2016/03/12

دور المعاجم العربیة في الحفاظ علی سلامة اللغة العربیة

دور المعاجم العربیة في الحفاظ علی سلامة اللغة العربیة
د. حسين مهتدي
یحتل المعجم العربي في نفوس دارسي اللغة العربية منزلة كبیرة، تتمثل خاصة في تلك الرغبة الدفینة لدی الجمیع في حفظ مواده ومفرداته، فإنّ امتلاك قدر كبیر من المفردات اللغویة یشكل ثروة علمیة ولفظیة تمكن المتكلم من المشاركة الفعالة في الحوار والكتابة، حیث إنّ المساهمة في البحث العلمي تتأسس علی هذه الثروة اللغویة. لهذا یكون المعجم أداة من أدوات الثقافة والمرآة التي نری فیها مستوی الارتقاء الثقافي في مجتمع ما. فإذا كانت في هذا المعجم معلومات غیر دقیقة، فهذا یعني أننا ندخل كل هذه المساوئ في أفكار أبنائنا، فهذا یعني من جهة ثانیة أننا نقدم صورة قبیحة عن ثقافتنا وحضارتنا. نری في المعجم علاقة اللفظ و المعنی. للمعجم العربي دور مهم في المجال الدیني، والعلمي، والأدبي، والثقافي، والإجتماعي. فامّا بعد فإنّ ورقة العمل هذه كما یشي عنوانها تعالج دور المعاجم في الحفاظ علی سلامة اللغة العربیة وذلك من خلال الموضوعات التالیة:1- التعریف بالمعجم، 2- أسباب تألیف المعجم، 3- مراحل تألیف المعجم، 4- الدور الثقافي و الإجتماعي للمعاجم، 5- الدور العلمي و الأدبي للمعاجم، 6- الدور الدیني للمعاجم.
كلمات مفتاحیّة: اللغة العربیّة، المعجم، الأدب العربي، الثقافة العربیّة.

 التعریف بالمعجم
المعجم هو كتاب یحتوي علی مفردات اللغة مقرونة بشرحها و تفسیر معانیها علی أن تكون المواد مرتبة ترتیباً خاصاً، و إمّا علی حروف الهجاء أو الموضوع. «المعجم الكامل هو الذي یضم كل كلمة في اللغة مصحوبة بشرح معناها، و اشتقاقها و طریقة نطقها، و شواهد تبیّن مواضع استعمالها» .
ویطلق علی «المعجم» اسم «القاموس» أیضاً و هي تسمیة متأخرة، تُعزی الی تسمیة معجم الفیروزآبادی بـ«القاموس المحیط»، و معناه: البحر العظیم. وصار الاسم «القاموس» علماً علی ذاك المعجم. ومن ثم، اشتهر استعمال القاموس حتی أصبح مرادفاً للكلمة «معجم» تبعاً لكثرة تداول معجم الفیروزآبادي في أیدي المتأخرین، و اعتمادهم علیه. فصار كل معجم لغوي، أو سواه، قاموساً، علی سبیل التوسّع. و الأصل قاموس الفیروزآبادی، ذلك .
متی عُرِفَت كلمة المعجم
ولانعلم بالدقة متی أطلق المعجم علی هذا الاستعمال، ولكن الذی نعلمه أنّ أول مَن استعمل الكلمة رجال الحدیث، و أولَ ما عُرِفَ كان في القرن الثالث، و أول كتاب أطلق علیه اسم المعجم هو «معجم الصحابة» لأبي یعلي أحمد بن علي بن المثنی بن یحیی ین عیسی ابن هلال التمیمي الموصلي الحافظ محدث الجزیرةو قد ولد سنة 210ه و توفي سنة 307ه و ارتدفه أبوالقاسم عبدالله بن محمد عبدالعزیز البغوی المحدث المعروف بابن بنت منیع المولود سنة 214ه و المتوفي سنة 315ه و سمّي كتابیه الذین ألفهما في أسماء الصحابة: المعجم الكبیر و المعجم الصغیر. ثم كثُرَ إطلاقه و استعماله بین من ألفوا في الحدیث، و عنهم أخذه اللغویون .
أسباب تألیف المعاجم العربیّة
یمكن تلخیص أسباب تألیف المعاجم العربیة في الأسباب التالیة: الأسباب الدینیة: و أهمّ هذه الأسباب حراسة القرآن الكریم خوفاً مِن أن یقع فیه خطأ في النطق أو الفهم، و فهم القرآن لایمكن لنا الّا اذا  عرفنا تفسیر كلماته و قد ورد في القرآن الكریم كثیر من الغریب و النوادر و كثیر من الألفاظ التي استغلق فهم معانیها علی الفصحاء من العرب كعبدالله بن عباس و ذلك كانوا یستعینون بكلام العرب و بالشعر لبیان معاني القرآن الكریم.یقول ابن عباس: «إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب ».
بتعبیر آخر نستطیع أن نقول: من اسباب تألیف المعاجم العربیة: العنایة بفهم القرآن الكریم؛ حیث أنّ تفسیر مفرداته یعین علی معرفة معنی آیاته. وذلك بمراجعة المؤلفات في غریب القرآن. ومن الأسباب الدینیة في تألیف المعاجم هي تفسیر الألفاظ الغریبة الواردة في الأحادیث المرویة عن الرسول(ص) و الإئمة المعصومین(ع) و الآثار الواردة عن الصحابة و التابعین فی كتب غریب الحدیث.
الأسباب الإجتماعیة: أولاً: فإنّ حیاة البداوة كانت خلال القرن الثاني قد بدأت تزحف علی الحواضر و معنی ذلك أنّ اـلمَعین الذي كان یستقي منه الرواة قد أوشك علی النُضوب. ثانیاً:كثرة الأمم ذات الألسنة غیر العربیة التي دخلت في الإسلام و اتخذت العربیة لغتها و خَشِيَ العلماء أن یدخل في لغة القرآن ما لیس من كلام العرب، فأقاموا من أنفسهم حُرّاساً علی العربیّة یحفظونها و یبعدون عنها الدخیل.
السبب الثقافي: «فإنّ الرواة و النحاة و اللغویون و في مقدمتهم أبو عمرو ابن العلاء، الخلیل بن أحمد و سیبویه و غیرهم قد تَوَفَّرَ لدیهم حشد هائل من الروایات اللغویة و كانوا یحسون دائماً بالحاجة إلی تسجیلها و تدوین كل حروفها» .
أضف إلی الأسباب السابقة الخوف علی اللغة من الإنقراض بانقراض الحافظین لها، وتدوین اللغة العربیة خشیة ضیاع شيء من مفرداتها لاسیما في فصحائها و من دخول ما لیس من مفرداتها. هذه مِن الأسباب التي حملت العلماء علی العنایة باللغة، عندما اتجهوا الی التألیف اللغوي قصدوا إلی –أیضاً- إلی حشد كل ما وصل إلی علمهم من مفردات اللغة مما كان صحیحاً لاغبار علیه، مع تسهیل الطریق لمن یحب أن یهتدي إلی الكلمة التي یریدها.
مراحل تألیف المعاجم
لم تُجْمَع اللغة العربیة دفعة واحدة، بل مرت بمراحل، و لم یعرف العصر الجاهلی سبیل الجمع، و لم یُعْنَ أحد من أهله بذلك، بل كان جمع اللغة أو العنایة بها و بمفرداتها بعد الإسلام، و لم یكن المعجم أول ما عُرِفَ من التألیف اللغوي، بل سبقته محاولات كانت طبیعیة لم تدع الحاجة إلی غیرها،  یمكننا القول بأنّ الدراسات اللغویة سارت في أربع مراحل:
المرحلة الأولی: غریب القرآن
كان النواة الأولی لتألیف المعاجم هو التألیف في غریب القرآن وتمثل المرحلة الأولی إرهاصاتٍ لظهور معجم جامع في اللغة العربیة بشكلیه العام و المختص؛ ولهذا یری العلماء أنّ جمیع مظاهر المعجم العربي التاریخي من رسائل مفردة، وغریب مصنف، ودلائل إعجاز، و معاجم مختصة أو عامة قد وضعت في أول أمرها تفسیراً و تأویلاً لآیات القرآن الكریم ومعانیه ومجازاته .
 وینسب أول عمل في حقل التفسیر إلی عبدالله بن عباس، وهو غریب القرآن. ثم ألف الإمام أبوسعید أبان بن تغلب الجریري البكري(توفي سنة141ه) كتاباً في غریب القرآن .ثم تتألف المؤلفات التي كتبت في غریب القرآن ومن الذین ذكرت أسماؤهم بعد ابن عباس في تألیف كتب غریب القرآن: أبو محمد یحیی بن المبارك الیزیدي(توفي سنة202ه)- النضر بن شُمَیل(توفي سنة203 ه) – أبوعبیدة مَعمر بن الـمُثنی(توفي سنة 209ه)- الأصمعي(توفي سنة 213ه) .
المرحلة الثانیة: جَمْع الكلمات حیثما اتفق. فالعالم یرحل إلی البادیة ویسمع كلمة في المطر ویسمع كلمة في اسم السیف وأخری في الزرع والنبات وغیرها في صف الفتی أو الشیخ إلی غیر ذلك فیدوّن ذلك كله حسبما سمع من غیر ترتیب إلّا ترتیب السماع.
المرحلة الثالثة: جمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد.
والذي دعا إلی هذا في اللغة – علی ما یظهر- أنهم رأوا كلمات متقاربة المعنی فأرادوا تحدید معانیها فدعاهم ذلك إلی جمعها في موضع واحد وبدءت هذه المرحلة بكتب تؤلّف في الموضوع الواحد فألف أبوزید الأنصاري (توفي سنة215ه) كتاباً في المطر و كتاباً في اللبن و ألّف الأصمعي (توفي سنة 213ه) كتباً كثیرة كل كتاب في موضوع منها كتاب النحل والعسل، و ألّف النضر بن شُمَیل(توفي سنة203ه) كتاباً في خلق الفرس. و یَدخُل ضمن هذه المرحلة المؤلفات الآتیة:
فقه اللغة للثعالبي و المخصص لابن سِیده و یطلق علی هذا اللون مِن الجمع اسم المعاجم الـمُبوّبة أو معاجم المعاني و الموضوعات و من عیوبها أنّ كثیراً من الألفاظ تأتي لمعاني كثیرة و الباحث لایعرف في أیّ الأبواب ذُكرَ مطلبه، و كثیراً مِن الصفات یشترك فیها الكائن الحي سواءا كان انساناً أم حیواناً أم نباتاً، بل هناك من الصفات ما بصعب علی الباحث مبتغاه .
إنّ معاجم المعاني تسمّی أیضاً المعاجم اـلمُبوّبة، و أنها كانت أسبق إلی الظهور من المعاجم المجنّسة، ذلك لأنّ جمع المادة اللغویة قد ترافق مع جمع مادة الأدب .ارتبطت تلك الرسائل اللغویة ببعض مظاهر حیاة العرب في شبه الجزیرة العربیة فكانت الألفاظ التي جمعت فیها نابغةً من البیئة نفسها التي كان یعیش فیها العرب. فقد اهتموا بالأنواء لصلتها بحیاتهم الإقتصادیة، و الإجتماعیة، و كان للخیل و الإبل و النبات أهمیةٌ كبیرةٌ؛ لأنّ حیاتهم قائمةٌ علی الرحلة في طلب الكلأ و الفرار من الجدب.
المرحلة الرابعة
و في هذه المرحلة وضعت المعاجم بحیث یضم المعجم كل الكلمات العربیة علی نمط خاص لیرجع إلیه من یرید البحث عن معنی كلمة أو حقیقتها أو أصلها .سُمّیت هذه المعاجم بمعاجم الالفاظ أو المعاجم المجنّسة. ولایخفی أنّ هذه المعاجم مرتبة ترتیباً صوتیاً أو عادیاً أما المعاجم السابقة و هي التي تسمی بالـمبوّبة مبوّبة حسب المعاني و الموضوعات و المعجم المجنس یلجأ ألیه المرء عندما یخفي علیه المعنی أما المعجم الـمبوّب فیلجأ إلیه لإیجاد الألفاظ التي تعبر عما یدور في الذهن من خواطر و أفكار. وأول معجم لغوی مرتب موسع عرفته العرب و التزم فیه بترتیب مواده هو«كتاب العین» للخلیل بن أحمد الفراهیدي (توفي سنة 170 ه). والجدیر بالذكر أن المعجم جزء من الواقع الاجتماعي للغة، و اللغة كائنٌ حيٌ «تخضع عبر تاریخها الطویل إلی قانون من القوانین الحتمیة، وهو قانون التطور» .
أنواع المعاجم الـمُجنّسة
تتعدد أنواع المعاجم الـمُجنّسة وفقاً للمراحل التي مرت بها:
أولا: ما قام ترتیبه المتسلسل علی الأساس الصوتي و طریقة الترتیب بحسب الحروف الحلقیة، و مقلوبات الكلمة. و أول معجم لغوي سار علی هذا النظام هو «كتاب العین» للخلیل بن أحمد الفراهیدي. ومن المؤلفات المرتبة علی الحروف الحلقیة ومقلوباتها:
1-    البارع في اللغة: لأبي علي اسماعیل بن القاسم القالي البغدادي (توفي سنة 356ه).
2-    تهذیب اللغة: لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري توفي (سنة370ه.)
3-    المحیط في اللغة: لأبي الصاحب اسماعیل بن عبّاد الطالقاني (توفي سنة 385ه).
4-    المحكم والمحیط الأعظم في اللغة: لأبي الحسن علي بن اسماعیل ابن سِیدَة الأندلسي(توفي سنة 458ه).
ثانیاً: مدرسة التقلیبات الهجائیة:
و هذه المدرسة تنسب إلی إبن درید صاحب الجمهرة لأنه هو المؤسس لها. وابن درید سار علی نهج الخلیل في التقلیبات إلّا أنه خالفه في النظام الصوتي، حیث إنّه اتبع نظام الهجائیة العادیة و لكن علی أساس مبدأ الإشتقاق الكبیر .
ثالثاً: مدرسة القافیة:
ومدرسة القافیة سُمیت بهذا الاسم نظراً لأنها تنظر للحرف الأخیر مِنَ الكلمة فتجعله باباً والأول فصلا علی سبیل المثال: كلمة «كبر» توضع في باب الراء فصل الكاف و إلی الجوهري صاحب الصحاح تنسب هذه المدرسة و هذا النظام، لأنه اول من أوجد هذا النظام و أشهر مَن سار علی نظام هذه المدرسة ابن منظور في معجمه لسان العرب و الفیروزآبادی في قاموسه و الزبیدي في تاج العروس وأحمد فارس الشدیاق في الجاسوس علی القاموس .
رابعاً: مدرسة الهجائیة العادیة:
ما قام ترتیبه المتسلسل علی الأساس الهجائي معتمداً الحرف الاول من الكلمة و ردّها الی أصلها المجرّد وتسمّی الآن المدرسة الحدیثة. وسار علی هذا النظام:
1- أساس البلاغة للزمخشري.2- المصباح المنیر للفیومي.3- محیط المحیط للبستاني. 4- أقرب الموارد للشیخ سعید الشرتوني. 5- المنجد للأب لویس معلوف الیسوعي، 6- المعجم الوسیط للمجمع اللغوي المصري.
خامساً: ما قام ترتیبه المتسلسل علی الأساس الأبجدي معتمداً الحرف الأول مِن الكلمة، ولكن من غیر ردّها إلی أصلها المجرّد.سار علی هذا النظام: 1- الرائد للجبران مسعود. 2- المرجع للعبدالله علایلي.
والجدیر بالذكر«كان القرن الأول للهجرة بداءة التألیف اللغوي، و في القرن الثاني بدئ بتألیف المعجمات».
أهمیة المعاجم
دارس اللغة یحتاج إلی استخدام المعجم اللغوي؛ ذلك لأنّ قدرته علی استیعاب المفردات محدودة بمجال ثقافته و مستوی تحصیله؛ اذ قدتعرض للدارس بعض النصوص التي بها بعض الكلمات التي لاتكون قددخلت في محال معرفته من قبل. و مِن الشطط أن یظن الانسان أنّ كل عربي فصیح یُحْتَجُّ بلغته، كان یعرف معنی كل كلمة تقع علی سمعه، ولقد ثبت أنّ الراسخین في فهم اللغة العربیة و فُصَحِها ونوادرها كانوا یجهلون معاني كثیرة من الالفاظ.من هنا یأتي الاحساس بالحاجة ألی المعجم كي یستمد منه بغیته و عن طریقه یستطیع أن یصل ألی مراده. ولیست أهمیة المعجم و الحاجة الیه ولیدة عصرنا الحاضر بل الانسانُ بحاجة ماسة الی المعجم بسبب عجزه و قصور فهمه عن الاحاطة بجمع مفردات اللغة.
الدور الثقافي و الإجماعي للمعاجم: المعجم هو مضمار الذي تتمثل فیه علاقة اللفظ و المعنی. تنوع المعاجم لدی الأمّة و تجددها من إلی آخر و ذیوع استعمالها بین الأفراد أدلة حیویة هذه الأمّة و حیویة لغتها، وعلی هذا فالمعجم أداة من أدوات الثقافة الهامة و المرآة التي تُعَبِّرُ عن مستوی الارتقاء الثقافي في مجتمع ما. فإذا كان هذا المعجم محشواً بمعلومات غیر دقیقة، أو إذا كان یفتقر إلی النظام و المنهجیة و الدقة فهذا یعني أننا ندخل كل هذه المساوئ في عقول أبنائنا، فهذا یعني من جهة ثانیة أننا نقدم صورة مشوهة عن ذواتنا و ثقافتنا و تراثنا. من الأمور التي یجب أن تترسخ في عقولنا أنّ المعجم لیس كتاباً یحتوي علی جذور لغویة فقط، بل هو عالم الكلمات الحيّ الذي یحقق التواصل بین الناس و لهذا یعكس أخلاق الأمّة من كل وجوهها. أمر هام آخر علينا التنبه إليه حين نفكر في صناعة معاجمنا المستقبلية، وهو أن اللغة تتطور وتتغير ولن يستطيع أحد الوقوف في وجه هذا التطور لمنعه، فهي كائن حي يمثِّل التواصل بين الناس، وكل ما نستطيع فعله هو توجيه هذا التطور بحيث يحفظ للغة هويتها وقوانينها الأساسية، يدفع التطور للسير في طريق لا تتمزق فيه أوصال اللغة لتتحول إلى حفنة من اللهجات العامية يستقل بعضها عن بعض لتصبح فيما بعد لغات خاصة.
و یبدو أنّ الاندماج في ثقافة العصر، و الصدور عن ثقافة عربیّة متفاعلة لن یتم الّا من خلال حواریة بین مواد المعجم العربي في ماضیه، و خطواته الراهنة في المجالات الأدبیة و العلمیة المتنوعة. وسبب علو مقام مؤلفي المعجمات أنّ مؤلفاتهم استوعبت ما تفرق في الكتب اللغویة ذات الموضوعات الخاصة التي تجمعها المعجمات، ففیها البلدان و الأعلام و المواضع، وكلُّ ما یتصل بالحیاة و النبات و الجماد، والزمان والمكان، وحالات النفس وما یجول فیها من خواطر و معان.


الدور العلمي و الأدبي للمعاجم:
واشتدّ حرص العرب علی لغتهم عندما اختلط العرب بالعجم، و اختلف الأعاجم إلی بلاد العرب، و فسدت العربیة، وزاد الفساد بازدیاد اختلاط الأمم غیر العربیة بالعرب نتیجة الفتح الإسلامي حتی فسدت لغة المدن، وسقط الأخذ عن أهلها و الاحتجاج بكلامهم، واضطُرَّ المعنیون باللغة أن یضربوا إلی البادیة لتلقی الفصحی من أبنائها الأُصَلاء الذین سلمت ألسنتهم من اللَحْن و العُجمة و لهذا رأینا علماء اللغة والمشتغلین بها أمثال الخلیل بن أحمد، وخلف الأحمر، والكسائي، والنضر بن شُمیل، والأصمعي، و الأزهري، والجوهري، وغیرهم یختلفون إلی البادیة طلبا للفصحی . وكان هؤلاء الأعلام و غیرهم غُیُراً علی العربیة یتلقونها من مصادرها الموثوق بها، فكانوا یحتفلون بالأعراب، و یَقْدُرون الفصحاء منهم حق القدر، و یُسَرّون أعظم السرور إذا وقفوا علی نادرة أو نفیسة من العلم. وكان اتصال العلماء المعنیین باللغة و الغُیُر علیها بهؤلاء الأعراب الفصحاء خیر وسیلة لتدوین اللغة و تألیف المعجمات، وحفظ بناء العربیّة سلیماً قویاً، فهم رأوا اللَحْن الفاحش و الخطأ الـمَعیب یتدسسان إلی لغتهم الكریمة فانبروا إلی حمایتها و الذود عنها و محاربة اللَحْن وتلقّی الصحیح من مصدره الأصیل و تدوینه لیرث مَن بعدهم التراث اللغوي كما خلّفه أصحابه الأُصلاء. لهذا نری آثار هذه الجهود في المعاجم التي ألّفوها. والمیزات العلمیة و الأدبیة للمعاجم هي:
1-    تساعدنا في فهم مفردات القصائد الشعریة الغریبة، والقطع النثریة الغامضة.
2-    ضبط الكلمات الـمُعضلة بالشكل، ومعرفة نطقها الصحیح.
3-    بیان اشتقاقات الكلمة و تصریفاتها و جموعها و مصادرها.
4-    تحدید أماكن بعض المواقع الجغرافیة و المدن التاریخیة.
5-    حَفَظَت لنا كمّاً هائلاً من الشواهد الشعریة لولاها لماتت مع أصحابها الذین لم تجمع أشعارهم.
6-    اكتساب ثروة لغویة كبری؛ لاسیما عند تعدد مدلولات الكلمة و اختلاف معانیها بحسب سیاقها و ذلك دلیل علی سعة و شمول اللغة العربیة، وأنّها لغةٌ حیّةٌ وَلودٌ معطاء لدیها القدرة علی تلبیة مطالب الحیاة الحضاریة.
7-    تنقیح اللغة العربیة عن الخطأ و اللَحْن و تبیین الكلمات الدخیلة و المعرّبة.
8-    ومازالت المعاجم حتی الآن متسعة للتعبیر عن الكلمات الجدیدة و مستعدة ان تتسع وتتسع أكثر من ذي قبل لكل جدید مبتكر و مخترع حدیث. نحن في هذه الأیام علی أبواب نهضة لغویة جدیدة یجب أن نُغذِّها بالإحیاء و البعث و التعریب و الوضع، وتستطیع المعاجم أن تجعل لغتنا مستوعبة كلّ حاجات العصر الحاضر فتكون في هذا السبیل غنیة مثل غناها في مفرداتها، ولتكون نهضتنا اللغویة صحیحة یجب أن تصحب بنهضة أكبر في التألیف و الطبع و النشر، وذلك بأن نستقبل الجدید و نجد له أسماء عن طریق الوضع و التعریب و الاشتقاق مع المحافظة علی الأصول العربیة و قواعدها وأبنیتها.
ومادام أسلافنا وضعوا لبعض المسمیات مئات المفردات، فلیض المعاصرون أسماء للمسیات الحدیثة التي وقفنا أمامها لكثرتها دهشین عاجزین عن استحداث ألفاظ للمخترعات الحدیثة، لهذا المعاجم تستقبل الجدید و تجد أسماء له عن طریق الوضع أو التعریب أو الاشتقاق مع المحافظة علی أصول العربیة وقواعدها وأبنیتها.

الدور الدیني للمعاجم:
من غیر شك أنّ اللغة العربیة بلغت أوج مجدها وارتفعت إلی أعل الذُری في عهد الإسلام الأول لأنها أصبحت جزءاً من الدین، ولكن اهتمام أبنائها كان منذ العصر الجاهلي، إلّا أنّ هذا الاهتمام ازداد بظهور الإسلام، ففي عصر النبوة وصدر الإسلام أخذ الناس یهتمون بالعربیة كثیراً ویحرصون علیها، لأنّه لغة القرآن و الدین و الرسول الصادق الأمین. وبعبارة أخری كانت العنایة الأولی باللغة استجابة إلی ما تَوَجّبه المحافظة علی القرآن الكریم و تفهُّم معانیه من حفظ مادته اللغویة وما ترمی إلیه من دقیق الدلالة و الـمَغْزَی، وصحیح المبنی و المعنی. و مِن الشطط أن یظن الانسان أنّ كل عربي فصیح یُحْتَجُّ بلغته، كان یعرف معنی كل كلمة تصافح سمعه، ولقد ثبت أنّ الراسخین في فهم اللغة العربیة و فُصَحِها ونوادرها كانوا یجهلون معاني كثیرة من الالفاظ.
نذكر هنا مثالا لتبیین الموضوع: قال رسول الله(ص): «إنّ أحبكم إليّ و أقربكم مجلساً مني یوم القیامة أحسنكم أخلاقاً، وأبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً یوم القیامة هم الثرثارون و المتشدقون المتفیهقون؟ قالوا: یا رسول الله قد عرفنا الثرثارین و المتشدّقین، فمن اـلمُتَفَیهقون؟ قال: المتكبرون» . و أمثال هذه الحوادث كثیرة، وكلها تدل علی أنّ العرب لم یكونوا یعرفون معنی كل ما یسمعون مِن ألفاظ الفصحی، بل كانت تغیب عنهم معاني كثیرة و یجهلون معاني كثیرة.
وإذا كان العرب قبل عصر الخلیل بن أحمد لایعرفون المعجم كما نعرفه، فإنّ حاجتهم إلیه لم تكن معدومة، و لئن كانوا لایعرفون المعجمات ولا وجود لها فإنهم كانوا یرجعون إلی أهل العلم و یسألونهم كما نسأل المعجم، و كان أهل العلم باللغة یؤدّون عمل المعجم. و إنّ تفسیر القرآن وشرح غریب الحدیث في عصر النبوة یدلان علی وجود معجم غیر مدوّن و غیر مرتب ترتیب المعجمات الحدیثة، ونقول:«معجم» تجوزاً، لأننا نعرف ما یسمی المعجم. صنیع ابن عباس، صنیع معجمي، فهو قد وقف علی لغات العرب و نوادرها وفُصَحِها ودلالات مفرداتها، و أعانه رسوخه في اللغة و علمه بها أن یفسّر للناس معاني الألفاظ تفسیراً لغویاً .
المعنییون و الذین ألّفوا المعاجم یعدّون عملهم أمراً دینیاً، ویذكرون أمر الرسول(ص) لأصحابه عندما لَحَنَ أحدهم بحضرته:«أرْشَدوا أخاكم فقد ضلّ» . أسباب تألیف المعاجم العربیّة في مجال الدین: 1- العنایة بفهم القرآن الكریم؛ حیث أنّ تفسیر مفرداته یعین علی معرفة معنی آیاته. وذلك بمراجعة المؤلفات في غریب القرآن. 2- تفسیر الألفاظ الغریبة الواردة في الأحادیث المرویة عن الرسول(ص) و الإئمة المعصومین(ع) و الآثار الواردة عن الصحابة و التابعین فی كتب غریب الحدیث.3- معرفة المراد بالألفاظ بعض الفقهاء في المتون، وربطها بالتعریفات الاصطلاحیة عندهم. وذلك في المؤلفات الخاصة بغیر ألفاظ الفقهاء. أو كما یسمیها بعضهم«لغة الفقة».
الخاتمة
ملاحظات في تنظیم المعجم: یمكننا أن نبدي الملاحظات التالیة في المعاجم العربیة:
1-    تخصیص معاجم خاصة للصغار، وعلینا في المعاجم المخصصة للطلاب أن نسقط العربیة اـلمُهمَلَة و نتركها للمعاجم الكبیرة.
2-    علینا أن نذكر، في المعاجم المتخصصة، الألفاظ التي لم تعد مستعملة بالاشارة إلیها، و الألفاظ الدخیلة أیضاً بفعل الاستعمال أو التعریب أو ما إلی ذلك.
3-    في المعاجم المتخصصة، یجب أن یظهر أصل الكلمة و تطوّر معانیها عبر العصور من خلال الاستعمال ثمّ ما اكتسبته من معانٍ جدیدة في المرحلة الأخیرة؛ لأنّ كثیراً من الكلمات دخلت علیها معانٍ جدیدة في مرحلة النهضة ولكننا لانَعثُرُ علیها في أكثر المعاجم.
4-    ويعد المعجم التاريخي واحدًا من أهم المعاجم التي نحتاج إليها، ومهمة هذا المعجم البحث في نشوء المادة وتطوراتها الاستعمالية وتراوحها بين الحقيقة والمجاز، وأن يرد اختلاف اللهجات فيها ويرتبها تاريخيًا بحسب ظهور الصيغة، ويبين أيها هجر على مر الزمان وأيها لايزال باقيًا؟ لأن هذا العمل يبين سيرورة التطور اللغوي، وهذا أمر على درجة من الأهمية في الدراسات اللسانية الحديثة.
5-     أما معاجم المصطلاحات فهي علاج ناجع لما نحن عليه من تعدد الألفاظ الموازية للمصطلح الواحد، فقد كثر عدد المتصدين لوضع المصطلحات العلمية في اللغة العربية، واختلاف المصطلحات للمعنى الواحد غدا داء من أدواء لساننا العربي، فالانفصال السياسي بين الأقطار العربية جعل الأساتذة والمؤلفين والمترجمين يضعون مصطلحات تختلف من قطر إلى قطر آخر، فهذا يعمل تلبية لهوى في نفسه، وتعشقًا لهذه اللغة، وثانٍ يعمل مدفوعًا بالغرور وحب الظهور وثالث ليحقق ربحًا ماديًا، وكلنا يعلم ما يحدثه هذا من بلبلة في فهم المصطلح ومن غربة بين المتعلمين في الاختصاص الواحد تنشأ عن عدم توحيده، والحل لكل هذا وضع معاجم ثنائية اللغة للمصطلحات في كل علم حتى توحدها بين أبناء الأمة الواحدة.

المصادر والمراجع:
1-أبي الحسین ورّام بن ابي فراس، تنبیه الخواطر و نزهة النواظر المعروف بمجموعة ورّام، قم، مكتبة الفقیه، دون تاریخ.
2- أمین، أحمد ، ضحی الاسلام، ط1، بیروت، دار الكتاب العربي، دون تاریخ.
3- الباتلي، أحمد بن عبدالله، المعاجم اللغویة و طرق ترتیبها، ط1، الریاض، دار الرایة للنشر و التوزیع، 1992.
4- بحراني،سید هاشم، البرهان في تفسیر القرآن، ط1، تهران، بنیاد بعثت، 1416ه.
5-بدیع یعقوب، ایمیل، المعاجم اللغویة العربیة بدایتها و تطورها، ط1، بیروت، دار العلم للملایین، 1981م.
6- حمزاوي، محمد رشاد، المعجم العربي، تونس، وزارة الثقافة، المؤسسة الوطنیة، 1991م.
7- عبد المجید الحر، المعجمات و المجامع العربیة، ط1، بیروت، دار الفكر العربي، 1994.
8- عطار،أحمد عبدالغفور، مقدمة الصحاح، ط2،لاطبعة، القاهرة، 1982م.
9- قاسم، ریاض زكي، المعجم العربي بحوث في المادة و المنهج و التطبیق، ط1، بیروت، دار المعرفة، 1987م.
10- محمد أبو سكین، عبد الحمید، المعاجم العربیة مدارسها و مناهجها، ط2، القاهرة، الفاروق الحرفیة للطباعة والنشر، 1981م.
11- نصّار، حسین، تاریخ المعجم العربي نشأته و تطوره، القاهرة، دار المصر للطباعة، 1968.
12- الودغیري، عبدالعلي، المعجم العربي بین التطور و الجمود، مجلة الموقف، السنة الأولى، مارس 1987.

ليست هناك تعليقات: