2014/12/19

توحيد اللهجات

توحيد اللهجات (*)
للأستاذ محمد رضا الشبيبي
عضو المجمع
تعددت الرسائل والمقالات التي عُنِيَ هذا الشخص الضعيف الماثل هنا بكتابتها في موضوع اللهجات. ومن هذه البحوث ما تناول لهجة خاصة، ومنها ما تناول موضوع اللهجات بوجه عام. ومن القسم الأول رسالة عنوانها "أصول ألفاظ اللهجة العراقية"، نشرت ببغداد منذ عهد قريب. ومن القسم الثاني بحث عنوانه "بين الفصحى ولهجاتها" ألقي في إحدى دورات مؤتمر المجمع اللغوي،
وقد تضمنت مقدمة الرسالة الأولى كلمة تمهيدية عن سنن الحياة العامة في نهوض من ينهض وتخلف من يتخلف من الأمم والجماعات، ونبذة أخرى عن بعض أدوار الصراع القومي بين العرب والدول الأعجمية. وقد ورد في هذه المقدمة ما نصه:
" لا مناص للأمم التي ألقت السلاح مغلوبة على أمرها من أن تخلي مكانها للأمم الغالبة. ولا مفر لها من التقهقر لتتقدم تلك الأمم الفتية بنظمها وأوضاعها الجديدة، كما اتفق للعرب ولغتهم في مرحلة من مراحل تخلف الأمة ورقدتها ويالها من رقدة طويلة ".
تميزت هذه المرحلة بتغلب الدول الأعجمية وانكفاء كثير من العرب إلى بواديهم بعيدين عن مراكز العلم والحضارة. ومع ذلك لم يتهيأ لتلك الدول الأعجمية الغالبة أن تستغني عن العربية. على أن أكثر من لغة من تلك اللغات – كالفارسية والتركية والمغولية أحيانا – شاعت واستعملت إلى جانب العربية في جملة من بلدن الشرق. والفضل في بقاء العربية وتفوقها عائد للثقافة الإسلامية التي تقوم على أساس متين من مدارسة الكتاب وتفسيره ورواية الحديث وحفظه.
ـــــــــــــــ
(*) محاضر جلسات الدورة الرابعة والعشرين، الجلسة الخامسة، جلسة علنية مسائية للمؤتمر بدار الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع في 26/12/1957. ونشر البحث، والتعقيبات التي دارت حوله، بمجلة المجمع، الجزء الرابع عشر، ص 85 – 99، تحت عنوان: اللهجات القومية وتوحيدها في البلاد العربية.
في هذه الفترة أخذت تنشقّ عن الفصحى لهجات متعددة، وهي وإن لم تتغلب على أمها في الكتابة والتأليف إلا أنها طغت عليها في المخاطبات العامة، وفي مجالات الحياة العلمية والشؤون اليومية. ومما زاد في الطين بلة سقوط الهمم وتبلد الأذهان والتقصير في طلب العلم؛ بسبب الدمار الذي ألحقه المغول بالحضارة الإسلامية، فغمر الأمة ليل أليل من الجهالة والبداوة.
تجسم هذا الخطر الداهم خلال عصور الأتراك الأخيرة وهي عصور تميزت بظهور نعرة طورانية غالبة حاول الأتراك بواسطتها إذابة العناصر التابعة للدولة في عنصر الفئة الحاكمة. ومن ثم اتخذت التركية لغة في عالم التعليم وفي القضاء والدواوين الرسمية، إلى هذا ونحوه، مما نَبَّهَ قادةَ الرأي في هذه الديار إلى مناهضة الخطر المحدق بهم، وانبرى من انبرى للدفاع والمقاومة والمطالبة بالحقوق، ودام ذلك كله إلى أن أعلنت الحرب العالمية الأولى. وفي الحرب المذكورة غُلب الترك على أمرهم، وجلوا عن البلاد ليسيطر عليها المستعمرون الغالبون، فعانى العرب والمسلمون في هذه المرحلة أضعاف ما عانوه من إرهاق المرحلة السابقة.
عتبتُ على عَمْرٍو فلما فقدته      وعاشرت أقوامًا بكيتُ على عمرو
وهكذا توالت الانتفاضات على المحتلين الذين خدعوا الأمة بأقوال معسولة ومواثيق كاذبة، وهي انتفاضات معروفة أكرهت الأقوياء الطامعين على الاعتراف ببعض الحقوق للمواطنين. فحصلوا على قسط من السيادة والحكم الذاتي بموجب قوانين أساسية تضمنت احترام حرياتهم وحقوقهم وشخصياتهم القومية.
ولكن دسائس المستعمرين لم تنقطع بعد ذلك، فعمدوا إلى إثارة الفتن لضمان سيطرتهم على شؤون البلاد، وتحكمهم بها، ولا يستثنى من ذلك الشؤون الثقافية.
لا شك أن هذه الفترة التي نعيش فيها الآن فترة انتقال أو انقلاب تناول أبناؤها بالنقد والتحميص كثيرا من مناحي الحياة مادية ومعنوية ومن جملتها اللغة.

فترة شك وإرجاف
ولا يخفى أن العربية مرت أخيرًا بفترة يصح أن تسمى محنة، إذ كثر حولها الإرجاف وأثيرت الشكوك، وحاول بعض شداة الأدب وغيرهم من حملة الأقلام أن يتمردوا على قوانينها في ثورة لغوية جارفة، وأظهروا الدعوة إلى استبدال لهجة التخاطب الشائعة بالفصحى، وقالوا مثل ذلك في الكتابة واحتدمت المناقشات بين فريقين من الأدباء والكتاب. ولنا أن نقول هذا اليوم – مغتبطي-: إن هذه المعركة القلمية ألقت أوزارها، أو هي موشكة، وأن الفصحى خرجت ظافرة موفورة الكرامة بعد ذلك، وأن الدعوة الناشزة إلى استبدال العامية بها منيت بخذلان عظيم، وباءت بخزي فظيع.
هكذا افتضح المرجفون والشَّاكُّون المشكِّكون، على اختلاف طبقاتهم، فهذا مأجور مدسوس كُلِّفَ عبثًا بهدم بناء شامخ وتبديد شمل جامع، وهذا جاهل عاجز حاول ستر جهله وضعفه بما لفَّقه الملفقون حول الفصحى، وثالثة الأثافي مُقلِّد غِرٌّ مأخوذ بكل ما يقوله بعض الأعاجم والمستشرقين في هذا الموضوع.
أجل لنا أن نقول إن المعركة انتهت أو شارفت، وأن لغتنا خرجت ظافرة منها. وهاهو الذوق اللغوي السليم يشيع في ديار العربية بأسرها، وهاهي لهجاتنا في جميع الأقطار العربية أدنى إلى الفصحى منها قبل جيل مضى، وقد مرنت الألسنة على ضرب من النطق الصحيح، ومرد ذلك إلى عوامل في مقدمتها: ازدياد عدد المتعلمين، وتقلص ظل الأمية، وإقبال الناس على المطالعة والقراءة. ومن الغلاة في التحيز إلى العامية من ينادي الآن بالرغبة في التوفيق والإصلاح بينها وبين الفصحى. وهل العامية إلا الفصحى نفسها محرفة أو ملحونة. وفي لهجات التخاطب ألوف من الكلمات يمكن رد الاعتبار إليها وإجازة استعمالها بشيء من التخريج. ويذهب بعض الباحثين من هؤلاء إلى أن التباين بين كثير من الفصيح والعامي مبالغ فيه، وأن الشقة – وإن اتسعت – إلا أن التوفيق ليس بمتعذر، بل هو واقع فعلا. وإصلاح النطق وتقويمه في العالم العربي يسير سيًرا حسنًا – كما مر – ، ومن العوامل الفعالة في هذا التوفيق والنجاح انعقاد المؤتمرات العلمية والثقافية واللغوية في دورات سنوية متتابعة، وتنظيم المواصلات والرحلات. ولا ينكر أثر الصحافة والمذياع ودور النشر والطباعة في هذا الشأن.
اللغة والأهداف القومية
ليست الدعوة إلى استخدام اللهجات الدارجة المشوهة في الكتابة والدراسة بحديثة العهد، فقد مضى عليها جيل أو أكثر، ولكنها دعوة تعثرت وأخفقت، ولم يجدها نفعًا إذاعة بعض البرامج وتمثيل بعض المسرحيات وإنشاد الأغاني والأزجال ولا كتابة بعض  الفصول في الصحف هنا أو هناك، فظلت لهجة عقيمة غير مثمرة.
هذا وقد يكون لي بعض الأغراض السياسية والروح القومية التي ترعرعت في جيل مضى دخل في التناغي بهذه الدعوة، والمناداة باتخاذ لغة قومية مستقلة. والدليل على ذلك أنها دعوة نجمت في وقت واحد مع ضرب من اليقظة والوعي السياسي. ولكن السياسة تتقلب ولا تدوم على حال. وهذه الأهداف الإقليمية الضيقة تجنح إلى الاتساع في هذا اليوم ولا تميل إلى الانكماش.
لقد مضى عصر العزلة: عصر من مميزاته أن ينطوي كل قطر من أقطار الشرق على نفسه، فلا يتصل بغيره، ولا يشاطره الآمال والآلام. نقول مضى أمس بما فيه، وأظلنا عصر آخر له طبيعته ومميزاته، وفي مقدمتها وعي ويقظة ظاهرة بضرورة الاتصال بل الاتحاد؛ فالعرب في شتى أقطارهم اليوم يتلمسون طريقهم إلى الاتحاد والوحدة، ويتناول ذلك وحدتهم اللغوية.
أداة التفاهم
في هذه المرحلة التاريخية التي تجتازها الأقطار المأهولة بالناطقين بالضاد لا مناص من التفاهم ولا تفاهم بالعامية.
وطالما قابلنا إخوانًا لنا من أبناء العرب وإفريقية، وحاولنا محاورتهم، فلم نفهم عنهم ولم يفهموا عنا، وقد يصبح الموقف مضحكًا، فلنوذ عند ذلك بالفصحى، ونلتمس منها العون، وينتهي المشكل ببركة لغة القرآن .. والخلاصة ما كانت العامية – ولن تكون – أداة صالحة للتفاهم في أمة تسعى لتحقيق وحدتها القومية. ولنا أن نقول في مساوئ اللهجات أكثر من ذلك فإنها في القطر الواحد وأحيانًا في الحاضرة الواحدة يسرع إليها الانحلال والانقسام. وقد أكد لي غير واحد من الأساتذة المصريين الذين اتتدبوا للتدريس في مدارس العراق أثر الفصحى البالغ دون العامية في الفهم والإفهام .
خداع اللهجات
علينا ألا ننخدع بالمحسنات التي يلصقها أنصار لهجاتنا بها قائلين: إنها لهجات طبيعية بعيدة عن التكلف خالية عن التحذلق مجردة من الصناعات اللفظية إلى غير ذلك مما يلاحظ وجوده في لغة التأليف والكتابة وهذه أقوال بعيدة عن الصواب. وقد ينخدع بها من ينخدع لأول نظرة حتى إذا نظرنا في هذا الموضوع نظرة فاحصة اتضح بطلانها، لأن الصناعات اللفظية وتكلف المتكلفين من أدباء العربية زال بزوال عصوره المعروفة في تاريخ آداب اللغة المذكورة. وقد انطوت تلك المرحلة، ونحن نجتاز الآن مرحلة أخرى تتميز بنهضة أدبية رائعة، وبأساليب إنشائية خالية من الكلفة والصناعة.
خير الوسائل لتوحيد اللهجات
لسائل أن يسأل بعد هذا: وما هي خير الوسائل التي تضمن لنا توحيد اللهجات، وتغليب لغة فصيحة سليمة عليها؟ والجواب أن هناك مضافًا إلى ما تقدم جملة من الوسائل الفعالة التي توصلنا إلى تلك الغاية. أهمها أولاً: نشر التعليم المنهجي، ومكافحة الأمية، وكثرة سواد المتعلمين المدركين لمكانة اللغة من الدولة والمجتمع والقومية. وثانيًا: توحيد التلفظ وإصلاح النطق على أن تقوم بذلك مراجع فنية مختصة. وفيما يتعلق بالتعليم علينا أن نعنى عناية فائقة بنشره وفرضه، على أن يتناول ذلك علوم الدين بالإضافة إلى علوم الدنيا. وتعتبر الثقافة الدينية الآن ميتة في كثير من المدارس والمعاهد، ولذلك يجب التوفر على إحيائها، وهذا يتوقف على إعداد معلمين أكفاء، يعرفون ما هو الدين وما هي رسالة أهله، والدين ليس مجرد شقشقة لسانية، والدين ليس جدلاً بيزنطيًّا، بل هو في الواقع تقويم سلوك وإصلاح أخلاق. فإذا استطعنا أن نترك أثرًا عميقًا صالًحا في النفوس فقد حققنا طرفًا من التربية الدينية القويمة.
لاحظ أبو حامد الغزالي صاحب الإحياء أن نقاش فريق من المنتسبين إلى الدين والعلم في عصره نقاش يدور على الألفاظ الجوفاء، وعلى العرض دون الجوهر، والقشور دون اللباب، لا على البحث عن الحقائق، حقائق الأخلاق والفضائل. فقال الغزالي للقوم: ابحثوا عن ماهية الصدق والإخلاص والعمل والجد والصبر والجهاد فذلك هو الدين. وهذه هي علوم الدين. ووضع كتابه " إحياء العلوم " تناول فيه بالبحث شؤون الفضائل والأخلاق.
هذه وسيلة من وسائل توحيد اللهجات. وأما الوسيلة الثانية لتوحيد لهجاتنا من حيث إصلاح التلفظ والنطق، فلا يخفى تباين اللهجات المذكورة من هذه الناحية، واختلافها في مخارج الحروف وفي قلبها وإبدالها، وما إلى ذلك مما يكون مشكلة قائمة في سبيل التوحيد. بيدأ أن حلها والعمل على سلامة النطق والتلفظ من توحيده في جميع اللهجات ليس بمتعذر، وذلك بموجب قواعد عامة يعهد بوضعها إلى ذوي الاختصاص.
هذا ولا يسعنا في الختام إنكار الجهد الذي يبذله مجمع اللغة العربية، فإنه مجمع سار منذ إنشائه على خطة واضحة لم تقتصر على المحافظة على تراثنا القديم من اللغة والعناية بسلامتها، بل سار بالإضافة إلى ذلك على نهج بَيِّنٍ اتَّجهَ فيه إلى التخلص من قيود قَيَّدَ المتنطعون الجامدون من اللغويين فيها أنفسهم ولغتهم، فعاقتها عن التقدم ومسايرة اللغات الحية. ومعنى ذلك أن المجمع عدل عن خطة التقليد إلى الاجتهاد في اللغة على قدر الإمكان وذلك في قضايا لغوية وأدبية عدة.
اتخذ المجمع في هذا الشأن مقررات معروفة. ومن أحسن ما قام به مقرراته المتخذة في موضوع الأقيسة اللغوية، وتوسيع أبوابها في عدد من الصيغ والأوزان والجموع التي قصرها القدماء على السماع. وهو قرار يَسَّرَ مهامَّ المعنيين بوضع المصطلحات العلمية الحديثة. وللمجمع أيضًا مقرراته المتخذة في باب المعربات والألفاظ المولدة وألفاظ الحضارة اتخذها بغية إنماء  مادة اللغة العربية.
لم يتخذ المجمع تلك المقررات بغير سند وبدون حجة من اللغة نفسها، وإنما دعته المصلحة إلى ترجيح مذاهب فريق من أئمتها كانت مذاهبهم مرجوحة.

أكتفي بهذا القدر الآن. وختامًا أتقدم إليكم أيها الإخوان بجزيل الشكر على تفضلكم بالحضور راجيًا من المولى أن يتولانا جميعا بتوفيقه؛ إنه ولي التوفيق.

ليست هناك تعليقات: