الدراسة: الناس في كل بلد من البلدان يكوّنون وجهة نظر هرمية للهجات وفقاً للقبول المجتمعي والثقافي.
تشير بعض الأبحاث إلى أن تكوين انطباعنا الأول عن الأشخاص الذين نلتقيهم لأول مرَّة، لا يستغرق أكثر من 7 ثوانٍ فقط. وفيما يعتمد الانطباع الأول عادةً على الإشارات المرئية مثل الملبس ولغة الجسد والهويات الظاهرة كالعِرق أو الجنس، إلا أن الإشارات الصوتية مثل اللهجة وطريقة نطق الحروف والكلمات يمكنها أن تترك في بعض الأحيان انطباعاً أكبر، وهذا ما أكَّد عليه بالفعل علماء النفس في جامعة فريدريش شيلر في ألمانيا، الذين قالوا إنه في ما يتعلق بالانطباع الأول قد تكون: “اللهجة أهم بكثير من مظهر الشخص الخارجي". فالصوت والطريقة التي تنطق بها الكلمات هي بمثابة وجوه سمعية يمكنها أن تقدِّم كثيراً من الأدلة على هويتنا وأصولنا وخلفيتنا الاجتماعية والثقافية.
دور التباعد الجغرافي
لماذا نتحيَّز ضد لهجات معيَّنة؟
يعود الأمر إلى طفولتنا الأولى، فمنذ اللحظة التي نولد فيها، نسمع أصواتاً نتعرَّف عليها مثل نبضات القلب والموسيقى التي كنا قد سمعناها في رحم الأم وصوت الأم ولهجتها المألوفة. ومنذ ذلك الوقت يتولد لدينا شعور بالثقة بلهجة معيَّنة. ففي إحدى التجارب، كرَّر باحثون كلمة مسجلة على مسامع أمهات حوامل، فتبيَّن، من خلال رسم لأدمغة أطفالهن بعد الولادة، أن الأطفال أظهروا تجاوباً ظاهراً مع تلك الكلمة، بينما لم يتجاوب الأطفال الذين لم تتكرَّر الكلمة على مسامعهم وهم في رحم أمهاتهم. وفي عمر خمسة أشهر فقط، تبيَّن أن الأطفال يفضلون النظر صوب الشخص الذي يتحدث بلهجة مألوفة بالنسبة إليهم أكثر من شخص آخر يتحدث بلهجة غريبة. وبعد عشرة أشهر يتحوَّل هذا التفضيل إلى ثقة.
ففي تجربة أجريت في جامعة هارفارد عام 2007م، وضع الأطفال أمام شاشة شاهدوا من خلالها شخصين، أحدهما كان يتحدث بلهجة مألوفة والآخر بلهجة غريبة. ومن ثم عرض كل متحدث على الأطفال دمية ظهرت فجأة من وراء الشاشة، فكان الأمر أن فضَّل الأطفال الدمية التي قدَّمها الشخص المتحدث بلهجتهم الأصلية. وهذا ما أكَّدت عليه كاثرين كينزلر الباحثة اللغوية التي قامت بتلك الدراسة فخلصت إلى القول بأن الأطفال "يبدأون منذ عامهم الأول الميل نحو المتحدث بلهجة معهودة بالنسبة لهم". ولكن عندما يصبح الطفل في سن العاشرة، يبدأ بربط اللهجات المختلفة بقِيم معيَّنة يستمدها من القوالب النمطية الموجودة حوله في أفلام الأطفال والرسوم المتحركة، حيث يكون للأشرار باستمرار لهجات معيَّنة، ومن القصص والنكات والأخبار التي يسمعها في محيطه الاجتماعي الخارجي. وبمرور الوقت تتجذَّر هذه التحيزات لتتبادر إلى الأذهان تلقائياً مع كل تفاعل جديد مع شخص غريب وفي مواقف مختلفة، عندما يسأل الشخص نفسه: هل أثق في هذا التشخيص الطبي أو أطلب رأياً ثانياً؟ وهل تستحق هذه الفكرة التجارية الاستثمار فيها؟ هل تبدو هذه النصيحة مفيدة أم لا؟ حيث تشير الأبحاث إلى أنه، إلى جانب أمور أخرى، تتعلَّق الإجابة على مثل هذه الأسئلة باللهجة التي نسمع بها مثل هذه الأمور.
التحيُّز واللهجة المعيارية
في كتابها "الإنجليزية مع لكنة" تشير الكاتبة الأمريكية روزينا ليبي-غرين إلى ما تسميه "أيديولوجية اللهجة المعيارية"، حيث يعتقد كثير من الناس أن اللهجة التي تتمتع بأعلى مكانة اجتماعية هي أيضاً الشكل الصحيح الوحيد للغة. والجدير بالذكر أن قيمة هذه اللهجة المعيارية لا تتعلق بعوامل موجودة داخل اللهجة نفسها ولا في أي من الجوانب الصوتية أو التركيبية أو الدلالية لها، وإنما تكون قيمتها مرتبطة بعوامل اجتماعية وثقافية تتعلق بالسلطة التي تفرضها الأوساط الاجتماعية النافذة فيها.
قد تكون مسرحية "سيدتي الجميلة" أو "بجماليون" التي كتبها جورج برنارد شو في 1913م، أبرز الأعمال الأدبية التي تعاملت مع أهمية اللهجة وأشارت إلى اللغة المعيارية من خلال قصة هنري هيغينز الأستاذ في علم الصوتيات الذي عقد رهاناً مع صديقه العقيد بيكرينغ على قدرة هيغينز في تقديم بائعة الأزهار إليزا دوليتل التي تنتمي لطبقة الـ Cockney (الطبقة الدنيا في مجتمع لندن) كسيدة مجتمع مثقفة، بتعليمها كيفية التحدث بلهجة المنتمين للطبقة العليا التي كانت هي بمثابة اللهجة المعيارية في المجتع الإنجليزي. وقد اعتبر البروفيسور هيغينز أن لهجة إليزا الجديدة ستغيِّر هويتها وتمنحها بطاقة دخول إلى طبقة لندن العليا عندما قال في إعادة تشكيله لإليزا: "سأحولها إلى إنسان مختلف من خلال خلق لهجة جديدة لها".
أخيراً، علينا أن نتذكَّر دائماً أنه تماماً كما لا يجب أن نحكم على الكتاب من غلافه، لا يجب أن نحكم على الأشخاص من لهجاتهم. وفي كل مرة نشعر بتحيز لا إرادي ضد لهجة معيَّنة، علينا أن ندرك أن الأمر لا يتطلب منا سوى بعض "الجهد المعرفي"، الذي تحدث عنه عالِم النفس الأمريكي دانيال كانيمان في كتابه "التفكير بسرعة وببطء"، للعمل على التخلص من أي أحكام مسبقة أو قوالب نمطية حاضرة في أذهاننا والنظر إلى ما هو أبعد من وقع اللهجات المختلفة على آذاننا.
رابط المقال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق