وهنا يقولون: الزقية هي الصيحة بلغة هذيل.. ولولا هذه القراءة لما نصّوا على معنى الزقية في لغة هذيل ولا التفتوا إليه.. وقل مثل ذلك عندما يمروّن بالآية(ماهذا بَشَراً)(22) برفع(بشر) ونصبها، فإنهم يتحدثون عن(ما) تميمية وأخرى حجازية...



إن الدراسة العلمية للهجةٍ من اللهجات إنما تعتمد المنهج اللغوي الوصفي التحليلي الذي يستهدف تسجيل أهم الظواهر اللغوية لهذه اللهجة وذلك من النواحي النحوية والصرفية والصوتية ومواضع النبر.. وتشرحها وتوضحها وتضع لها منظومة قاعدية مستنبطة منها مع دعم ذلك بالتعليلات الممكنة للظاهرة، ومثل هذه الدراسة تتطلب الملاحظة المباشرة مما يقتضي الاختلاط بالناطقين بهذه اللهجة في مجالسهم وأسواقهم ومشاهدهم واختيار الراوي أو بالأحرى الرواة الذين عنهم تُتلقى اللهجة وتسجّل في أشرطة التسجيل.. وإذا كان موضوع الدراسة لهجة عربية معاصرة فإنه يمكن مقارنة هذه اللهجة بالعربية الفصيحة من حيث الأصوات وتركيب الجملة والقلب والإتباع لينظر مدى التوافق والتقارب ومدى الاختلاف والتباين.. أو ليرى فيما إذا كانت هناك صفة عامة أوصفات في هذه اللهجة قد حفظ مايشابهها من اللهجات العربية القديمة في ظواهرها المحفوظة مما يدعو إلى القول حينئذٍ إن اللهجة المعاصرة ذات أصول تمتد إلى تلك اللهجة القديمة..

يفهم من كل ما تقدم أن الدراسة المنهجية للهجةٍ من اللهجات إنما تنصبّ على لهجةٍ حيّة تتكلمها مجموعة بشرية في زمن معين ومنطقة محددة، فكيف إذن تُقدَّم لنا الدراسات عن لهجات قبائل أصبح وجودها تاريخياً(23) ولم يبق من لهجاتها إلا ظواهر حظيت بالتسجيل غير الدقيق مصادفة من غير ما قصْد؟! أيمكن أن تكون تلك الدراسات في صميمها مطابقة لما يوضع من عناوين؟!



لبيان هذا الأمر يمكن ان نختار دراسةً من تلك الدراسات التاريخية للهجات وننظر فيها ثم نعرض لدراسة حديثة للهجة ما تزال قائمة لنرى الفرق بين الدراستين. وقد اخترت دراسة منشورة في كتاب هي "لهجة تميم وأثرها في العربية الموحدة"(24) لا لأعرضها وإنما لأقف لدن مفاصل منها معلقاً حيث يستحسن ذلك.

ذهب الدارس مستعيناً بمصادره محتجاً بها إلى أن القراءات القرآنية "كانت مصدراً أصيلاً من مصادر دراسة اللهجات العربية القديمة ذلك انها تكاد تكون المرآة العاكسة لما كان عليه الواقع اللغوي في الجزيرة العربية قبيل الإسلام وبُعيده"(25) ومع ان هذا الكلام ليس لصاحب الدراسة فإنه يتبناه على مافيه من تعميم وإنشائية وبُعْدٍ عن المنهجية التي تقتضي الاستقراء، وإني لأتساءل كيف يمكن أن تكون مرآة عاكسة في شبه قارّة فيها عشرات القبائل المتباعدة في المكان واللهجة.. إضافة إلى أن بعض هؤلاء القراء يقرؤون بقراءات لا علاقة لها بلهجة بيئتهم.. ومثّل الباحث لهذا الأمر بعبد الله بن كثير المكي(27) الذي كان يهمز في حين أن لهجة أهل مكة لا تعرف الهمز، ثم أورد قراءات لقراء مختلفين وردت على لهجة بني تميم منهم عبد الله ابن مسعود(28) أورد له في  قراءته أربعة مواضع على لهجة تميم مع انه هذليّ، وأورد لعاصم بن بهدلة(29) خمس قراءات في خمسة مواضع.. ثم ذكر أحد عشر موضعاً لقراءٍ مختلفين على لهجة تميم.. واختار الباحث مجموعة من كتب القراءات والتفسير وقدم لنا إحصاءً عن المواضع التي ذكرت فيها لهجة تميم. فقد ذكرت ثلاث عشرة مرّة في كتاب "لغات القرآن" لابن حسنون(30) ومثلها في كتاب "ماورد في القرآن الكريم من لغات القبائل" للقاسم بن سلام(31)، وست مرات في" مختصر شواذ القرآن" لابن خالويه(32) وإحدى عشرة مرة في"المحتسب" لابن جني(33) وست مرات في الكشاف للزمخشري(34) وثلاثين مرّة في "زاد المسير" لابن الجوزي(35) وثماني وأربعين مرة في"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(36).. فهل تكفي مثل هذه القراءات المنسوبة إلى لهجة تميم لتكون"مرآة عاكسة" ؟!!



وانتقل الباحث ليتحدث عن لهجة تميم في شعراء بني تميم، فوجد نفسه أمام شعر قيل بالعربية الفصحى فرأى أنه من الصعب تتبع اللهجة في شعر بني تميم "لأن هذا الشعر لم ينظم بلهجة بعينها وإنما بالعربية الأدبية، فإذا كان لابّد للشاعر أن يتأثر بلغة بيئته فإن ذلك التأثر يبقى محدوداً جداً، إضافةً إلى أنّ هذا الشعر جاء مكتوباً، وذلك يعني اختفاء كثير من الميول اللهجية فيه كالإمالة والحركات التي تميل إليها لهجة الشاعر"(37) وبناءً على ذلك "فإنه يكون من الصعب جداً البحث عن خصائص لهجة تميم في أشعار التميميين كعبدة بن الطبيب وعلقمة الفحل وجرير والفرزدق أو غيرهم من الشعراء لأنّ أشعار هؤلاء جميعاً نظمت بالعربية الأدبية.."(38) ورأى أن فن الرجز الذي هو أقرب إلى الأشعار الشعبية تظهر فيه بعض الخصائص اللهجية "ومن ثَمَّ أمكن القول إن أرجاز رؤبة والعجَّاج قد تكون ذات نصيبٍ حسن في الألفاظ التميمية غير أنّ من الصعوبة بمكان تحديد هذه الألفاظ، ذلك أنها وصلتنا بلا عزْو مما يعني أننا لا نستطيعُ الركونَ إليها في دراستنا... ويبدو أنَّ كلَّ ما نستطيع الركون إليه منها ذلك الذي ورد في كتب الأقدمين معزواً إلى لهجة تميم.."(39) وضرب بعذ ذلك سبعة أمثلة وردت فيها ألفاظ نُصَّ عليها على أنها تميمية كقول العجاج.
وأنزفَ العَبْرَةَ مَنْ لاقى العِبَرْ
قالوا: أنزف لغة تميم، وأهل الحجاز يقولون: نزف(40)
ثم ذكر أن بعض الشعراء من غير التميميين (استعملوا اللهجة التميمية في أشعارهم)(41) وضرب ثلاثة أمثلة وعلل هذه الظواهر بأنّ هذه الألفاظ التميمية صارت جزءاً من العربية الأدبية وذلك نظراً لانتشار التميمية وتأثر الشعراء النجديين وخلص إلى مايلي" وخلاصة القول أنه لايمكننا الركون إلى الشعر في دراسة اللهجات ومنها لهجة تميم، ذلك أنّ هذا الشعرلايمثّل لهجةٍ بعينها وإنما انتشرت فيه خصائص لهجات كثيرة، وإذا كان لنا أن نركن إليه فليس إلا للقليل منه الذي عزا القدماء ألفاظه إلى لهجات بعينها.."(42)

وفي الفصل الذي عقده عن الأصوات الصامتة في اللهجة التميمية وجد أنّ أهمّ ظواهر الأصوات الحلقية في هذه اللهجة هي تحقيق الهمز والمبالغة فيه، كذلك هناك ظاهرة "العنعنة" أي قلب الهمزة عيناً كما في قولهم: أعَنْ = أأن، وأشار إلى ظاهرة إبدال الهمزة من كلّ واوٍ مكسورة كقولهم في وسادة: إسادة، وفي وعاء: إعاء(44). ومن هذه الظواهر قلب السين صاداً في طائفة من الألفاظ: سراط = صراط. سيقل = صيقل. سخب = صخب(45).. وهذه الظاهرةالأخيرة لم تنسب إلى تميم على نحو عام وإنما نسبها بعضهم إلى بني العنبر من تميم وبعضهم إلى عمرو بن تميم... وطبيعي أنني لن أقف لدن كل عنوان في الدراسة ولكني سأخص الجيم والشين بشيء من الكلام: رأى الباحث أن الجيم "لم تتخذ في لهجة تميم وضعاً مستقراً فهي تارةً جيم عربية، وأخرى تنزع إلى أن تكون شيناً، وثالثة تكون فيها ياءً "(46) ويعلل الباحث عدم استقرار الجيم في لهجة تميم بقوله:"إنها ورثت ذلك من اللغات الساميّة" (47) وذكر أن قلب الجيم شيئاً وصل في شاهد واحد، أما قلب الياء جيماً فقد نسب إلى بني سعدمن تميم أو ناس من تميم، ولايتمّ هذا إلا بالوقف، ومثّل له بالأبيات المشهورة في كتب اللغة:
خالي عُويفٌ وأبو عَلِجِّ
المطعمان اللحم بالعشجِّ

وبالغداة فِلقَ البَرنِجِّ
يُقطع بالود والصَّيصجِّ (48)

ولن أقف عند ظاهرة الكشكشة لانها مختلفٌ فيها على نحوٍ كبير، فقد ضاعت أصواتها وبقيت صورتها في كتابات اللغويين الذين يكتبونها شيئاً، وربما كانت في حقيقتها بين الكاف والشين.. وليس لدينا رمزٌ كتابيّ يؤدي هذا الصوت...

وانتهى الباحث إلى أنّ لهجة تميم كانت تميل باطّراد إلى تجانس الأصوات مما أدّى إلى ظهور طائفة من الظواهر اللغوية كالإتباع والإمالة والمعاقبة وكسر حرف المضارعة وقلب السين صاداً والجيم ياءً.. وعلل تأثر الأصوات بعضها ببعض بسرعة بني تميم في كلامهم وهي صفة عرفت عن لهجات أهل البادية عامة..

وتناولت الدراسة الحركات في لهجة تميم فبحث في الإتباع الذي يعني أن بعض الحركات تؤثر في بعض "وهي ظاهرة من ظواهر التطور في حركات الكلمات فالكلمة التي تشتمل على حركات متباينة تميل في تطورها إلى الانسجام بين الحركات حتى لا ينتقل اللسان من ضم إلى كسرٍ إلى فتح في الحركات المتوالية وعلى هذا الأساس فإن هذه الظاهرة تدخل في باب المماثلة أيضاً "(49) وقد وجد الباحث هذه الظاهرة في لهجة تميم وذلك بنصّ سيبويه:"... في لغة تميم وذلك قولك: لِئيم بكسر اللام وشِهيد وسِعيد ونِحيف ورِغِيف وبِخيل وشِهِد بكسر الشين والهاء- ولِعِب وضِحِك .. أما أهل الحجاز فيجرون جميع ذلك على القياس"(50) ورأى الباحث أنّ سبب اطراد الإتباع في هذه الألفاظ هو وجود حروف الحلق فيها.. أما في صيغة فُعالى مثل سُكارى وكُسالى وغُيارى فإن بني تميم يُتْبعون الفتحة الفتحة فيقولون: سَكارى وكَسالى وغَيارى.. إلاّ أنّ ذلك لا يطّرد لانّ "الإتباع عنذ تميم في حالات إتباع الضمة الضمة أو الفتحة الفتحة كان بهذه الألفاظ بعينها وليس ظاهرة عامة"(51). ويحدثنا الباحث عن الإمالةفي اللهجة التميمية دون تحديد واضح لمواضع الإمالة فيها ، بل إنه يذكر أسباب الإمالة وموانعها كما ذكرها سيبويه مكتفياً بذلك.. ثم يحدثنا عن كسر حرف المضارعة سوى الياء في الثلاثي المبنيّ للفاعل إذا كان الماضي على "فعِل" -بكسر العين- وذلك في لهجة تميم وكل اللهجات العربية القديمة إلا لهجة الحجاز كما يقول. وبناء على هذا فإن تميماً يقول: أنا إِعلمُ ونحن نِعلمُ وانت تِعْلمُ.. لكنّ هذه الظاهرة كمانص الباحث نفسه غير خاصة بتميم فلا خصوصية لها بها.. اما في باب المعاقبة فإن تميماً تجنح إلى الياء بوجه عام مقابل جنوح أهل الحجاز إلى الواو، وتعني المعاقبة الحالات التي تتعاقب فيها الياء مع الواو في العربية الفصحى كما في: طِيبى = طُوبى.. فبنو تميم يقولون: فليت البرَّ أقليه قلياً وأهل الحجاز يقولون قلوته أقلوه قلواً.. وتميم تقول: القصيا وأهل الحجاز يقولون: القصوى، وتميم تقول: ييجل ييجع والحجازيون يقولون: يوجل يوجع .وينقل تفسير سيبويه لهذه الظاهرة باستثقال التميميين الواو التي بعد الياء المفتوحة وكراهتهم قلب الواو ياءً من غير كسر ماقبلها، لكنّ الباحث مايلبث أن يستدرك بأنه وجد أمثلة أخرى تميل فيها تميم إلى الواو في المعاقبة بينما يميل أهل الحجاز إلى الياء، فالتميميون يقولون: قَلنْسُوة والحجازيون يقولون: قلنسية ، كما أن بعضهم نسب"حَوْثُ = حيث" بالواو إلى تميم. وتقول تميم: ضحوت للشمس أضحو إذا برزت لها، وغيرهم يقول: ضحيت... الخ ويخلص إلى تصورٍ مفاده أنّ تميماً تميل إلى الكسر كما في: مِطرف ومِصحف ومِغزل ومِجسد والوِتْر والوِلاية. لكن هذه الأمثلة لاتخص تميماً كافةً، فمها مانسب إلى بني يربوع من تميم ومنها مانسب إلى بني سعد منها أيضاً.

والطريف في الأمر هنا أن الدكتور إبراهيم أنيس(52) والدكتور أحمد علم الدين الجندي(53) من بعده كانا قد استنتجا قبل الباحث المطّلبي أن لهجة تميم تنزع في أغلب الأحيان إلى الضم واستدلال على ذلك بطائفةٍ من الألفاظ التميمية المضمومة الفاء أو العين قابلاً بها طائفةً من الألفاظ الحجازية المكسورة أو المفتوحة وفسّرا ذلك بأن البدو بطبيعة حياتهم يميلون إلى الخشونة وأن الضمّ من الخشونة(54) .. وعلق المطلبي على هذا الرأي بقوله "والواضح أنّ هذا التعليل تعليل منطقي يخرج عن التعليل اللغوي الذي يرى أنّ للغة منطقها الخاصّ بها(55)

فنحن نرى هنا ان دارسي اللهجة نفسها يختلفون في إقرار ظاهرة هامة وأساسية تتعلق بميل اللهجة إلى الضم أو الكسر، وكل منهم له شواهد تدعم رأيه.. ومثل هذا الموقف يوحي ضمناً بأن هذه الدراسات اجتهادية غير موضوعية، وأن المادةَ موضوع الاستقراء والاستنباط مشتقةٌ وغير دقيقة، وهذا يعني غياب المدوّنة اللهجية التي يمكن بموجبها بناء الأحكام وتوثيقها.. فإذا ماانتقلنا إلى مبحث الأفعال ومباحث الصرف فإننا نجد الواقعات نفسها.. ففي مبحث النبر يرى الباحث أنّ مبحث النبر في لهجة تميم لايمكن أن يكون دقيقاً "لاننا لانستطيع ادّعاء وضوح سمعيّ في كلمات وصيغ وصلتنا مكتوبة"(56)

وفي مبحث الخصائص النحوية جمع الباحث ماورد في كتب النحاة من أحكام تتعلق بما نسب إلى لهجة تميم مما له علاقة بالإعراب والبناء أو المنع من الصرف أو تصريف هلمّ على: هلما، هلموا ، هلممن.. لكنّ تصريفها هذا ليس وقفاً على التميمية إنها لغة أهل نجد أيضاً..



ومن الأحكام التي يجب التوقف عندها والتنبه إليها ماذهب إليه الباحث بأن تميماً تنصب الجزأين(المبتدأ والخبر) بـ "إن وأخواتها" وأورد في ذلك ثلاثة شواهد من الشعر أولها قوله:

إذا اسودَّ جنح الليل فلتأتِ ولتكنْ
خُطاكَ خفافاً إن حرّاسنا أُسدا (57)

وثانيها قول الآخر
قد طرقت ليلى بليْلٍِ هاجعا
ياليت أيّام الصبا رواجعا (58)

وثالثها قوله:


كأنّ أذنيْه إذا تشوّفا

قادمةً أو قلماً محرَّفا(59)

وعلّق على هذه الشواهد بقوله:" ولا نستطيع تعليل نصب الجزأين عندهم إلا بكونه اسلوباً لهجياً خاصاً، ويظهر أنّ هذا الأسلوب كان قليل الاستعمال وربما كان محدوداً ببعض التميميين ذلك لأنه لم يصل إلينا سوى هذه الأمثلة القليلة التي لايمكن أن تكون دليلاً على استعمالٍ واسع كما ان بين أيدينا من أشعار التميميين يوضح حقيقة أنهم لم يستعملوا هذا الأسلوب في أشعارهم" (60)

وأرى أن مثل هذا الأسلوب لايجوز حمله على التميمية ولا على غيرها، وإنه حريّ أن يحمل على الضرورة التي تحفظ ولايقاس عليها ولاسيما أن أخبار "إن وأخواتها" في هذه الشواهد جاءت كلها في قصائد منصوبة الرويّ فنصبت، ولا يمكن أن ننسب مثل هذا الشذوذ إلى لهجة بني تميم، لأن قوانين اللهجة لا توضع بتصيّد شاهد من هنا واقتناص عبارة من هناك.. وإن دراسة اللهجة لايكون مرجعها الشعر وإنما هو واحد من مراجعها.. ويؤخذ الشعر بجمهوره وبالخصائص الغالبة فيه لا بما وقع فيه الاضطرار وألجأت إليه ضرورات الشعر ومضايقه،  فإذن لا يمكن الأخذ بهذه الأبيات شواهد على نصب أسماء إن وأخبارها لا في لهجة تميم ولا غيرها 

أما على مستوى دلالة الألفاظ فقد اختصت اللهجة التميمية بان بعض الألفاظ وردت فيها بدلالة معينة تخالف ماوردت عليه في لهجات أُخَر، وهذا أمرٌ طبيعي، مع وجوب الإشارة إلى أن هذه الألفاظ صالحة لان يُبْحَثُ فيها من حيث اختصاصها بالتميمية أو اشتراكها بينها وبين غيرها أو كونها مما اشتملت عليه العربية الفصحى..

نخلص من هذا كلّه إلى أنّ دراسة هذه اللهجة القديمة التي خصّتها المصادر بعناية لم تحظ بها غيرها قد جاءت ناقصة مبتورة متناقضة مع غيرها، فشعر تميم لا يمكن الاعتماد عليه ونبرها لا يمكن دراسته، والأحكام المستنبطة هي أحكام احتمالية.. فكيف يسوغ لنا أن نسمّي هذا الفتات لهجةً؟‍!

أليس من الأقرب للصحة والمنهجية أن نسمّي الدراسة بـ"ظواهر لغوية في لهجة تميم"..

ويمكن أن ننتقل الآن لنلقي نظرة متفحصة على دراسة لهجية منهجية للهجةٍ معاصرة لأحياءٍ يعيشون في أيامنا، وبين يديّ على سبيل المصادفة دراسة في "لهجة شمال المغرب: تطوان وماحولها"(61) مع معجمٍ لهذه اللهجة طبع مستقلاً عنها، ولديّ دراسة أخرى هي "لهجة البدو في إقليم ساحل مريوط"(62) وسأختار الثانية للحديث عنها.

دراسة لهجة البدو في إقليم ساحل مربوط لم تعتمد إشاراتٍ وردت في الكتب ولا أقوالاً رددها الرواة ولا أحكاماً استنبطها النحاة و"هذه الإشارات لاتكفي في وصف لهجة"(63)

حدد الباحث منطقة البحث أولاً: إنها إقليم ساحل مربوط، وهي المنطقة الشمالية من صحراء مصر الغربية، وتمتدّ من غربي الإسكندرية حتى الحدود الفاصلة بين مصر وليبيا وتمتد شمالاً إلى البحر الأبيض المتوسط وجنوباً إلى هضبة الصحراء الليبية المعروفة بصحراء الدفة. وسكان هذه المنطقة هم قبائل بدوية مترابطة ماعدا قليلاً منهم، وهم يتسمَّون باسم كبرى قبائلهم "قبائل أولاد علي"(64).



هذه الدراسة قدمها الدكتور عبد العزيز مطر وقدم لها بقوله إنها "دراسة لغوية وصفية تحليلية تسجّل أهم الظواهر اللغوية للّهجة من النواحي الصوتية والصرفية والنحوية وتشرحها وتضع القواعد التي تخضع لها هذه الظواهر، وقد عللتُ لما أمكن تعليله منها وقارنت -بعد الوصف والشرح- أحياناً بين مسلك اللهجة ومسلك العربية الفصحى، أو بين مسلك اللهجة ومسلك غيرها من اللهجات العربية الحديثة والمنهج الذي سلكته في تسجيل اللهجة هو منهج الملاحظة المباشرة الخارجية بشكليها الإيجابي والسلبي، والملاحظة غير المباشرة عن طريق التسجيلات الصوتية التي قمت بها....

وقد اقتضاني جمع المادة اللغوية وتسجيل اللهجة أن أقيم بين هؤلاء البدو واتردد عليهم في فترات مختلفة خلال عامي1958-1959 وقد شملت زياراتي المنطقة كلها تقريباً من العامرية غربي الإسكندرية إلى السلوم التي تبعد عن الإسكندرية بستة وخمسمائة كيلومتر.. وفي هذه الزيارات اختلطت بالبدو وشهدت مجالسهم وأسواقهم وانتخبتُ منهم رواةً لغويين تلقيت عنهم اللهجة، وقد دوّنت في ملحق البحث اسم كلّ راوٍ وموطنه والقبلية التي ينتمي إليها والنص الذي تلقيته عنه"(65)، ثم درست المادة اللغوية ضمن ثلاث مراتب:



1-مرتبة الصوت
2-مرتبة الصرف
3-مرتبة النحو

فنحن إذن هنا أمام دراسة ميدانية عملية تعتمد السماع المباشر وتسجيله ثم تسلط على المادة مباضع البحث والاستنتاج، فمما نذكره من ذلك أن الباحث تطرق إلى وصف أصوات اللهجة حرفاً حرفاً كما سمعها وعاينها مستعيناً بمصطلحات علم الأصوات وبرموز كتابية وضحها في مقدماته، فهو يعرض لكل حرف ويحدد مخرجه ويذكر صفاته ويقدّم تعليقات مفيدة علىالحرف إذا كانت له وضعية ما في تلك اللهجة.. ففي حرف "الثاء" المثلثة ينصّ على أنّ بدو هذه المنطقة يستخدمون هذا الحرف فيقولون: يبعْث، يِحْرث،.. كْثير، ثوم، يثلث = ثالث على حين أن معظم اللهجات العربية المعاصرة قد تخلّت عن هذا الصوت مستبدلةً به التاء أو السين(66).. ويقول في حديثه عن "الجيم" إن جيم البدو في ساحل مربوط شديدة التعطيش وتشبه صوت الجيم في اللهجة العربية في سورية(67)، كما لا حظ أن البدو في هذه المنظقة قد احتفظوا بحرف الذال فهم يقولون: يذْبح، ياخِذ، يِكذْب، ذهب.. في حين نرى أنّ كثيراً من اللهجات العربية المعاصرة قد تخلصت من صوت الذال واستبدلت به الدال أو الزاي(68)....

ثم تحدث الباحث عن الإمالة في لهجة الإقليم المذكور مستخدماً أمثلة من لهجتهم مستنبطاً منها قواعدها.



وليس من غرضي عرض هذه الدراسة عرضاً استقصائياً وإنما اتجهت إلى الاكتفاء بالأمثلة الدالّة على الدراسة العلمية المنهجية ..

بعد أن عرض الباحث لنظام الجملة وصيغ الأفعال قدّم نصوصاً حيّة سمعها من بدو المنطقة، فالنص الأول رواه البدوي "زيات جاب الله" أمّي، عمره خمس وثلاثون سنة.. وكتب النص بلهجة البدوي كما نطقها، واستعان الكاتب على ذلك برموز فسّرها في أول كتابه، ثم أورد طائفة من الأمثال المتداولة في المنظقة ثم ذكر قصائد ومقطوعات نظمت باللهجة نفسها في مناسبات مختلفة.. وألحق الباحث ببحثه معجماً دلالياً للمفردات التي وردت في نصوص اللهجة التي دونها الباحث فكان يورد اللفظ كما ورد ويورد أصله العربي الفصيح ومعناه الذي ورد عليه في المعجمات. فمثلاً يذكر كلمة هَلْ. قال: يقولون "هَلي" أي أهلي، أسرتي، وأقاربي، وتأتي بمعنى أصحاب مثل "هلِي" أي أهلي، أسرتي، وأقاربي، وتأتي بمعخى أصحاب مثل "هلِ النجّع" وأصلها العربي " أهل" وجاءت في المعجمات للمعنيين. في الصحاح: الأهل: أهل الرجل وأهل الدار(69)..

وفي "ترس" يذكر استعمالهم: ترّاس مقابل: الراكب، يقولون:"فيرس وترّاس ما يترفعِوش" = فارس وراجل لا يترافقان. أي لا يتساويان.. وهنا علّق الدكتور مطر بقوله: أصل الترّاس في اللغة صاحب الترس الذي يستتر به في القتال، فربما أريد به أولاً مايقابل الفارسَ في الحرب، ثم أريد به مايقابل الفارس مطلقاً(70))..

وكان من نتائج هذا البحث أن قدم دراسة للهجةٍ حيّة مع محاولة ربطها بما عرف من ظواهر مماثلة في اللهجات العربية القديمة، فمن ذلك على سبيل المثال ماقدمه الباحث في وصف تراكيب لهجة ساحل مريوط:"الفعل المتقدم على المسند إليه الظاهر يشتمل في اللهجة على واو الجمع إن كان المسند إليه مذكر أو مثنىً مذكراً، وعلى نون النسوة إن كان المسند إليه جمع مؤنث أومثنىً مؤنثاً وهي اللهجة العربية القديمة المعروفة بلغة "أكلوني البراغيث" وقد رويت عن طيء أو أزدشنوءة، وربما كانت هذه اللغة من آثار اللغة الآرامية كما ذكر الدكتور أنيس فريحة"(71)..

المهمّ في الكلام أن الدراسة اللهجية لا يمكن أن تتم علمياً إلا بالمنهج الوصفي التحليلي مع الاستعانة بما يوفره تقدّم العلم من أدوات مُعِينة في البحث، لذلك رأينا الدراسات اللغوية للهجات المعاصرة تأتي مقنعةً في وصفها للهجة واستنباط قواعدها لأن ذلك إنما يتمّ استناداً إلى سماع مباشر وملاحظة شخصية، أما الدراسات اللغوية التي اتجهت دراسة اللهجات العربية القديمة وبذلت جهداً جهيداً في جمع المادة من الكتب وتصيّد الأحكام والشواهد فإنها جاءت قاصرة عن الغاية، عاجزة عن تصوير تلك اللهجة، إنها دراسات غير متكاملة تقتصر على تقديم ظواهر لهجية طفيفة رواها الرواة في الكتب، أو أشار إليها اللغويون والنحاة.. فالدارس لم يسمع اللهجة التي يدرسها ولا يملك مدوّنةً عنها.. لذلك ترى دارسي اللهجات العربية القديمة يناقض بعضهم بعضا كما رأينا في عزوهم تميماً إلى الميل إلى الضم، في حين أن بعضهم زعم أنها تميل إلى الكسر.. لذلك كله أرى أنه من باب الادّعاء أن نزعم أننا ندرس لهجة تميم أوطيء أو الحجاز أو غيرها وأنه علينا من باب العلم والتواضع فيه أن نقول إننا نجمع ماذُكر لنا من ظواهر هذه اللهجة القديمة أو تلك.. أي إن دراستنا لأي لهجة قديمة ستكون مجرد جمعٍ لما ذكرته المعاجم أوكتب شروح الشعر أو مطولات النحو.. وفرق كبير بين هذه الدراسة وبين الدراسة العلمية الميدانية، إضافةً إلى أنني أظنّ أنّ أي باحث في لهجات القبائل لا يستطيع أن يقدّم لنا نصاً في عدة أسطر مكتوباً أومنطوقاً باصوات اللهجة التي درسها لأنه في الأصل لم يسمعها ولا يمكن له أن يدرك إدراكاً شاملاً طبيعتها في الاستعمال. ولا أحب أن يفهم من هذا البحث أني أثبط الهمم عن دراسة اللهجات القديمة وأدعو إلى صرف النظر عنها، فهذا مما لا يخطر لي ببال، ولكنني أنبه وأشير إلى أن دراسة هذه اللهجات لا تعني ضبطها ولا الإحاطة بها وإنما هي تجميع أحكام وردت فيما يمس الظاهرة أو تجميع مفردات نسبت إلى هذه اللهجة أو تلك وهذا بعيد جداً عن الدراسة الحديثة التي تتجه إلى الدراسة الميدانية العملية للجهات.لذلك قلنا إنها ظواهر لهجية لا لهجات.

الإحالات والتعليقات



(1) صدر كتابان في لهجة تميم أولهما "لهجة تميم وأثرها في العربية الموحدة" لغالب فاضل المطلبي صدر عن وزارة الثقافة والفنون ببغداد سنة1978. والثاني صدر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة ولا أذكر مؤلفه ولا تاريخ نشره.
(2) هي أطروحة نال بها الدكتور عبد الفتاح محمد درجة الدكتوراه من جامعة دمشق.
(3) اللهجات العربية في التراث للدكتور أحمد علم الدين الجندي. صدر عن الدار العربية للكتاب بطرابلس بليبيا سنة1983 في مجلدين.
(4) انظر على سبيل المثال والأمصار للدكتور جميل سعيد والدكتور داود سلوم. صدر عن المجمع العلمي العراقي في مجلدين سنة1978 .
(6) هذا أمر شائع في معجمات اللغة والكتب اللغوية والنحوية القديمة. وانظر كتاب "فصول في فقه العربية" للدكتور رمضان عبد التواب ص74
(7) المرجع السابق: 72 وقد نقله وعزاه إلى كتاب في اللهجات العربية16 للدكتور إبراهيم أنيس.
(8) انظر المرجع السابق:71
(9) قال بيتر روتش: إن أحد الأمور التي يعرفها الجميع عن اللغات هو أن لها لهجات مختلفة، وتلفظ اللغات بشكل مختلف من قبل أشخاص في أماكن جغرافية مختلفة، ومن طبقات اجتماعية مختلفة وذوي أعمار مختلفة وخلفيات تعليمية مختلفة.
انظر كتاب الصوتيات وعلم الأصوات الكلامية في اللغة الإنكليز:8
(10) انظر "فصول في فقه العربية" :ص:71،72
(11) المرجع السابق: 72
(12) قام بهذه المحاولة عام1925 مارون غصن في كتاب سماه "حياة اللغات وموتها: اللغة العامية. نشر في المطبعة الكاثوليكية ببيروت1925 في60 صفحة.
(13) لهجة تميم: 39
(14) أبو سعيد السكري الحسن بن الحسين212-275هـ شرح ديوان الهذليين. ونشر هذا الشرح بتحقيق عبد الستار أحمد فراج ومراجعة محمود محمد شاكر بدار العروبة بالقاهرة /ب ت/
(15) كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي100-170هـ .وكتابه نشر تاماً بتحقيق الدكتور إبراهيم السامرائي والدكتور مهدي المخزومي وصدر عن دار الرشيد ببغداد
(16) البيت لكعب بن سعد الغنوي في رثاء أخيه أبي المغوار. انظر البيت في مغني اللبيب برقم525و809وخزانة الأدب370:4
(17) البيت في سيبويه 1 :253و293و295 وفي مغني اللبيب برقم337
(18) مغني اللبيب 176:1
(19) سورة الأعراف 182:7 وانظر مغني اللبيب 176:1
(20) انظر:"فصول في فقه العربية":76 ومابعدها 
(21) الآية "إن كانت إلا صيحة" سورة يس 29:36 قال صاحب اللسان: الزقية: الصيحة. روي عن ابن مسعود انه كان يقرأ "إن كانت إلا زقيةً واحدةً "
(22) سورة يوسف 31:12 . انظر معجم القراءات القرآنية 167:3
(23) بل إن ابن خلدون في أيامه لم يستطع أن يتقصّى القبائل العربية التي شاركت في الفتح ثم تحضرت واكتفى بأن قال :"....هؤلاء كلهم أنفقتهم الدولة الإسلامية العربية، فأكلتهم الأقطار المتباعدة، واستلحمتهم الوقائع المذكورة فلم يبق منهم عشير يعرف ولا قليل يذكر...عن كتاب لهجة شمال المغرب:42
(24) انظر التعليق رقم(1)
(25) لهجة تميم: 58
(26) إرشاد الفحول: 46و47
(27) عبد الله بن كثير المكي (40-120هـ) أحد القراء السبعة
(28) عبد الله بن مسعود الهذلي. صحابي. نظر إليه عمر يوماً وقال: وعاءٌ ملئ علماً توفي عام32هـ
(29) عاصم بن بهدلة: عاصم بن أبي النجود الكوفي، أحد القراء السبعة. توفي سنة127هـ
(30) ابن حسنون: عبد الله بن الحسين. توفي سنة386وكتابه "اللغات في القرآن" حققه الدكتور صلاح الدين المنجد ونشره بالقاهرة (مطبعة الرسالة1946) ثم نشر دار الكتاب الجديد ببيروت1972
(31) القاسم بن سلام: أبو عبيد الهروي من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه توفي سنة224هـ ولا أعرف كتابه المشار إليه.
 (32) ابن خالويه: الحسين بن أحمد. توفي سنة370هـ . وكتابه المشار إليه نشره برجستراسر في المطبعة الرحمانية بمصر سنة1934
(33) ابن جني: أبو الفتح عثمان بن جني. توفي ببغداد سنة392هـ. وكتابه(المحتسب) نشر في القاهرة بتحقيق علي النجدي ناصف ود.عبد الحليم النجار ود.عبد الفتاح اسماعيل شلبي سنة1386هـ.
(34) الزمخشري: محمود بن عمر (467 -538هـ.) وكتابه "الكشاف" له طبعات عديدة
(35) ابن الجوزي: عبد الرحمن بن علي. توفي عام597هـ . ونشر كتابه "تقويم اللسان" بتحقيق الدكتور عبد العزيز مطر بدار المعرفة بالقاهرة سنة1966
(36) القرطبي: محمد بن أحمد. توفي سنة671هـ . طبع تفسيره المذكور في دار الكتب المصرية بالقاهرة.
(37) لهجة تميم: 68
(38) المرجع السابق: 73
(40) المرجع السابق: 74
(41) المرجع السابق: 75
(42) المرجع السابق: 76
(43) يوردون في هذا الموضع شاهداً لذي الرمة. قال صاحب المغني1: 198: وذلك أن بني تميم يقولون في نحو "أعجبني أن تفعل: عن تفعل" قال ذو الرمة:

أعَنْ ترسَّمتَ من خرقاءَ منزلةً
ماء الصبابة من عينيك مسجوم

(44) وردت في قراءة ابن جبير في سورة يوسف12: 76. انظر معجم القراءات القرآنية3: 184
(45) انظر أمثلة كثيرة من هذا الضرب في كتاب الإبدال لأبي الطيب اللغوي2: 172 ومابعدها
(46) لهجة تميم: 97

(47) المرجع السابق: 97
(48) الرجز في كتاب الإبدال1: 257 وهو متداول في كتب النحو واللغة.
(49)لهجة تميم: 121
(50) المرجع السابق والموضع نفسه
(51) المرجع السابق: 124
(52) وذلك في كتابه" في اللهجات العربية"
(53) وذلك في كتابه"اللهجات العربية في التراث"
(54) عن كتاب لهجة تميم: 142
(55) المرجع السابق: 142
(56) المرجع السابق: 214
(57) البيت في مغني اللبيب برقم48
(58) الرجز في مغني اللبيب برقم522 وهو في سيبويه1: 284 وهو للعجاج
(59) الرجز في مغني اللبيب برقم344 قال محقق المغني: الرجز لمحمد بن ذؤيب العماني في وصف فرس وينسب لأبي نخيلة يعمر بي حزَن الحِمّاني(تـ145هـ) ولا يستشهد به لاضطراب الروايات ولتأخر قائله العماني عن زمن الاحتجاح..
(60) لهجة تميم: 252و253
(61) لهجة شمال المغرب "تطوان وماحولها" للدكتور عبد المنعم عبد العال. نشر بالقاهرة سنة1968 وصدر عن دار الكاتب العربي للطباعة والنشر. وعن الدار نفسها في العالم نفسه صدر "معجم شمال المغرب. تطوان وماحولها" للمؤلف نفسه(وزارة الثقافة)
(62) وهي دراسة للدكتور عبد العزيز مطر صدرت بالقاهرة سنة 1967 عن دار الكاتب العربي (وزارة الثقافة).
(63) لهجة البدو: 5
(64) المرجع السابق: 12
(65) المرجع السابق: 6
(66) المرجع السابق: 44
(67) المرجع السابق: 45
(68) المرجع السابق: 46
(69) المرجع السابق: 302
(70) المرجع السابق: 306
(71) المرجع السابق: 262


أهم مراجع البحث
-الإبدال. أبو الطيب اللغوي. تحقيق عز الدين التنوخي. المجتمع العلمي العربي بدمشق1960
-إرشاد الفحول إلى تحقيق من علم الأصول . محمد بن علي الشوكاني. مطبعة السعادة بمصر1327هـ
-حياة اللغات وموتها. الخوري مارون غصن-المطبعة الكاثوليكية. بيروت1925
-دراسات في فقه اللغة. د.صبحي الصالح. المكتبة الأهلية. بيروت1962



-الصوتيات وعلم الأصوات الكلامية. بيتر روتش. ترجمة خالد حداد. دار الرواد. حلب.ب ت في اللغة الإنكليز؛
-فصول في فقه العربية. د.رمضان عبد التواب. مكتبة الخانجي بالقاهرة1980
-لسان العرب. ابن منظور. طبعة دار صادر . ببيروت
-اللهجات العربية في التراث. د.أحمد علم الدين الجندي. ليبيا1983
-لهجة البدو في إقليم ساحل مريوط . د. عبد العزيز مطر. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة. وزارة الثقافة1967
-لهجة تميم وأثرها في العربية الموحّدة. غالب فاضل المطلبي. وزارة الثقافة والفنون. دار الحرية للطباعة. بغداد1978
-لهجة شمال المغرب "تطوان وماحولها" د. عبد المنعم سيد عبد العال. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة. وزارة الثقافة1968
-معجم لغات القبائل والأمطار. د. جميل سعيد و د. داود سلوم. المجمع العلمي العراقي1978
-معجم القراءات القرآنية.د.عبد العال سالم مكرم و د.أحمد مختار عمر. جامعة الكويت1982-1985
-مغني اللبيب. ابن هشام الأنصاري. تحقيق د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله ومراجعة سعيد الأفغاني
دار الفكر. دمشق - بيروت1979. طبعة خامسة.

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العددان 71 - 72 - السنة 18 - تموز "يوليو" 1998 - ربيع الأول 1418

ليست هناك تعليقات: