د.أحمد شامية - الجزائر
العربية لساننا، هويتنا، تاريخنا، عقيدتنا،اعتز بها آباؤنا وأجدادنا، واعتصموا بأسوارها للمحافظة على كيانهم، إنهم الركن الثابت المتين في حصن عروبتنا وديننا.
العصور وفي جميع المستويات السياسية و الاجتماعية والثقافية، فقد كان لساننا العربي الذي يوحدنا ويشد أزرنا ويحفظ تاريخنا وتراثنا، كان هذا اللسان من المعاقل الأولى التي تعرضت لمحاولات النسف والتدمير أو التشويه أو التزوير، فكان هم كل مستعمر أو غاز دخيل محاربة العربية وتكسر ذلك الدرع الواقي ليعرى جسد الأمة فيسهل اختراقه وتمزيقه.
كانت المحاولات كثيرة متنوعة أبسطها إدعاء أن العربية لم تعد لغة واحدة. ولم تعد الفصحى لغة الحياة الحقيقية، بل إن اللهجات المحلية أو الدارجة في كل قطر من الأقطار، إن لم نقل في كل ناحية أو مدينة هي اللغة التي ينبغي اعتمادها و التعامل بها وترسيمها، أضف إلى ذلك الدعوة إلى استعمال اللغات الأجنبية استعمالاً رسمياً وشعبياً. وكثيراً ما حاول المستعمرون فرض ذلك بالقوة، لكن العربية ظلت صادمة على الرغم مما لاقته ـ ليس من أعدائها فحسب بل من أهلها وذويها ـ من تقصير وعدم مبالاة، بل بتبني دعوة الأعداء أحياناً.
لكن إلى متى سنظل نغمض أعيننا ونغيب في سبات عميق كما فعلنا في مجالات أخرى مما جعلنا أمة ضعيفة أو مستضعفة تنوشها أسنة أعدائها فتنحني أو تتوارى أو تسقط.
هنا وفي حدود هذا المقال لا يتسع المجال لحث كل الجوانب وفي جميع المستويات لكننا سنقف باختصار على ما يسمى بإشكالية (الفصحى والعامية) أو (الفصحى واللهجات الدارجة) مكتفين بعدد من الأمثلة والشواهد ليس إلاّ؛ إذ سبق إلى مثل هذا العمل كثير من الباحثين والغيورين في مؤلفات وبحوث في كل قطر من الأقطار العربية؛ إنما لا بأس من المتابعة والإضافة والتدقيق، فالخطب جلل يحتاج إلى التأزر وتكرار المحاولات.
فما هي الفصحى؟ وما هي العامية؟ وكم هي المسافة بينهما؟ وما هو القدر المشترك؟
هل تسعى كل منهما باتجاه الأخرى لتتطابقا أو تتقاربا على الأقل، أم أنهما تتدابران فتسير العامية بعيداً عن الفصحى.
قلنا إن المقام لا يتسع لدراسة الموضوع في جميع المستويات، بل قد يضيق عن التفصيل في مستوى واحد كمستوى المفردات ومنها المعجم، أو المستوى النحوي التركيبي ومنه الإعراب، وهما المستويان اللذان يقع فيهما انحراف اللهجات المحلية عن الفصحى في صورة أظهر، ولذا سنحاول الوقوف وقفة قصيرة تتفق وطبيعة هذا المقال عند بعض الألفاظ والأوضاع التي تتعلق بالمعجم العربي، وقد تكون ذات صلة بالمستويات الأخرى.
ولنعد الآن إلى الفصحى والعامية و إلى السؤال ما هي الفصحى؟
يطلق مصطلح (الفصحى) على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، حيث كانت هذه اللغة اللسان العربي المبين المشترك للعرب جميعاً؛ إذ ترتفع عن اللغات (اللهجات) القبلية لتكون اللغة الرسمية والأدبية، تنشد بها قصائد الشعر في الأسواق الأدبية، وتلقى بها الخطب الدينية والسياسية والاجتماعية في المحافل والمنتديات.
وقد ظل هذا اللسان سائداً مع بعض ـ الاستثناءات ـ إلى أن بدأ اللحن يفشو على الألسنة بسبب الاختلاط بين العرب وغيرهم من الأمم بعد الفتوحات، بالإضافة إلى أسباب وعوامل أخرى.
فقامت الدراسات اللغوية العربية الأولى، ووضعت القواعد والضوابط العامة للنحو العربي باعتماد نص القرآن المدون والمحفوظ في الصدور، بالإضافة إلى الشعر العربي والمعطيات اللغوية التي جمعت من أفواه الأعراب في عمق الصحراء حيث كان يعتقد بصحتها وسلامتها باعتبارها تمثل اللغة المثالية، وذلك حتى نهاية القرن الرابع الهجري، أو نهاية القرن الثاني الهجري بالنسبة لعرب الحواضر. وهذا ما عرف بعد ذلك بعصر الاحتجاج.
وقد سمى بعضهم (1) هذه اللغة الفصحى اللغة المشتركة على أساس أنها جمع واختيار من لغات القبائل العربية التي شهد لها بالفصاحة والقبول ولاسيما قريش وتميم. ونعتقد أن مصطلح (المشتركة) بدل (الفصحى) أقرب إلى الدقة، لأن الفصحى ـ من الفصاحة ـ تعني المبينة أو الأكثر إبانة، وكل لغة بهذا الاعتبار هي فصحى بالنسبة للمتعاملين بها.
والفصحى في حياتنا اليومية هي اللغة الرسمية التي ورثناها والممثلة بلغة القرآن، وقد دونت مفرداتها ووضعت قواعدها الصوتية والصرفية والنحوية التي يفترض أننا مازلنا نتكلم أو نكتب وفقها.
أما العامية فهي اللهجات المحلية أو (القطرية) إن صح التعبير، إذ يتكلم أهل كل قطر من الأقطار العربية لغة ثانية في الاستعمال اليومي، تختلف قليلاً أو كثيراً عن العربية المشتركة (الفصحى) التي تستعمل على المستوى الأدبي والرسمي والتعليمي إلى حد ما، وإن كان هذه اللهجات القطرية تختلف أحياناً في القطر الواحد فتكون هناك جماعات أو جزر لغوية صغيرة أو كبيرة. ف "كل مجموعة إنسانية مهما صغرت لها لغتها الخاصة، فهناك من دائرة الأسرة والمكتب والمصنع ومطاعم الجنود تتولد الكلمات والعبارات والمعاني الهامشية والألفاظ وطرق التعبير الأخرى بهذه البيئات" (2) وربما كان ذلك أشبه بما كان عليه العرب في الجاهلية في المزاوجة بين لغاتهم القبلية واللغة الأدبية، أو اللسان العربي الموحد، ولكن بشكل نسبي، إذ أن الازدواجية اللغوية في عصرنا الحاضر تعني أمراً آخر قد تبعد المسافة فيه بين الفصحى والعامية.
ولكل اللهجات العربية الحديثة يمكن أن تكون ثاراً لأصول لهجات عربية قديمة أكثر مما هي في تطور وانحراف عن الأصل. وقد أكد عدد من الباحثين الذين اهتموا بدراسة اللهجات العربية ذلك(3).
وبما أن اللغة في حركة دائمة من نمو وتغيير نتيجة ظروف وعوامل كثيرة فقد سارت العربية في اتجاهات مختلفة خارج حدود المعطيات والقواعد التي استنبطت بعد دراسة المعطيات اللغوية وما كان من اللغة قبل نهاية عصر الاحتجاج، وأضيف إلى المعجم العربي ـ ولو دون تدوين ـ آلاف الألفاظ الجديدة؛ من المولدة أو المعربة أو المفترضة، وبدأ الشكوى من الانحرافات اللغوية والتوسع في استعمال الفصحى، وتجاوز القواعد ليس على ألسنة العامة فحسب بل وفي كتابات الكتاب والأدباء وقصائد الشعراء، فصار للعربية ثلاثة مستويات في الاستعمال:
الأول وهو المستوى الأرقى، مستوى الفصحى المتمثل في لغة القرآن، وما كان في هذا المستوى الفصيح من اللغة المنطوقة والمكتوبة.
والمستوى الثاني: هو ما يكتب بالفصحى التي دخل فيها من الألفاظ والأساليب وبعض الانحرافات النحوية والصرفية مما يخالف القواعد والمعايير الأصلية وقد أقرت المجامع اللغوية كثيراً من هذه الألفاظ المولدة.
والمستوى الثالث: مستوى اللهجات الدارجة التي اتخذت في كل بيئة عربية جديدة اتجاهاً خاصاً حسب الظروف التي عاشت فيها كل لهجة والقبائل العربية التي كانت قد نزلت بها أثناء الفتوحات، لكن كل تلك اللهجات والمستويات لم تقطع الصلة فيما بينها. وظلت العربية في كل مستوياتها متصلة بروابط قوية أو واهنة ضمن دائرة واحدة، ورغم أن هذه الدائرة ما فتئت تتمطط وتتسع إلا أن جدارها الخارجي لم يتمزق ولم تتحول اللهجات إلى لغات مستقلة بعيدة عن تلك الدائرة، والفضل في ذلك يعود إلى القرآن الكريم بالدرجة الأولى، وإلى القواعد والمعايير النحوية التي ظلت حارساً يرد الشارد ويحمي الحمى، وإلى جهد العلماء الغيورين الذين لم يزالوا ساهرين على خدمة العربية؛ على اختلاف دوافعهم الدينية أو القومية، أو حسبة خالصة لوجه العلم وحده.
وفي المقابل ظهر على الساحة عدد من الباحثين الذين دعوا إلى الخروج على القواعد التي تقيد اللغة ـ في رأيهم ـ أو تحبسها وتعطل حركتها الضرورية لمسايرة ظروف الحياة المتغيرة مما يؤثر سلباً على العربية وعلى العرب، بل وينسب بعضهم تأخر العرب و ركودهم الحضاري إلى ذلك الحجر على لغتهم والمحافظة على أصالتها. وهكذا سار دارسو العربية وعلماؤها في اتجاهات مختلفة؛ فمنهم المحافظون المتشددون الذي يصرون على ضرورة نقاء العربية وبقائها في صورتها التي كانت عليها في الجاهلية وصدر الإسلام. ومنهم المعتدلون الذي يرون أنه لابد من التوسع في استعمال العربية وترقيتها بما لا يفسد نسقها ونظامها العام فيقبلون ما يحتمله نظام العربية من تغيير لا يمس الجوهر.
ومنهم من غالى في الدفاع عما يسمى بالتطوز ورفع الحجر والتخلي عن الالتزام، حتى دعا بعضهم إلى إهمال الفصحى نهائياً وترسيم اللغات واللهجات المحلية، باعتبارها لغات حية تقوم مقام الفصحى التي صارت ـ حسب رأيهم ـ لا صلة لها بالحياة المعيشة.
وإن كنا قد بينا وضع العربية الراهن ورؤية الباحثين وعلماء اللغة لها وكل ذلك معروف ومفصل في الكتب والمؤلفات، فإننا هنا نريد أن نبحث مسألة معينة تتعلق باللهجات العربية الحديثة مادامت هذه المسألة تلقى الاهتمام البالغ في عصرنا هذا. هذه المسألة التي يمكن أن تطرح بصيغة السؤال التالي: هل اللهجات العربية الحديثة، تطور وابتعاد غير منضبط عن الفصحى، لا صلة له بما كان قبل نضوج الفصحى وظهور اللغة المشتركة، أم يمكن رده في كثير من الحالات إلى لهجات عربية قديمة، أو أوضاع سبقت مرحلة الاكتمال المتمثل في العربية الفصحى المثالية ؟
قلنا إن كثيراً من الباحثين قد طرقوا هذا الموضوع وبحثوه وألفوا فيه، وحاولوا إحصاء ما في العامية من ألفاظ فصيحة أو أعادوا كثيراً من تلك الألفاظ والحالات النحوية إلى أصولها العربية ومن الأمثلة على ذلك:
* دكتور إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية ـ ومستقبل اللغة العربية المشتركة.
* الأستاذ سعيد الأفغاني: حاضر اللغة العربية في الشام.
* الدكتورة عائشة عبد الرحمن: لغتنا والحياة.
* الأستاذ عبد القادر الكرماني: اللغة والتجدد.
* الدكتور عبد العزيز مطر: لهجة البدو.
*الدكتور عبد الملك مرتاض: العربية بين الطبع والتطبيع.
*الدكتور عبده الراجحي: اللهجات العربية في القراءات القرآنية.
* الدكتور علي الدسوقي: تهذيب الألفاظ العامية.
* بالإضافة إلى أعمال المجامع اللغوية.
وغير ذلك كثير.
وإذا كنا سنعرض هنا بعض الأمثلة من اللهجات العربية فما هي إلاّ للإشارة والاستشهاد فقط ويمكن الرجوع إلى تلك المؤلفات والبحوث ـ المذكورة سابقاً ـ للوقوف على ما في العامية في كل الأقطار العربية من رصيد لغوي يجعلها وشيجة الصلة بالفصحى.
ولازال البحث والتنقيب مستمرين بغرض تقريب المسافة بين هاته وتلك، والتقليل من وطأة الازدواجية اللغوية، وإن كان عدد من الباحثين يعمل لغاية أخرى.
ونؤكد مرة أخرى أن ما نراه ذكره هنا مجرد أمثلة لا نعتمد مبدأ معيناً في الاختيار، ولا تمثل عملاً ميدانياً منظماً إن هي إلا شواهد في البحث النظري.
ونعود للتأكيد أن ما نذكره هنا مجرد أمثلة لا تقوم على مبدأ معين في الاختيار ولا تمثل عملاً ميدانياً منظماً. وما هي إلاّ شواهد في سياق هذا البحث النظري.
إننا نود التركيز على أن كثيراً من الألفاظ التي تعد من العامية تعود إلى لهجات عربية قديمة.
يقول الدكتور جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام:
"تطلق لفظة (العرب) اليوم على سكان بلاد واسعة يكتبون ويؤلفون وينشرون ويخاطبون بالإذاعة والتلفزيون بلغة واحدة، نقول لها لغة العرب، أو لغة الضاد أو لغة القرآن الكريم.
وإن تكلموا وتفاهموا وتعاملوا فيما بينهم في حياتهم اليومية أدوا ذلك بلهجات محلية متباينة، ذلك لأن تلك اللهجات إذا أرجعت رجعت إلى اصل واحد هو اللسان العربي المذكور، وإلى ألسنة قبائل عربية قديمة وإلى ألفاظ معجمية دخلت تلك اللهجات بعوامل عديدة"(4).
وترى الدكتورة عائشة عبد الرحمن الرأي نفسه تقريباً فنقول:"ومع أن نزول القرآن الكريم كان الخطوة الجليلة الحاسمة في الوحدة اللغوية فقد بقي أثر اختلاف اللهجات في الأحرف السبعة وفي القراءات إلى جانب بقاء اللهجات في نطاق التعامل والحياة اليومية للقبائل، ثم في لهجات الشعوب التي توسعت وتأثرت بلهجات القبائل التي خالطتها(5).
والحقيقة أن شواهد كثيرة تؤيد أن اللهجات العامية الحديثة تعمد إلى أصول لهجات قبائل عربية وقد تطورت هذه اللهجات إلى ما هي عليه الآن. فالباحث اللغوي المعروف د.إبراهيم أنيس يقول:"...... إن تلك اللهجات الحديثة انحدرت من اللهجات القديمة لأن القبائل التي نزحت إلى هذه البيئة لم تكن ـ مع احتفاظ تلك القبائل باللغة النموذجية ـ لغة الأدب والدين".(6)
ويضيف أيضاً:" اللهجات العربية الحديثة في هذه البيئات قد تطورت في نشأتها المختلفة تطورات مستقلة حسب ظروف اجتماعية مختلفة، ومع هذا فقد احتفظت هذه اللهجات الحديثة ببعض الآثار القديمة، حيث يمكن إرجاعها بعد البحث والتدقيق إلى تلك اللهجات القديمة، فيمكن أن يعزى النطق بالقاف في نواحي بني سويف والفيوم للهجة قريش، وإبدال الهمزة عيناً في بعض البداوي المصرية إلى لهجة بني تميم"(7).
وهذه أمثلة من الألفاظ من العامية التي يعد أصلها إلى اللغة المشتركة أو إلى لهجات عربية قديمة ولم نعمد إلى ترتيب هذه الأمثلة لأنه يمكن ترتيبها باعتبارات متعددة. وقد تركناها على تلقائيتها لأنها مجرد شواهد تعتمد العشوائية والغاية منها التمثيل فقط.
* قال، يقول، قل، يقول الصرفيون: إن قال أصلها قوَلَ المضارع: يقول، والأمر: قل هذه الصيغة يقال إنها افتراضية؛ أي أنها صيغة سابقة تطورت إلى الصيغة الحالية، وفي العامية تكاد هذه أن تعود إلى أصلها وخاصة في الأمر؛ إذ يقول السوريون (أول) أي قول. مع الأخذ بعين الاعتبار إبدال القاف همزة في لهجة دمشق، وكذلك في لهجة بعض المناطق في الشام. والقاف لغة قريش وكال لغة البدو.
* باع، يبيع، الأمر: بع اسم الفاعل: بائع، اسم المفعول: مبيع وأصلها مبيوع على وزن مفعول والأمر أصله بيع بالباء، والعامة تنطقها هكذا (بايع) بدل بائع اسم الفاعل، ومبيوع لاسم المفعول على الأصل، وبيع باياء في الأمر، وكذلك الأمر في اسم المفعول (مديون) في العامية. بل مدين في الفصحى، ومديون لغة تميم ( إبراهيم أنيس في اللهجات العربية ص. ).
* في المضارع المبدوء بنون المضارعة في لهجة دمشق وبعض اللهجات العربية الأخرى يكسرون نون المضارعة فيقولون نِكتب نِلعب، وهي لغة بهراء من قضاعة.
* دزّ: بمعنى دفع أو أرسل. في الجزائر يقولون بالعامية (دِز معاهم) والبدو في بعض مناطق الشام يقولون (دزّ) بمعنى أرسل وهي الدَّظ بلغة اليمن.
* لزق بالزاي بدل لسق بالسين هي لهجة دمشق، وهي من لغة ربيعة، وهناك من ينطقها الآن لصق بالصاد، وهذا يذكرنا بالحادثة التي تروي في كتب اللغة حول لغات العرب في " الصقر، أو السقر، أو الزقر).
* أعطى. البدو في بعض مناطق الشام ينطقونها، أنطى بالنون وهو يسمى الاستنطاء في قبائل سعد و هذيل و الأسد.
* في الشام وفي معظم البلاد العربية يكسرون حرف المضارعة عدا الهمزة فيقولون نِلعب بدل نَلعب وهي لغة بهراء من قضاعة على حدود الشام وهذا ما يسمى تلتلة بهراء.
* في اللهجات العربية الحديثة: مثل الشام ومصر يستعمل حرف الباء كسابقة للدلالة على الزمن الحاضر فيقولون بيكتب. ومن الباحثين من يفترض أن هذه الباء هي ما بقي من فعل مساعد كان يستعمل مع المضارع مثل : باقي نكتب...(8).
* في الشام يقولون: بدَي أكتب، وهي أصل فعل بودي، أي أريد. وفي بعض مناطق الجزائر يقولون (باغي نروح) أي أبغى أن أروح أو (يحب يروح) وهو أسلوب عربي يعني (أريد أن أسافر) وهي لغة فاشية في الحجاز يقولون: يريد يفعل.
* ويقولون أيضاً إجا: يعني جاء، بالقلب المكاني وفي الجزائر يقولون "جا" بحذف الهمزة وهذا وذاك من لغات العرب أي القلب والتخفيف أو حذف الهمزة.
* إن ما يعرف بلغة " أكلوني البراغيث" بذكر ضمير الفاعل مع وجود الفاعل اسماً ظاهراً هي لغة عربية توصف بالرديئة وظاهرة الآن في اللهجات العربية الحديثة بشكل ملحوظ مثل (راحو الجماعة) وتنسب إلى قبيلة بلحارث وفقد قال الشاعر
ألم يأتيك والأبناء تنمي
| ||
بما لاقت لبون بني زياد
| ||
* الوصف فعلان مؤنثه فعلى، مثل عطشان وعطشى في الفصحى، وفي اللهجات العربية الحديثة يؤنث على فعلانة: عطشانة، نعسانة.... إلخ وهي لغة بني أسد.
* إن ما يعرب بلخلخانية أعراب الشحر وعمان، يقولون: مشا الله(9) وفي الشام يقولن (ما شا الله حولك) بحذف الهمزة من الفعل "شاء". ولكنهم يقولون "ما شاء الله كان" بالفصحى، في سياقات معينة.
* وكذلك ما يسمى بشنشنة اليمن يجعل الكاف شيناً مطلقاً (لبيش اللهم لبيش) (10).
* وكذلك كشكشة ربيعة (منش وعليش) بدل (منك وعليك)، وهي لهجة إحدى قرى دمشق.
*ركبت علفرس: بدل من (على الفرس) في الفصحى، في الجزائر والشام وبعض الأقطار العربية، وينسب ذلك إلى قبيلة بلحارث (11).
* لفظ الجمْعة بتسكين الميم: لهجة الشام والجزائر ومصر ومعظم الأقطار العربية، وهي لغة تميم(12).
* المِصحف: بكسر الميم لهجة دمشق، وهي لغة تميم، والضم لغة قيس.
* ستى المستعملة اليوم بدل سيدتي يقال (ستي، ويا ست الكل) سمع ذلك ابن الأعرابي (13).
* هو، هي: قال الكسائي أصلها ثلاثة أحرف بالتشديد (هيَّ هوَّ) وهي لهجة الشام وقال بعضهم هي في الأصل لهجة همدان. قال شاعرهم (14):
وإن لساني شهدة يشتفى بها
| ||
وهَّو على من صبه الله علقم.
| ||
* لا النافية: تهمز في لهجة الشام وهي لغة ظئ إذ يهمزون إذا وقفوا عليها فيقولون " لأ ".
* المِصطبة: بكسر الميم في لهجة دمشق. قال الأزهري:"سمعت أعرابياً من فزارة يقول لخادم لـه: ألا إرفع لي عن صعيد الأرض مصطبة أبيت عليها بالليل"(15).
* كلمة (الصآء): في عامية دمشق هي نفسها الزقاق، إذا لاحظنا أن القاف تبدل همزة وأن الصاد والزاي تتبدلان في لغات العرب، كما مر معنا في السقر والزقر والصقر.
وبعد من المشروع أن يُسْألْ ما الفائدة من كل هذا ؟
إن غايتنا التالية أن نؤكد على أن الدعوة إلى ترسيم اللهجات العربية الحديثة والاستغناء عن الفصحى بحجة أنها لغات أخرى عديدة غير الفصحى هي دعوى باطلة؛ إن هذه اللهجات وشيجة الصلة بالفصحى هي منها وتدور في فلكها، ولا ضرورة للتهويل والخوف من هذه اللهجات ومن الازدواجية ما دمنا نحافظ على لغتنا الفصحى المشتركة؛ نكتب بها، ونتخاطب في المستوى الرسمي والأدبي؛ كما فعل أجدادنا من قبل بل كما هو شأن جميع الأمم والشعوب في وقتنا الحاضر.
وقد تبين أن كثيراً مما يدرج تحت اسم العامية أو الدارجة يمكن رده إلى اللغة الفصحى أو إلى إحدى اللهجات العربية القديمة التي تشكلت منها هذه الفصحى بنسب مختلفة، ولكن هذا لا يعني أيضاً التهوين ـ مقابل التهويل ـ وعدم المبالاة إذ أن بإمكاننا رعاية لغتنا باستمرار ورد الشارد منها بواسطة الإعلام والتعليم لتضييق المساحة بدل أن تتسع ونظل نتمنى ونعمل أيضاً لتكون لنا لغة واحدة تجمعنا حتى في مستوى التعامل اليومي. وقد لوحظ أن انتشار التعليم وتعميمه قد أدى في الحقيقة إلى استعمال العامة من الناس كثيراً من الألفاظ الفصيحة ونسيان الألفاظ العامية أو الدخيلة خاصة في الأقطار التي عانت من تسلط الاستعمار وفرض لغته على الشعوب العربية.
الهوامش
(1) إبراهيم أنيس
(2) ستيفن أولمن: دور الكلمة في اللغة ترجمة وتعليق د. كمال بشر، مكتبة الشباب القاهرة 1990 ص.166.
(3) مثل إبراهيم أنيس وعائشة عبد الرحمن وغيرهما.
(4) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام دار العلم للملايين ط.2 مكتبة النهضة بغداد 1976 ص.13.
(5) لغتنا والحياة، معهد البحوث والدراسات العربيةـ مطبعة الجداوي القاهرة 1969.
(6) إبراهيم أنيس في اللهجات العربية، مكتبة الأنجلو مصرية ط.9 القاهرة، ص.11.
(7) نفسه ص.12.
(8) إبراهيم أنيس في فعل اللهجات العربية ص242.
(9) المزهر في علوم اللغة وأنواعها ط.3 دار إحياء الكتب العربية القاهرة ج.1ص222.
(10) المزهر ج.1ص222.
(11) إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية ص.136.
(12) انظر صبحي الصالح دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين ط.10 بيروت ص.66.
(13) كتاب تكملة إصلاح ما تلفظ به العامة للجوالقي والمعرب طهران 1966 ص.29.
(14) إبراهيم أنيس محاضرات عن مستقبل اللغة العربية معهد الدراسات العربية العالمية 1960 ص70.
(15) إبراهيم أنيس اللهجات العربية ص.251.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق