2015/03/24

الضب وبربس به

د. فالح العجمي
هناك عبارة اصطلاحية مستخدمة في لهجات نجد، وفي البيئات الشعبية على وجه الخصوص، تدل على تحذير من تقال له من أن يتجاوز حدوده، إذا كان يلت ويعجن في أمور لا يفقه فيها. فيطلب منه أن يبقي بربسته في ذلك الإطار الذي لا يضر، وأن يترك الشأن الأكبر لمن يفقه فيه؛ وتمام العبارة : [كذا وكذا] وبربس به، أما ... [فاتركه لغيرك ممن يفهم أموره]!
وقد كنا في رحلة إلى القاهرة – رفيقان وأنا – لزيارة معرض الكتاب، في الأيام التي كان فيها الكتاب يُطلب، وتشد إليه الرحال. وفي استراحة المساء، طاف بنا أحد الرفيقين في جولة كلامية – وهو صحفي مسترزق في الصحافة – هنا وهناك، وأدخل شعبان في رمضان، كما يقولون. فأراد صاحبي الآخر أن يصده عن ذلك اللت والعجن، وكان قبلها يتحدث في شؤون الضب، وأثره على تفكير الناس، خاصة في وسط شبه الجزيرة العربية. فقال له بلهجته القصيمية : "الضابو برسبو ... أما ...". فذهلنا – القائل وأنا – بأنه لم يدرك معنى العبارة، مع أنه نجدي أيضاً، وأعياه تقطيعها. فأخذ مرة يعيد : "الض بو بر بس بو" ومرة : "الضابر بسبو"، وغيرها من التقطيعات المضحكة التي لم تكن لتخطر لنا على بال. فأخذ يستعين بي لمساعدته، وأنا غارق في الضحك من منظره البائس، وحالته التي أوقعه فيها صاحبي الماكر، بعد أن كان يحاول أن يستعرض بادعاءاته المعرفة بكل شيء. لكنه في اليوم التالي قد أصبح أكثر هدوءاً، وأقلع – ولو نسبياً – عن عادته السابقة في الادعاء.
ومثل هذا التقطيع الخاطئ المؤدي إلى عدم الفهم يذكرني بما كان يعيده علي أحد المتفيهقين من أن أم كلثوم، أو صاحب كلمات الأغنية التي تغنيها مخطئون في عبارة : "حسيبك للزمن"، وأنه يفترض ألا تكون هناك لام قبل الزمن أي "حسيبك الزمن" (طبعاً بوصفها جملة اسمية من مبتدأ وخبر). فقلت له : هي يا صاحبي جملة فعلية وتقطيعها : "ح أسيبك للزمن" (أي : سأتركك للزمن). فقال : آه، ما فكرت أبداً في أنه فعل. قلت له : لأنك تنطلق من لهجتك أو العربية الفصحى، بينما هي قيلت وغنيت باللهجة المصرية. فقال : تعرف انني كل من قلت له هذه الملاحظة، عندما أسمع هذه الأغنية،
اختلاف التقطيع وأحياناً النبر من عبارة إلى أخرى قد ينقل المعنى من شيء إلى نقيضه، وقد يحرج مستخدم اللغة في بعض المواقف، أو يحقق له طلباً مختلفاً عما أراده من العبارة التي تحولت إلى المعنى المغاير.  وربما نجد في كتب التراث العربي الكثير من الطرائف المتصلة بما ذكرته من مواقف مضحكة أو محرجة.
اما يقول : معك حق، أو يقول : أنت فاضي تصحح أغنية. فأضمرت في نفسي : يبي لك صاحبنا الماكر.
ومن طرائف تلك المقالب، أو المطبات التي يقع فيها بعض أولئك المتفيهقين ما يروى عن قراءة بعض الأسماء، كما في الاسم البدوي "دغيليب"، الذي أخذ أحد الموظفين العرب غير العارفين بطبيعة الأسماء المحلية ينادي صاحبه بما استطاع قراءته من الاسم – مع الكتابة اليدوية وسوء الخط آنذاك – وين الدكتور فيليب؟ ولا أحد يرد، قبل أن يساعده أحدهم بأن الدال الأولى ليست لقباً لهذا الرجل، بل هي من الاسم، وتتبعها "غين" وليست "فاء".
ومثلها النكتة، أو الحكاية المتأخرة عن المدرس – المحلي هذه المرة – الذي أبقى ورقة أحد التلاميذ من العرب الوافدين، لأنه كان خجلاً من قراءة اسمه، وبعد أن انتهت جميع الأوراق، لم يجد بداً من قراءة اسمه المدون : "بدر مضرطه". فصحح التلميذ قراءة الاسم : "بدر مضر طه".
ويمكن أن نختم بفذلكات بعض من يدعي الفهم من العمال البسطاء في أرامكو مع بدء عملها في السعودية، حيث كان أحد رؤساء العمل الأمريكيين يحتسي شيئاً من المشروبات في فترة راحة. فأتاه أحد العمال الفضوليين، وأخذ يتلفت في غرفة الأمريكي، فوجد كأساً فيه مشروب بلون حنطي، فقال له الأمريكي محذراً إياه عندما رآه قد مد يده إلى الكأس : جوز يا عبد الله! (مستخدماً الدارجة العربية في المنطقة)، ففهم منها العامل المسكين الكلمة الانجليزية، فقال، وهو يدردب الكأس : إي والله ما ندور إلا الجوز (juice)، ثم اشتعلت حنجرته حرارة بعد أن صبه فيها دفعة واحدة.
فاختلاف التقطيع وأحياناً النبر من عبارة إلى أخرى قد ينقل المعنى من شيء إلى نقيضه، وقد يحرج مستخدم اللغة في بعض المواقف، أو يحقق له طلباً مختلفاً عما أراده من العبارة التي تحولت إلى المعنى المغاير.

وربما نجد في كتب التراث العربي الكثير من الطرائف المتصلة بما ذكرته من مواقف مضحكة أو محرجة.

ليست هناك تعليقات: