د.عدنان علي رضا النحوي
لقد نمت اللغة العربية من خلال تاريخ طويل مرّت به الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق . واستقرت على صورة من القواعد والبناء والبيان في نثرها وشعرها ، وتحدّدت مفهومات مصطلحاتها وتعبيرها ، وأساليب بيانها ، حتى تميّزت بذلك كله بروعة البيان وجمال التعبير وأسر الكلمة ، وحتى أصبحت هذه اللغة العظيمة غنيّة بكلماتها ومشتقاتها وقواعدها وبلاغتها . وأصبحت غنية بنغمتها وموسيقاها ، وأصبح البيان يهزّ العربي وغير العربي ممن عرف العربيّة وأتقنها ، وأصبحت اللغة كنزاً في حياة العربيّ تؤثر في فكره ونهجه .
يقول أرنست رينان صاحب كتاب " التاريخ العام للغات السامية " :
" من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية " العربية " وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى وعند أمة من الرحّل ، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها.." .
لقد كانت اللغة العربية لغة العرب وحدهم قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وقبل بدء الوحي . فمن اللحظة التي نزل فيها الوحي على النبيّ الخاتم باللغة العربية واختار الله سبحانه وتعالى هذه اللغة العظيمة لتكون لغة الوحي والنُبَّوة ، ولغة القرآن الكريم ، منذ تلك اللحظة أصبحت اللغة العربية هي لغة رسالة الإسلام ، لغة الأمة المسلمة مدى الدهر ، لغة كل مسلم .
إِنَّ واقع اللغة العربية اليوم يتأثَّر كثيراً بواقع المسلمين ، فهي تقوى بقوّتهم وتضعف بضعفهم ، ولكنها تبقى في الميدان تصارع التحدِّيات ، تبقى حيَّةً بكل خصائصها مهما ضُيِّق عليها أو غزاها الظالمون ، ومهما اشتدَّ المكر والكيد لتوهينها أو عزلها عن الميدان .
وجميع اللغات تخضع إلى هذه القاعدة ، فهي تقوى بقوّة أُمَمِها وتضعفُ بضعفها ، ولكنها لا تستطيع كلُّها الصمود أمام التحديات التي تظهر أمامها . ويضرب لنا التاريخ أمثلة كثيرة على لغات وقفت ثم تراجعت ، وعلى لغات أصبحت مجرّد تاريخ ، وعلى لغات بادت مع شعوبها .
ولكنّ اللغة العربية تميّزت بخصائص لم تتوافر لأي لغة أُخرى . إِنها تميّزت بخصائص وهبتها القدرة العظيمة على الصمود أمام التحدّيات حيّة قوية ، تدفع وتدافع وتصارع . وبعض هذه الميّزات ينبع من إمكاناتها الذاتيّة التي وهبها إياها الله من خلال مراحل تاريخها ونموّها ، ومنها ما هو نعمة من الله عليها وعلى المسلمين وعلى الناس كافة ، حين اختارها الله لغة رسالته إِلى عباده ولغة دينه ، وحين تعهَّد الله بحفظ الذكر الذي نزل بها .
وتمرّ اللغة العربية اليوم بتحدّيات وصعوبات نابعة من واقع المسلمين ، فلقد فقد الكثيرون من المسلمين اليوم الحافز الإيماني لتعلّم اللغة العربيّة . ظنّ بعضهم أنه يمكن الاستغناء عن اللغة العربية ، وأنه يمكن دراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة بأي لغة أُخرى إذا تُرجِما إليها . فضعفت النية والعزيمة لتعلّم لغة القرآن الكريم والتمسك بها في مناطق كثيرة في العالم الإسلاميّ ، مع ما أخذ المسلمون يعانـون منه من غزو كاسح وفواجع ومآسيَ ، وهزائم في أكثر من ميدان .
ولقد تبع هذه الظاهرة وصاحبها ضعف في التصور الإيماني والتوحيد وضعف في تدبّر منهاج الله وفهمه وممارسته في واقع الحياة .
وقد أدرك الأعداء أهمية اللغة العربية وخطورة منزلتها في الإسلام وفي فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكان من أهم محاولاتهم إِضعاف صلة المسلم بلغته العربية ، وإِضعاف شعوره بضرورة التمسك بها ، وطَرْح أفكار غريبة مريبة تصرف المسلم عن لغة دينه ورسالته في الحياة . واستمرت هذه المحاولات قروناً واستغرقت جهوداً كثيرة ، ومتابعةً متواصلةً دون ملل . فَطُرِحَتْ أفكار لتغيير قواعد اللغة العربية أو بعضها ، وأفكار لتغيير أحرفها وكتابتها ، وأفكار لتغيير الشعر العربي . وكانت هذه المحاولات والأفكار التي تُطْرَح مرتبطة بسائر المناهج والتخطيط الذي يضعونه لغزو العالم الإِسلامي ، وتدمير طاقاته الإِيمانية والفكرية والبشرية وغيرها .
لعلَّ هذا الواقع المؤلم لم يشهد مثله تاريخ المسلمين الطويل ، ولا انحسرت اللغة العربية مثل انحسارها اليوم . ولكننا نسرع بالقول لنبيّن ونؤكد أنها مازالت صامدة في الميدان تجابه التحدّيات كلها ، وأنها ستنتصر ، وينتصر المسلمون ، وتعلو كلمة الله لتكون هي العليا ، تدوّي بها اللغة العربية : الله أكبر ، الله أكبر !
لم يكن المسلمون يسنّون قانوناً عسكرياً أثناء فتوحاتهم يفرضون على الناس به تعلّم اللغة العربية . لم يكن انتشار اللغة العربية في الأرض انتشار قسر وقهر . لقد أقبلت الشعوب كلها على تعلم اللغة العربيّة إقبال شوق ورغبة ، بعد أن أسلمت وآمنت ، وبعد أن عرفت من إيمانها وإسلامها منزلة اللغة العربية في الإسلام . وظلت اللغة العربية تنتشر بين الشعوب سواء أكان المسلمون منتصرين أم مَهزومين . ونَبَغ من الشعوب غير العربية عباقرة في اللغة وأئمة فيها ، حين قدم الإِسلام للشعوب رسالته الربانيّة ، رسالة الإِيمان والتوحيد ، وحين تساوت الشعوب في ظلال هذه الرسالة وفي ظلال العبودية لله رب العالمين .
فلم يكن انتشار اللغة العربية بين الشعوب إلا بحافز إيماني ، يزيده قوة ووضوحاً امتداد السلطان والنفوذ ، وامتداد الدعوة الإسلامية في الأرض . وأصبحت اللغة العربية أحد العوامل الجامعة للأمة المسلمة ، وستظل كذلك على مدى التاريخ .
ولكننا اليوم نشهد واقعاً جديداً يحمل من التحدّيات الشيء الكثير . فقد انحسر سلطان المسلمين ، وتمزّقت ديارهم ، ومُنُوا بالهزائم تلو الهزائم ، وغلب الأعداء على مواقع كثيرة ، وأخذ الإيمان يضعف في بعض النفوس ، والعلم بمنهاج الله يجفّ ويبهت ، حتى غلب الهجر لمنهاج الله لدى كثير من المسلمين :
(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)
[ الفرقان : 30 ]
وامتدت الفتنة في كثير من ديار المسلمين ، وأخذت الفتنة أشكالاً مختلفة متعددِّة ، وتسلَّل الإِحباط إِلى نفوس كثيرة . وتبع ذلك كله ضعف عام لدى المسلمين في اللغة العربية !
فلقد انتشرت اللغات العاميّة ولهجاتها ، وأصبح العامة من العرب أنفسهم لا يعرفون اللغة العربية الصحيحة ، ولا يعرفها كذلك كثير من المثقفين العرب .
وانتشرت الأخطاء اللغوية في بعض الصحف والمجلات ، والكتب وبعض الإذاعات . وفي مناطق كثيرة في العالم الإسلامي غلبت اللغات القومية وانحسرت اللغة العربية أو اختفت ، وضعف الشعور باحترامها وتقدير منزلتها في دين الله ، وضعف الحافز الإيماني والوعي الإسلاميّ بضرورة تعلمها ، وضعفت النيّة تبعاً لذلك وهبطت الجهود . وقد ترى الرجل المسلم ينال أعلى الدرجات العلمية في أبواب شتى من العلوم ، ويتقن من أجل ذلك اللغات الأجنبية ويبذل الجهد الكبير من أجل إتقانها ، حافزهُ في ذلك الدنيا ونيـل الشهادة وما يتبعها من مصالح دنيوية ، ولا يجد في نفسه الحافز الإِيمانيّ لدراسة اللغة العربية ، ولا الحافز الدنيوي .
وقد تجد المفكر المسلم أو الأديب يصبّ فكره وأدبه بلغة أجنبية عنه وعن قومه وعن دينه ، أو بلغته القومية ، بعد أن هبط الشعور والإحساس بضرورة تعلم اللغة العربية ، وهبط الحافز الإِيمانيّ أو اختفى .
ونجد في بعض أقطار العالم الإسلامي أن اللغة العربية قد اختفت ، واختفت حروفها وقواعدها . ونجد أن اللغة الأجنبية ، لغة المحتلّ الظالم الطاغي الذي يحارب الإسلام ، سادت في هذا البلد الإسلاميّ أو ذاك . وانتشرت مع هذه الظاهرة بعض العصبيات الجاهلية ، وبهتت روح الإيمان والاعتزاز بمقوّمات الإسلام ولغة القرآن والوحي .
ونجد كذلك أن بعض المسلمين لا يتكلمون اللغة العربيّة في المؤتمرات العلميّة أو الإسلامية أو الدولية ، بينما نجد آخرون يلتزمون لغتهم القومية في مثل هذه المؤتمرات .
وتنحسر اللغة العربية في الفنادق والمطاعم وغيرها من مواقع السياحة في كثير من أقطار العالم الإسلامي ، وتنحسر كذلك في اللافتات على المحلات التجارية والصناعية وغيرها من المراكز العلميّة والإعلامية .
ومع هذا الانحسار الشديد فإن اللغة العربيّة واجهت هذه التحدّيات بقوة وثبات وصمود ، وسجّلت انتصارات كثيرة في مواقع عديدة . فهناك مسلمون في كلّ بلد إسلامي يصرّون على تعلم اللغة العربية وعلى استخدامها ، سواء أكان ذلك في بلادهم أم في بلد عربيّ يرتحلون إليه لدراسة الإِسلام ودراسة اللغة العربية .
إن أعداء الله لم يلقوا سلاحهم ، ولم يوقفوا مكرهم ضد الإسلام والمسلمين وضد اللغة العربية ، بل على العكس من ذلك ، فإنهم يطوّرون أساليبهم وكيدهم دون ملل أو يأس . وعسى الله أن يردّ مكرهم إلى نحورهم ، وعسى أن يصبح ما ينفقون من أجل ذلك حسرة عليهم .
ولكن يجب علينا أن نضع نهجنا نحن المسلمين ، وأن نفصّل التخطيط لحماية اللغة العربية وإعزازها وإعلاء كلمة الله في الأرض . ومن أجل ذلك يجب أن تعرف الناشئة منزلة اللغة العربية في دين الله ، وواجبها الشرعي على ضوء ذلك .
ومن هنا ندرك مسؤوليتنا في أن ننمّي لدى المسلمين خاصة والناس عامة الشعور والإحساس بضرورة دراسة اللغة العربية ، حتى يفقهوا كتاب الله وسنة نبيه ، وحتى نكون أوفينا البلاغ بما أُنزِل وأدّيْنا الأمانة . فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الناس كافة ما أُنزل إليه ، فإن لم يفعل ذلك فلا يكون قد بلّغ رسالته :
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [ المائدة : 67 ]
ومما يؤكد هذه الحقيقة الهامة أنه عند نقل القرآن والسنة إلى لغة أخرى غير العربية فإن المعاني لا تُسْتَوفَى كما هي مستوفاة باللغة العربية ، وإن الإعجاز الذي يحمله منهاج الله والذي تحدّى به العرب والإِنس والجنّ يفقد كثيراً من خصائصه ، وإِن البيان المعجز المؤثر في النفس يختفي معظم تأثيره ولا يبقى الكلام عندئذ كلام الله ، ولا القرآن قرآناً ، ولا التلاوة تلاوة . وفي اللغة العربية ، وألفاظ القرآن وتعبيراته بها ، ما يتعذّر نقله إلى لغة أخرى . فكلمة الولاء ، وآية ، الإحسان ، التقـوى ، عَرَض هذا الأدنى ، قدم صدق ، وأملي لهم ، إمام ، عاكفين ، وكلمات كثيـرة ، وتعبيرات قرآنية كثيرة أعجزت العرب أن يأتوا بمثلها ، فأنّى للغات غير العربية !
ولّلغة العربية جمال متميّز عن سائر اللغات . إنه جمال الوضوح والدقة في المعنى ، وجمال الظلال الموحاة ، وسائر أبواب الجمال الذي كشف عن بعضه العلماء المسلمين في تاريخ طويل . وسيظل الجمال متجدّداً تتفتح أبوابه مع الأيام . ولا تنطبق قواعد الجمال في اللغات الأُخرى على قواعد اللغة العربية ، فلّلغة العربية جمال آسر هزّ جميع من درسها وعرفها . ولقد هزّت الأدباء والشعراء وهزّت الشعوب .
ونذكر هنا بعضاً من أبيات حافظ إبراهيم من قصيدته التي عنونها : " اللغة العربية تنعى حظها من أبنائها " يسطر فيها معاناة اللغة العربية اليوم :
رَجَعْـتُ لِنفْسي فـاتَّهَمْتُ حصاتي
|
ونـاديتُ قـومي فاحْتَسَبْتُ حياتي
| |
رَمَـوْني بِعـقمٍ في الشباب وليْتَني
|
عَـقِمْتُ فـلم أجْـزعْ لقول عِداتي
| |
ولَـدتُ فلـمَّا لم أجـدْ لعـرائسي
|
رجـالاً وأكْـفـاءً وأدَّتُ بَـنَاتـي
| |
وسِـعْـتُ كـتاب الله لفظاً وغايةً
|
ومـا ضِـقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
| |
فَكَيْفَ أضيقُ اليوم عن وصْف آلةٍ
|
وتـنسيق أسـمـاءٍ لِـمُخْتَرَعَاتِ
| |
أنـا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامِنٌ
|
فـهل سألوا الغوَّاصَ عن صَدَفاتي
| |
أرى كـلَّ يـومٍ بالجـرائد مَـزْلقاً
|
مـن القَـبْرِ يُدْنيني بِغَـيْرِ أنـاةِ
| |
وأَسْمَعُ لِلْكُتَّاب فـي مصر صَيْـحةً
|
فَـأعْـلَمُ أنَّ الصائحـين نُعَـاتي
| |
أَيَهْجُـرني قَوْمي ـ عفا الله عَنْهُمُ
|
إلـى لُـغَةٍ لـم تَـتَّصِـلْ بِـرُواةِ
| |
سَرَتْ لوثَةُ الإفْرنج فيها كَما سَرَى
|
لُـعابُ الأفـاعي في مسيل فُرَاتِ
|
إنَّ الإسلام أعطى اللغة حقها من التكريم وأعطى الإنسان حقه من التكريم ، حين جعل مهمة الإنسان في الأرض أمانة وعبادة وخلافة وعمارة ، حين جعلها ممارسة رسالة الله في الحياة الدنيا ، وحين جعل الوظيفة الأولى للغة حمل رسالة الله وإبلاغها وبيانها :
( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً ) [ مريم : 97 ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق