2015/03/14

اللغةُ علاج اللغو



د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
 لم يبقَ في الماءِ مذاقُ الماء، ولم يعد للعقلِ مسارُه القادرُ على الفصل بين وهم النهار وسكون الحصار، وما عاد الناسُ يُحسبون بأرقام هُويّاتهم، وربما وقرَ في بقيةِ الثوابتِ دلالاتُ اللغة التي تربط جمعًا بمفرد وتصل أفرادًا بمتعدد؛ ما دعا باحثًا قديرًا مثل “الدكتور نيكولاسى أوستلر” في كتابه الموسوعي (إمبراطورية الكلمة) لأن يختزل تعدادَ العالم من ملياراته الستة إلى ستة آلافٍ معرّفين بلغاتهم الأولى التي يتفاهمون عبرها. 

** تصنيفٌ مريحٌ لمن يرى الناس في شتات الأقلمة والأدلجة والإثنيّات دون أن يقتنع بها فواصلَ حادةً بين بني الأب والعم، وهو ما جعلنا نحس بملوحة الماء وجموح العقل وسقوط التميز إعلاءً للتمايز. 

** لماذا نرتضي قسمةَ التفرقة ونرفضُ دعوات الوحدة، وهل تستحق الاختلافاتُ المذهبيةُ أن تستهلكنا عداواتٍ واعتداءات، وهل نعي قيمة تغليب اللغةِ وصلًا بين متجانسين لا يحتاجون إلى كثير إلفةٍ ليجدوا أمامهم ميدانًا مشتركًا لحوار يكسر أسوار الحصار؟ 

** اللغة - وفق المعايير العلمية - رابطٌ يفوق كل الروابط في تجذير الانتماءات الوطنية والقومية، ومن المُعاين في الحياةِ المشاهدة أن نجدها وسيطًا فاعلًا في تجسير المسافات مع من نشاركه حروفَها، وقد يتعذر ذلك حين نفتقدها مهما كان الوشيجُ الآخرُ الذي يجمعنا، دون أن يعني ذلك تقليلاً من قيمة ذلك الوشيجِ أو تأثيره. 

** قد نخلص بدءًا إلى ضرورة تجذير مفهوم اللغات أو اللهجات الوسيطة بين أبناء المجتمع الواحد، أو ما يُسمى “اللغة الثالثة” أو “الفُصعامية” لتخفيف مخاطر الأقلمة الساعية إلى تفتيتِ الكياناتِ ذات الأبعاد الجغرافية المتقاربة، وهو ما لم تستطعه اللهجاتُ المحكيةُ التي تزدادُ سلطويةً بين المعتدِّين بانتماءاتهم الضيقة. 

** وفي المغترب الذي يعيشه الطالب والسائحُ مشاعرُ حميمةٌ يصنعها اللسانُ الواحد، وتتخلق به علائق سريعةٌ ومتينة، وإدراكُنا لهذا الرابط وتقويتُه يخففان أسباب التشظي التي تخلقها العوامل الأخرى؛ ما حاول كثير من المؤدلجين تضخيمه حين أعلوا قيمةَ المذهبِ والطائفة على اللسان والبيان فافترقنا عن أهلنا دون أن تبينَ وجوهُ التواصل الأخرى بسبب حراب المذهبية، وكان يكفينا الالتجاءُ لحكمِ الله يوم الفصل ما دمنا غير قادرين على اختيار كلمةٍ سواء مبتدؤها اللغة وليس اللغو. 

** اللغة فكرةٌ وإنسانٌ معًا، وحين يعجز أحدهما ينهضُ الآخر؛ ما يجعلها نقطةَ المفتتح والمختتم، وليتنا ننصرفُ - في مشروعاتنا الثقافية - لتعزيز قيمة اللغة وتوسعة مداراتها؛ فستكون أقوى وسائطِ القربى، وبها سيعلو المشهدُ السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وربما نتصالح قليلاً، وقد تخفُّ كثيرًا دعاوى الإثارة والاستثارة التي يوظّفها المؤدلجون لتفتيت البناء الواحد حين يخترعون منافذَ جديدة للشرذمة، وكلما أُغلق منفذٌ سلكوا آخَر. 

** اللغةُ رايةٌ ورؤية. 
ibrturkia@gmail.com
t :@abohtoon

ليست هناك تعليقات: