2018/03/04

العرب.. شتات في العامية مجتمع واحد في الفصحى



نحن كمجتمعات عربية، يفترض أننا نتحدث لغة واحدة، هي اللغة العربية، لكننا تحولنا إلى مجتمعات لا يفهم بعضنا البعض الآخر فكيف ومتى أصبحت لكل دولة عربية لهجة تكاد تصبح لغة منفصلة؟
السبت 2018/02/10

مستقبل اللغة العربية بيد الأجيال الجديدة

تونس – يتحدث قرابة نصف مليار شخص اللغة العربية التي تأتي في المرتبة الرابعة في ترتيب اللغات المستخدمة في العالم قبل الروسية والفرنسية والإسبانية، لكن هل يمكن التأكيد أن جميع هؤلاء العرب يتحدثون ذات اللغة؟

فعلى سبيل المثال يقول المصري “أوي” والجزائري يقول “ياسر” والمغربي يقول “بزاف” والتونسي يقول “برشا” للتعبير عن الكثرة. أما للحديث عن الفعل “يبغي” أو المضارع من المصدر “بغى”، فهذه الكلمة إذا نطقت في الدارجة المغربية أو الجزائرية فهي تعني فعل الحب، الحب بمعناه العربي الفصيح المتخطي للإعجاب، بينما إذا نطقت ذات الكلمة في اللهجات الأعرابية كالسعودية أو الكويتية فهي تعني الرغبة والإرادة.

حمالة أوجه

تضم اللغة العربية أكثر من 34 لهجة محلية، هذه اللهجات هي الأكثر عمومية والتي لا تضم النسخ المحلية المختلفة.

ويمكن تقسيم اللهجات العربية إلى سبع أسر من اللهجات بشكل عام، هذه الأسر هي “المغاربي، السوداني، المصري، الأعرابي، الرافدين، الشامي والأندلسي”.

ويتضح أن التقسيم مبني على الفوارق الجغرافية بشكل أساسي، إلا أن الواقع أكثر تعقيدا من هذا قليلا، فالتقسيم ينبني على ما هو أكثر من ذلك، كالطبيعة المحلية والثقافة.

وتختلف معاني المصطلحات من مكان لآخر، خصوصا أن اللغة العربية “حمّالة أوجه”. فقد تجد لكلمة واحدة العشرات من المعاني التي تختلف من بلد لآخر ومن لهجة لأخرى. مثلا تنفرد اللهجة المحلية المتداولة في الشارع السوري بالكثير من الجمل والمصطلحات البعيدة عن اللغة العربية الفصحى.

وقد ساهمت الدراما السورية خلال السنوات الماضية في تقديم اللهجة السورية إلى الشارع العربي عامة، وجعلت منها لهجة مفهومة لمعظم الناطقين بالعربية، لكن العديد من المصطلحات لا تزال حبيسة الشارع السوري، بينما تشترك أخرى مع لغات الشارع اللبناني أو الفلسطيني أو الأردني.

وفي السعودية التي تعتبر ثاني أكبر دولة عربية والتي تمتد على مساحة مليوني كيلومتر مربع وتجاور سبع دول عربية مختلفة، لهجات كثيرة تختلف وتتباعد كاختلاف المناطق وتباعدها. فعندما يتحدث اثنان من منطقة القصيم، وسط السعودية، بحماسة، لن يفهم الحجازي الواقف بينهما كلمة واحدة.

وعندما يتشاجر اثنان من منطقة جازان من أقصى الجنوب، لن يعرف ابن طريف في أقصى الشمال عما يتحدثان، وكأنهما يتكلمان لغة مختلفة لا تمت للعربية التي يعرفها بصلة.

المجتمعات العربية تحولت إلى أسواق استهلاكية ضخمة تقتني أي شيء بما في ذلك اللهجات

وقد وثّق الباحث السعودي سليمان الدرسوني في كتابه الإلكتروني “معجم اللهجات المحكية في السعودية”، نحو 23 لهجة داخل السعودية وحدها، لكل منها خصائصها ومفرداتها المميزة.

وفي البلدان المغاربية تنقسم أسرة “المغاربي” إلى أربع لهجات تحدّرت من اللغة الأمازيغية وتعكس الثراء الذي تعرفه هذه المنطقة في الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، إلى جانب اللغة العربية التي يتحدّثها الجميع.

وفي العراق تستخدم الأمهات قاموس أدعية يندر مثيلها في العالم العربي على غرار “طاح حظك”. ويستعمل الفعل “طاح” هنا ليعني السقوط، ويضاف إلى الحظ ليدعو لمتلقي هذه الشتيمة أن يسقط حظه ويفشل في ما يفعله.

كما ينتشر أيضا مصطلح “انجَب وسد حلكَك” ويعني “اخرس واقفل فمك”. وتدعو الأمهات أيضا بمصطلح “إسليمة الكرفتك”. و”اِسْليمة” تعني الموت وهي من أصل بابلي وآرامي، أما “كرف يكرف” فهو تحوير لفعل جرف أي أخذ، وبهذا يعني دعاء بأن يأخذك الموت.

وفي لبنان مثلا ينتشر مصطلح “العمى بعيونك” الذي تسمعه مرارا وتكرارا من نوافذ المنازل، لا أحد يفكر في معناه إجمالا، لأنه دخل قاموس التوبيخ المعتاد، وهو حرفيا يعني ما يعنيه.

وفي مصر، لو جلست في مقهى من مقاهي القاهرة، فقد يحييك النادل بقوله “باشا”، وهي كلمة مستعارة من التركية، أو سأمسح “الترابيزة” (الطاولة) وهي كلمة يونانية، وغيرها الكثير، وذلك تأثرا بجالية كبيرة عاشت في مصر أكثر من قرن.

وقال تقرير لصحيفة الإيكونوميست البريطانية إنَّ العرب قد اعتادوا العامية المصرية بدءا من الأربعينات؛ إذ كانت صناعة السينما المصرية ثالث أكبر صناعة على الأرض في فترة الخمسينات.

وجعل فنانون، مثل فاتن حمامة وهند رستم، الجمهور من طرابلس حتى دمشق يضحك ويبكي. وكانت الموسيقى المصرية على القدر ذاته من الشعبية؛ إذ كانت أم كلثوم مشهورة إلى درجة أنَّ حفلاتها الشهيرة على الراديو كانت تجعل أصحاب المحلات يغلقون محلاتهم لسماعها.

تنشأ اللهجات عن اللغات المختلفة وانحرافها شيئا فشيئا عنها وعندما يصبح هذا الانحراف كبيرا عن اللغة الأم. كما تتأثر اللهجات بالعديد من العوامل المختلفة، كالبيئة التي يسكنها أهلها.

ولم ترتق اللهجات العربية إلى لغات بسبب حفظ اللغة العربيّة من خلال القرآن والآثار القديمة وارتباطها ارتباطا وثيقا بالدين الإسلامي، فبالرغم من كون اللغة العربية هي اللغة الأم لجميع الدول العربية إلّا أنّ اللهجات العربية كثيرةٌ، ومن الممكن أن توجد العشرات من اللهجات حتى في الدولة الواحدة.

جابر عصفور: ما لم تتدخل الحكومة وتكون لها خطة مدروسة لن تستطيع العامية المصرية استعادة عافيتها مرة أخرى عربيا

ويقول الباحث المصري إبراهيم أنيس في كتابه “من أسرار اللغة” في طبعته السادسة، الصادرة عن مكتبة الأنجلو المصرية عام 1978، إن السبب في اختلاف اللهجات هو اختلاف الألسن واللغات الأصلية لسكان الدول التي أصبحت عربية حاليا. ويقول أنيس في كتابه “اللهجة لا تعدو أن تكون خروجا عن المألوف الشائع في نطق أمة من الأمم”. ويؤيده عبدالسلام المسدي اللغوي التونسي، في كتابه “العرب والانتحار اللغوي” الصادر عن دار الكتاب الجديد المتحدة عام 2011، قائلا “إننا أمة لا نفتأ نعمل على ضياع هويتنا اللغوية، فاللغات الأجنبية لم تعد العدو الأول للغة العربية، بل حلت اللهجات العامية محلها في هذا العداء الشرس”.

ويقول هادي، أستاذ عربية، إن “اختلاف اللهجات ساهم في تعميق التقسيم والتشرذم العربي”. ويتساءل “لماذا أصبحت القاف العربية المقلقلة عيبا ينظر إلى ناطقيها بنظرة دونية وكيف أصبحت القاف القريبة من الكاف أو المنطوقة ألفا مصدر إبداع وتميز؟”.

ويعد حرف القاف (ق) مشكلة حقيقية في الخليج وبعض مناطق اليمن إذ ينطق (ج) وفي مصر وبعض مناطق الشام ينطق (أ) وفي السودان ينطق (غ) وفي بعض مناطق اليمن وفي بلدان المغرب العربي ينطق (ق).

ويرى نوري، طالب، أن “العامل الأكبر في تغير اللهجات وتعددها هو الاحتلال، فقد حاول تفكيك الشعوب ثقافيا وعلميا وتغيير اللغة أهم هذه الأسباب”. في حين يرى البعض أن اللهجات ساعدت على شرح وتبسيط معاني الفصحى.

ويقول الباحث اللغوي “لعل التأثير السلبي الوحيد أن سهولة العامية وانتشارها، إضافة إلى الاهتمام باللغات الأجنبية، سبب في عزوف الناس عن إتقان الفصحى واتخاذهم لها وسيلة للتخرُّج من المراحل التعليمية فقط، حتى حدثت فجوة اغترابية بين الناس واللغة العربية”.

وطن جديد للعربية

يقول جوناثان فيذرستون المتخصص في العامية المصرية بجامعة إدنبره “العالم العربي شديد التشظي الآن. لا أحد يريد الوحدة ذاتها التي كانت موجودة من قبل”.

لقد استعاض العرب عن لغتهم العربية الفصحى بالعامية المطورة بسبب عوامل الأمية والجهل والتخلف، والتي عمرت لعقود طويلة ولم يواكِبها تطور ولا تحسين في الأداء التعليمي نتيجة ضُعف المنظومة التعليمية وتقادُمِها وتصدع مناهِجِها، لدرجة لم تعد قادرة على مُواكبة التطور العلمي والمعرفي والثقافي العالمي.

ويؤكد خبير “لو نظرنا إلى البرامج التي تبثُّها غالبية القنوات العربية والتي تحظى بنسب مشاهدات فلكية، فسنجدها تتمحور حول المسلسلات الأجنبية المدبلجة (التركية – المكسيكية – الهندية) وهو نمط فرضه الواقع الثقافي المتردي”.

ومؤخرا ظهرت الدبلجة العامية للرسوم المتحركة أيضا، مما يُـنذر بصعود أجيال من الأميين والجاهلين باللغة العربية الماهرين في العامية، لدرجة أن الغالبية الساحقة من المشاهدين العرب لا تستهويهم اللغة العربية.

لقد تحولت المجتمعات العربية إلى أسواق استهلاكية ضخمة تقتني وتستهلِك أي شيء وكل شيء، بما في ذلك استهلاك اللغات واللهجات الوافدة والوسائل والإمكانات التواصلية المختلفة.

ويوصي الخبراء بتعلم الحديث بلهجة مختلفة. ويشرح الأستاذ عبدالقادر الجديدي “مع بداية تعرضك للهجة مختلفة عن تلك التي ترعرعت على الحديث بها، ستبدأ في إدراك أن الأمر أكثر من مجرد اختلاف في الكلمات المستخدمة أو الأصوات، وإنما ينبع الأمر من فوارق حقيقية في كيف ترى كل لهجة من هذه اللهجات العالم من حولها”.

ويضيف “كما يساهم تعلم لهجة جديدة في تواصل أكثر كفاءة بين العرب في ما بينهم، كبداية لخلق تفاهم حقيقي مبني على لغات الحياة اليومية لا العربية الفصحى التي احتكرها السياسيون، وكوسيلة لخلق تواصل أكفأ بين طبقة شبابية عربية لا تعرف الحدود عبر التواصل الإلكتروني اليومي”.

ويؤكد الجديدي “كما ينبني على معرفتك بلهجة عربية مختلفة مكسب كبير، وهو انفتاح أبواب عالم كامل من الثقافة المحلية والشفاهية أمامك. وبالتدريج ومع تعرفك على لهجات مختلفة من أنحاء الوطن العربي، ستكتشف صلات سحرية غريبة بينها وبين بعضها”.

وتؤكد الدراسات العلمية أن اللغة تشكل الطريقة التي تعمل بها أدمغة البشر، وأن اكتساب معرفة بطرق عمل اللهجات المختلفة يعني في نهاية الأمر اكتسابك لمنطق وطريقة جديدة لعمل دماغك، أي طريقة جديدة لرؤية العالم بشكل كامل.

الجوهر مفقود يجب استعادته باستعادة المعنى الثقافي ذاته

تنافس اللهجات

قال وزير الثقافة المصري الأسبق جابر عصفور، لـ”العرب”، إن أسباب تراجع العامية المصرية تعود إلى ازدهار وانتشار الدراما السورية في وقت من الأوقات، وعندما تراجع الإنتاج السوري بسبب الحرب الدائرة، نشطت بعض شركات الإنتاج في توظيف اللهجة السورية في أعمال الترجمة من التركية والهندية والمكسيكية وهكذا.

وأوضح أن اللهجة الشامية لم تكن منتشرة على نطاق واسع أو معتادة لدى الجمهور العربي، لكن الاهتمام بها مؤخرا كان له تأثير كبير في التحول الذي طرأ على هذه اللهجة وباتت مفهومة بل ومطلوبة أكثر من العامية المصرية.

وأكد عصفور التراجع المصري العام في الاهتمام بالقوة الناعمة، على مستوى الكم والنوع. ويقول إن الحكومة لا تملك خطة لاستعادة الزخم كما كان في الماضي، وأن جزءا كبيرا من التقدم الحاصل على الصعيد الثقافي يعود إلى جهود فردية، وما لم تتدخل الحكومة وتكون لها خطة مدروسة لن تستطيع العامية المصرية استعادة عافيتها مرة أخرى.

ولفت الكاتب المصري في تصريحات لـ”العرب” إلى أن هناك ارتباطا بين الحضور المصري عل المستوى الثقافي والغياب على الصعيد السياسي، فعندما يتراجع الأول يتأثر الثاني، والعكس، وهي مسألة معقدة تحتاج إلى تبني مشروع قومي مصري للنهضة الحقيقية، فالجهود الفردية مهما كانت قيمتها لن تؤدي إلى مردودات كبيرة ما لم تقف الدولة خلفها.

وأضاف أن استخدام الدبلجة السورية واللبنانية في أفلام الكارتون والمسلسلات الأجنبية، أعطى انطباعا أن هذا هو السائد والمعتاد على الأذن وجعل استخدام العامية المصرية بعد ذلك أمرا غريبا على المشاهد.

وأشار عصفور إلى أن الصعود الكبير في اللهجات العربية الأخرى، خاصة السورية، لا يعني اندثار اللهجة المصرية، فهي مازالت الأسهل للمشاهد العربي والأكثر قربا لقلبه، والدليل على ذلك أن إعلانات كثيرة تنتهج العامية المصرية لغة لها ومازالت الدراما التي تستخدم هذه اللهجة تنتشر في أغلب القنوات العربية.

من جانبه، قال يسري عبدالله الناقد والأكاديمي بجامعة حلوان (جنوب القاهرة) “لا تزال اللهجة العامية حاضرة في العالم العربي، لكن عين ما حدث بالضبط هو الحضور الواعد للهجات محكية أخرى تخص بلدانا مختلفة”.

وأكد لـ”العرب” أن العلاقة بين الفصحى بتنويعاتها والعامية بلهجاتها المتعددة تتمثل في الجدل الخلاق، وربما بدت العامية المصرية قريبة من الوجدان العربي بفعل التأثير الملهم للقوة الناعمة في وقت سابق، ورأينا العالم العربي يغني مع أم كلثوم ويصدح مع العندليب (عبدالحليم حافظ)، ورأينا السينما المصرية تعبيرا فنيا بليغا عن الإنسان العربي في الريف والحضر والصحراء.

ولفت عبدالله إلى أنه مع تعدد مراكز إنتاج الثقافة في العالم العربي، فضلا عن التراجع الذي لا يمكن إنكاره للثقافة المصرية الرسمية، أصبحنا أمام هذه الظاهرة المشار إليها والتي تعد عرضا لجوهر مفقود يجب استعادته باستعادة المعنى الثقافي ذاته.

وأشار إلى أن التراكم الذي صنعته الثقافة المصرية، إبداعا وفكرا وموسيقى وفنونا بصرية وأدائية، يجب البناء عليه والانطلاق منه صوب أفق أكثر إدراكا للحظة الراهنة، وانفتاحا عليها.





ليست هناك تعليقات: