< ليضع المتشائمون أفكارهم على الرف، ولينصت محبو لغتنا العربية إلى الإحصاءات والتوقعات التي أفصح عنها عالم اللــسانيات الــغربي ديفيد غاردول في كتابه"ENGLISH FUTURE مستقبل الإنكليزية"، الصادر عن المجلس الإنكليزي في لندن قبل سنوات.
هذا الكتاب الذي أحدث ضجة واسعة حين صدوره، رسم صوراً بانورامية لواقع اللغات المتداولة خلال العقود القليلة المقبلة، فالإنكليزية لن تصبح لغة التخاطب المهيمنة منتصف القرن الحالي! بينما سيتضاعف عدد المتحدثين بالصينية إلى نحو ثلاثة أضعاف متحدثي اللغة الإنكليزية، بينما ستكون لغات الأوردو والإسبانية والعربية لحقت بالإنكليزية، وستخرج اللغة الفرنسية من السباق باكراً، والتوقعات تؤكد أنه بحلول عام 2050 سيتحدث باللغة العربية ما يتجاوز نصف بليون نسمة.
على رغم أن اللغة الإنكليزية تعد سهلة التراكيب والقواعد اللغوية، ولا تحتوي على حروف علة كثيرة مقارنة بلغات أخرى، فلقد لوحظ أن انتشارها يتناسب طردياً مع موت اللغات المحلية للمناطق التي تنتشر فيها. وقد يعزى ذلك إلى النفس الكولوني فيها، فالولايات المتحدة الأميركية وكندا واستراليا، وهي مستعمرات بريطانية سابقة، تحتوي على 8 في المئة، من لغات العالم الحية، إلا أنها وفي الجهة المقابلة، تشكل موطناً لأكثر من نصف اللغات المهددة بالانقراض.
ومن نعمة الله - عز وجل - على العربية أن جعل موطنها منطقة صحراوية جافة، فلقد أثبتت الدراسات أخيراً الترابط الحيوي المباشر بين الوسطين الإيكولوجي واللغوي على التوالي، إذ إن المناطق الغنية بحياة الثدييات والطيور والغابات الخضر تميل إلى أن تكون مجتمعاتها أكثر انعزالاً، ويقود هذا التقوقع الانتقائي إلى نموٍ وفير للغات المتنوعة. فغينيا الجديدة مثلاً تتباهى بـ832 لغة، بينما يوجد في إندونيسيا أكثر من700 لغة، وكلتاهما تقعان على خط الاستواء، حيث تتوافر بيئة إيكولوجية غنية.
على الجانب الآخر، تمر اللغة العربية ? حالياً - بمنصهر لغوي مشترك، قلما مرت به، سيؤدي في نهاية الأمر إلى ولادة وتطور لغة محكية عربية مشتركة، إذ تنصهر اللجهات العربية بشكل رائع ومميز.
إن الفضائيات العربية، ورسائل الجوال، وثروة الاتصال المشترك، والأجيال المتتالية من العمالة المتبادلة، ولغة الصحافة البسيطة، فضلاً عن السياحة العربية البينيّة، أدت إلى ذوبان الكلمات الإقليمية الشاذة، وانتشار كلمات أخرى، وبالتالي بروز"محكية"بسيطة، يستطيع الجميع من دون استثناء التعامل معها بسهولة تامة.
إن المتابع للغة التي تتجاذب بها النخب المثقفة أطراف الحديث، سواء في المؤتمرات العلمية أم الملتقيات الشعبية، يجدها ذات صبغة واحدة، كما أن مثال المداخلات والأسئلة في برامج الثرثرة التلفزيونية، يؤكد اتساع رقعة هذه المحكية من المحيط إلى الخليج.
والملاحظ أن لهجة المنطقة الغربية من السعودية اللهجة الحجازية هي المشروع الأول والمصغر لهذه"المحكية"الأمل. فهي نتاج تلاقح تلقائي بين اللهجات المحلية السعودية والعامية المصرية وبعض الكلمات المتفرقة من لهجات عربية أخرى، ذلك أن انفتاح تلك المناطق وتعرضها إلى سيل متواصل من الحجاج، أدى إلى تأثير واضح على المفردات والتراكيب اللغوية المستخدمة هناك.
يذكر أن الإعلانات التلفزيونية على شاشات الفضائيات بدأت أخيرًا في التركيز على هذه اللهجة، فهي الأسهل والأوضح والأقرب إلى الجميع.
لقد كان من المحال قبل عقود قليلة أن يفهم المغربي لغة الخليجي، أو السوري لهجة اليمني، فالمسافة بعيدة، والإغراق في الإقليمية كان سمةً منتشرة، إلا أن الأسباب أعلاه، فضلاً عن نمو هذه المحكية الجديدة، ساعدا في تقريب المسافات، وزيادة التواصل والفهم.
نحن في حاجة إلى دراسات علمية منهجية، تعتمد على المقارنة المحايدة، وتهدف إلى بناء أساس علمي نحوي مناسب للمحكية الجديدة، من دون التطرف بوضع قواعد وضوابط متشددة من الصعب الالتزام بها، فشباب الشارع العربي مشغول بالبحث عن هويته الضائعة، ولا مجال لتنفيره من لغته بتعقيد الأمور والبعد من الواقعية. ومن المعلوم أن اللغة شعار كل حضارة ناجحة، فبالأمس القريب كانت حضارتنا تضيء الطريق أمام الجميع، وكان نشاط حركة الترجمة من العربية إلى غيرها هو الأعم، بل وكان السباق على تعلّم لغتنا شديداً وذا منافسة عالية.
في نهاية الأمر، مجامع اللغة العربية تقع عليها مسؤولية كبيرة تجاه ولادة محكيتنا الجديدة، فإذا قدمت لها الرعاية والعناية المناسبتين نمت وتطورت، بل ساعدت في نهوض اللغة العربية الفصيحة من جديد، وأما إن تُركت فقد تموت قبل فطامها، ونعيد من جديد مسلسل البكاء والنحيب على لغة ضاعت مرتين.
* كاتب سعودي
asalsultan@jpihq.com.sa
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق