2015/10/13

مرايا..الآتي بمالم تستطعه الأوائل

بقلم : عبدالله الملحم
إذا أردت أن تعرف لماذا هانت اللغة العربية في موطنها وبين أهلها وأبنائها فماعليك إلا الاطلاع على ما تمخضت عنه عزائم بعض أساتذة اللغة في جامعاتنا، وعندها ستعرف أحد أهم أسباب هوانها على الناس، اللغة العربية مهددة في وجودها، وتعيش أزمة هوية وغربة في موطنها، وبدلاً من مقاومة مهدداتها والذود عن غربتها يخرج علينا د. عبدالرزاق الصاعدي أستاذ لغويات الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، زاعماً اختراع حرف صوتي جديد سماه حرف
(القيف)، وكأن هذا الحرف المزعوم هو الذي سيحل مشاكل العربية ويدعم صمودها، ولعلكم تذكرون خبر الفتى الذي قال لأبي العلاء المعري أنت القائل: وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه/ لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل؟ فقال المعري: أجل، فقال الفتى: أسلافنا جاؤوا بثمان وعشرين حرفاً فزدها واحداً، فأسقط بيده وسكت لا يحير جواباً!

وما سكت عنه المعري قبل أكثر من ألف سنة إقراراً بعجزه تجاسر عليه الصاعدي لهثاً وراء مايحسبه تحقيق مجد علمي، لأن أمجاد الأكاديميين اليوم لم تعد بحسبان بعضهم في الترقيات الأكاديمية التي ينالها كل من هب ودب منهم؛ وإنما بالاكتشاف والاختراع العلمي الذي يهب صاحبه من المجد مالا تمنحه الدرجات العلمية ولو جعلته برفيسوراً، فالدكتور عبدالله الغذامي نال من الشهرة بكتابيه عن:"المرأة واللغة"و"النقد الثقافي" أضعاف ما وهبته الدرجات العلمية، والدكتور الصاعدي يريد أن يقتفي أثره، وما من شيء أزهى بريقاً من أن يكون الأخير زمانه الآتي بما لم تستطعه الأوائل، ومن هنا خرج علينا بما سماه حرف (القيف) الصوتي، ووضع له رسما إملائيا، كما لو كانت الكتابة العربية تعاني شللا وظيفيا وتنتظر اكتشافه المزعوم ليطلقها من عقالها!

وبعيداً عن ثرثرة الصاعدي وتنظيراته المزجاة والمجترة من كتب اللغة التي حاول من خلالها أن يظهر (القيف) كما لو كان نظرية فيزيائية معقدة لا يدركها إلا أصحاب الفهم العميق والذكاء الحاد، فإن تلميذه نوار السلمي عَرّف (القيف) المزعوم في أرجوزة سهلة كأنما كتبها ليحفظها الأطفال، وفي معناه يقول: (القيف) قراءة أثبتها أهل اللغة، ومخرج نطقه مابين القاف الفصيحة والكاف، وإملائياً يرسم منقوطاً من أسفله، ويؤكد السلمي في أرجوزته على أن (القيف):"ليس بالصَّوتِ الفَصِيحْ/ إذْ وَصفُـوهُ بالقَبِيحْ" وبكل اختصار (القيف) ليس حرفاً وإنما: وصف لكيفية نطق القاف الفصحى باللهجات العامية لدى بعض القبائل العربية .

حسناً هل يترتب على فهم تلك الكيفية سلامة النطق بالقرآن الكريم أو إحدى قراءاته ؟! أبداً ! وهو مانبه إليه السلمي بقوله:"فَإنْ تَلَـوتَ الْمُصْحَفَا/ إيَّاكَ أنْ تُقَفْقِفَا" أو يتوقف على فهم تلك الكيفية وضع مصطلحات علمية أو ترجمة وتعريب ؟! أبداً! أو أن لفهم تلك الكيفية دورا في صقل أي موهبة نثرية أو شعرية ؟! أبداً! أو أن فهمها يفيد الإعلاميين والمذيعين ويثري ثقافتهم ؟! أبداً! بل لو إن أحدهم عدل عن نطق القاف الفصيحة لـ(القيف) المزعومة لعدت سقطة عليه، أخيراً هل الإعراض عن فهم تلك الكيفية يجعل المثقف جاهلاً لا يعي خطاباً ولا يفهم بياناً ؟! أبداً! كل ما هنالك أن هناك من يريد الاقتيات على لغتنا ذات الحمى المستباح، كالصاعدي الذي يريد أن يتخذها غرضاً لبناء أمجاد شخصية بأضغاث أحلام واهمة، وآية ذلك أن الصاعدي احتفى بأرجوزة تلميذه السلمي لأنه صدرها بقوله:"القيف في القاف لغة/ أثبتها أهل اللغة/ سماه دفعاً للشقاق/ إمامنا عبدالرزاق" وكأن السلمي بوصفه لأستاذه بالإمامة قد منحه براءة الاختراع المزعوم، ومما يدل على هيام الصاعدي بتلك البراءة التي أراد توثيقها بعيداً عن غواية الشعر، فقد قال في حسابه بتويتر:"صوت القيف وتاريخه في العربية يصلح رسالة ماجستير ولو اختاره طالب جاد فإني سأتنازل له عن الكتابة فيه فأنا في خدمة الباحثين"والمضمر في هذه العبارة أنه لا يريد خدمة الباحثين بقدر مايريد خدمة مجده الشخصي، فكتابة رسالة ماجستير تؤرخ لوضع (القيف) وتنسبه إليه أفضل ألف مرة من أن يكتب فيه وينسبه لنفسه مدعياً اكتشافه !

الصاعدي لا يهرول عبثاً، وقد عودنا في تويتر ألا يغرد إلا في اللغة، ولو احترقت الكرة الأرضية فلن تراه إلا يلاحق مفردات عامية يتساءل عن فصاحتها، ومع ذلك فقد غرد مرة متمثلاً ببيتين لشوقي يقولان:" وكن في الطريقِ عفيفَ الخطا/ شريفَ السماعِ كريمَ النظر. وكن رجلاً إن أتوا بعده/ يقولون مرَّ وهذا الأثر" وهذان البيتان لا أراهما إلا يعربان عما يسكن وجدان الصاعدي عن (القيف)، التي ألهته عن كل مكرمة سينالها لو اشتغل وأشغل غيره بموضوعات أكثر أهمية من (قيفه) المزعومة، التي أراد التمجد بها على حساب لغتنا التي توأد وتهان وتزدرى والصاعدي يسهر الليالي لاختراع مسمى نطق عامي للقاف الفصحى !

 twitter: @almol7em



ليست هناك تعليقات: