2021/02/04

هـل أنت جاهـز لـ(الطَّقْطَقة)؟

 

يذكر صاحب اللسان بأنّ مفردة (طَقَق) تعني حكاية صوت حَجر وقع على حَجر، وإن ضوعف يقال: طقْطَق، والطقطقة فعَلَه مثل الدّقدقة، ويذكر ابن الأعرابي: الطقطقة صوت قوائم الخيل على الأرض الصلبة، وطِق: صوت الضفدع إذا وثب من حاشية النهر، ويقال: لا يساوي طِق.

وفي المحكية: (الطقطق) في الملابس هو زِرّ يوضع على آخر مع الضغط ليحدث صوت (طق) ويتميز عن غيره من أزرار الثياب بالشدة والضغط وإحكام القفل، و(الطُّقطِيقة) حشرة الخنفساء التي تحدث صوت (طَق) عند دهْسها وكأنها فقاعة تنفجر مكتومة، ويقول العوام للغضبان: (لا يطِق لك عِرق) يعني: لا ينفجر عرقك من الغضب فتَهلَك! وفي بعض لهجاتنا المحلية يسمّون الضرب المبرح (طَقّ)، وعلى البرد القارس (يُطقطق العِظام) يعني: يصدر لها صوتا من شدة تخلخل البرد، وهنالك (طَقّ الأصابع) وهو إصدار فرقعة بالضغط عليها، و(طق الباب) قرعه، و(الطَّقاقة) ضاربة الدّف والمُغنية خشنة الصوت، وغير ذلك من استخدامات أخرى للمفردة ومشتقاتها، ومن هذا وغيره؛ أجدُ المفردة تدور في تطواف مرير حول: الضّغط والسّحق، والفَرقعة والصوت المرتفع، مصحوبة دوما بألم مبطن أو وجع مستنتج من حصولها أو شُبهة هجوم. 

وهذا ينقلني مباشرة لـ(الطقطقة) اللفظة الدارجة في المَحكية السعودية، وهي تعني المزاح الذي يمارسه المتحدث على السامع بغرض الضحك والاسترواح، لكنها تكون في إطار السخرية من موقف ما، أو من مظهرٍ أو من لهجة، وربّما حتى من أصل ونسب أو مِهنة، وعلى السامع مجاراة هذا (المُطقطِق) الذي ينظر إليه الحاضرون نظرة البطل الذي استطاع ممارسة الضغط بخفة مضحكة، وتتعالى الضحكات والأصوات في هذا المشهد عادة، وعلى المخاطَب (المُطقطَق عليه) الاستجابة عبر مجاراته بطقطقة أخرى، أو إظهار امتعاض مضحك أو ردّة فعل ترفع من وتيرة الطقطقة وموجات الضحك الهستيرية. وقد تتجاوز الأصوات إلى أفعال كالضرب وربما الركض والجري، أو حتى الرقص وفق ما يقتضيه مشهد الطقطقة. ويكون المخاطَب وسط هذا مُراقبًا من قبل الجمهور المستمتع بردة فعله، وكلما ارتفعت وتيرة (البلاهة) التي يظهرها كلما كان هذا أكثر متعة لاستجابة الجمهور. ولا يخلو خطاب الطقطقة من انفعالات غير موزونة من المخاطِب والمخاطَب، بما قد يتطور إلى موجة غضب مفاجئة تقلب الطقطقة إلى معركة لا تحمد عقباها، وقد تنتهي بعراك تتطاير فيه الأحذية وربما الكراسي أو فناجيل الشاي، وفي أسوإ الأحوال يتم اصطحاب مجلس الطقطقة لجهة مسؤولة تفض النزاع!

هذا السلوك الذي يعتمد خطاب (التنمر) متلبسا بصورة مزحة سمجة، يتباهى بها طرف على آخر تطور مع الوقت حتى كاد أن يغدو ثقافة عند الشباب ومتوسطي العُمر، وتدور الكلمة تبريرا له لتصنع منه تقبّلا محمود المظهر، ويجابَه الرافض له بتهمة الحساسية والضعف وقلة الحيلة، مما يجعله يتحمل مزيدا من الطقطقة لاختلافه بشكل ما! ومما ساند هذه (الثقافة) مشاهد الواتس أب وسنابات المشاهير والتوك توك وغيرها من أوعية الإعلام الجديد، وقد قدّمتها مرات على شكل المقالب التي تنتهي بالضحك الهستيري لتغدو مادة شهية يكسر بها المتابِع جدّية يومه، وبلادة نهاره، وربما يستملحها ليحاكيها ويدلي هو الآخر بدلوه فيها عبر تسويقه لمشهد من مشاهد الطقطقة، ويستمر التدوير. 

ومما لا شك فيه أنّ النكتة والمزاح من حلوى الحياة، ورقيق جمالها الذي لا يستغني عنه الأسوياء، لكن «ثقافة الطقطقة» تختلف عن فعل الأسوياء حتما، لما تتركه من ندوب نفسية عميقة، يبتلعها ضحاياها ويعانون من آثارها على المدى القريب والبعيد، خاصة لو كانوا من فئة المراهقين، وهو ما قد ينتج مزيدا من المنتقمين عبر الطقطقة الرجعية على شكل ردّة فعل لما ينزل عليهم من تنمر بغيض، فتستهدف الضحية ضحيةً أخرى أضعف منها تنّفس فيها عن ألمها، أو قد تتطرّف في انعزالها وصمتها، ولا أريد أن أقول دخولها في عالم من البؤس والاكتئاب. وربما بشيء من الإنسانية، يتوقف (المطقطقون) على التنمر، والالتفات إلى بديل طبعي اسمه المزاح دون أذى، ولعلهم ينصرفون عن اللهاث وراء فتات الشهرة عبر تصوير لا أرى فيه غير اللعب بمشاعر الإنسان وامتهانه بل والتنمر عليه بلا رحمة! وكم من طقطقة هذه الأيام تنال من المُعلّمين والأكاديميين بسبب فترة الاختبارات وإجازة منتصف العام، وهي عندي نيلٌ مباشر من هيَبة العِلم وأهله، ونبوءةٌ عن سوء خُلُق جمعيّ يتشيأ بلا عقل، وتنميطٌ قبيح لأعظم مِهنة عرفتها البشرية: مهنة المُعلّم!


https://www.alriyadh.com/1862603

https://www.alriyadh.com/1862603

ليست هناك تعليقات: